تأخر صدور قرار مجلس الأمن رقم 2728 عن الدعوة “لتسوية ما” في قطاع غزة رغم مرور 177 يوما على حرب تعد هي الأعلى في المعدل اليومي للقتلى من المدنيين بخاصة الفلسطينيين، ومن المؤكد أن العوامل السياسية هي التي حالت دون صدور قرار أبكر من هذا.
في تقديري، إن جميع الأطراف المحليين والإقليميين والدوليين في هذا الصراع لم يتوقعوا مسار الصراع الذي جرى، بخاصة من الجانب المتعلق بالأوضاع الإنسانية، وهو ما دفع إلى تغيرات تدرجية في بيانات الأطراف كلها، فأية مقارنة بين بيانات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، في بداية المواجهة، مع بياناتهم الحالية تكشف عن بعض التحول، ويكفي الإشارة إلى أن مجلس الأمن فشل في كل المحاولات السابقة في التوصل إلى قرار بسبب الفيتو الامريكي وفشل مرة أخرى بسبب الفيتو الصيني الروسي المشترك.
وتتمثل أهم التحولات التي جعلت الولايات المتحدة تغض الطرف عن الفيتو هذه المرة هي:
أ- الضغط الشعبي في اغلب الدول الكبرى المعارضة لوقف إطلاق النار، ويكفي الإشارة إلى أن عدد المظاهرات في العالم تجاوزت 12700 مظاهرة كان 23% منها في الولايات المتحدة، ناهيك عن تصدع واضح في صفوف الحزب الديمقراطي (حزب الرئيس بايدن) من جناحه اليساري، ومن فئة الشباب ومن العرب والمسلمين الأمريكيين، بل وبعض اليهود مثل حركة الصوت اليهودي للسلام (Jewish Voice for Peace) وحركة “إنْ لم يكن الآن” ( IfNotNow)، ناهيك عن ضغوط بعض القيادات الفكرية الأمريكية وبعض الجامعات ذات الوزن الكبير، وهو ما اقلق الرئيس في سنة انتخابية تشير فيها استطلاعات الرأي إلى تقدمه على منافسه ترامب ولكن بنسبة تتراوح بين 1-2%، وهو ما يعني أن أي تحول في شرائح صغيرة قد يقلب النتيجة.
ب- أن الفيتو الأمريكي شكل موضع نقد من الهيئات الدولية والمفكرين نظرا لفداحة التجاوز على القوانين الإنسانية من قبل القوات الإسرائيلية التي تمارس القتل دون أي تمييز، وهو ما أصبح الموضوع الطاغي في وسائل الإعلام وشهادات المنظمات الدولية من منظمة الصحة العالمية إلى اليونسيف إلى منظمة الأغذية والزراعة.. الخ، ناهيك عن موقف جريء للامين العام للأمم المتحدة غوتيرش في نقده لما يجري في غزة.
ت- القلق الأوروبي من أن فكرة التهجير من غزة التي رددها وزراء إسرائيليون قد تمتد إلى أراضيهم، وبخاصة مع بدء النزوح من الشمال والوسط، وفتح منافذ بحرية قد تتحول وظيفتها لاحقا من نقل المساعدات إلى محطات انتقال وهجرة، وقد عانت أوروبا من هذه المشكلة في العقد الماضي بل وما تزال.
ث- الإحساس الغربي بشكل عام بأن قضية غزة طمست قضايا هامة أخرى بخاصة أوكرانيا، وأفسحت المجال أمام بوتين لتحقيق انجازات جديدة لا لبس فيها ميدانيا، ناهيك عن استغلال صيني للأزمة بزيادة الإيحاء بخصوص موقفها من مشكلة تايوان.
ج- القلق الغربي من أن احتمالات اتساع الصراع ستشكل مرحلة لا تريد دوائر صنع القرار الأمريكي أو الأوروبي الوصول لها، وتعززت هذه الهواجس بعد الاضطراب في النقل البحري في البحر الأحمر، وظهور بوادر على احتمال انتقال الاضطراب إلى المحيط الهندي وصولا لرأس الرجاء الصالح لاسيما أن أنصار الله لوحوا بذلك، إضافة للتوسع التدريجي في جنوب لبنان وفي مشاركة الحشد الشعبي في عمليات ضد القوات الأمريكية والإسرائيلية في كل من سوريا والعراق.
ح- ثمة عامل آخر لا يجوز تجاوزه وهو “سوء إدارة نيتنياهو للمعركة”، لقد فشل في تحقيق الأهداف التي سطرها لنفسه (القضاء على حماس واستعادة الرهائن والسيطرة على غزة)، ناهيك عن توتر داخلي بين العسكريين والسياسيين وبين العلمانيين والحريديم حول التجنيد، بل والتصريحات المتشنجة والتي لم يحتملها حتى بعض القيادات الإسرائيلية، ناهيك عن نقد حاد طال نيتنياهو من قيادات كبرى مثل ايهود باراك وأولمرت وبينيت…الخ.
خ- شكلت محكمة العدل الدولية نقطة ضغط معنوي أخرى على إسرائيل وعلى حلفائها، وانعكس ذلك على صورة إسرائيل دوليا، وهو ما اتضح في التحولات في الموقف الأوروبي وفي الموقف الإفريقي واغلب دول أمريكا اللاتينية، بل إن البيانات الصينية والروسية عززت هذا الجانب، ويكفي الإشارة إلى أن القرار صاغته عشر دول غير دائمة تمثل أقاليم العالم كلها تقريبا، إذا اخذ في الاعتبار أيضا الموافقة الأوروبية بما فيها بريطانيا، وهو ما جعل الفيتو الامريكي في حرج شديد، فآثر بايدن تجنبه.
تلك هي البيئة السياسية التي أفرزت القرار من مجلس الأمن، ولكن ما مضمون القرار:
أولا: يكرر المجلس مطالبته بأن تمتثل جميع الأطراف لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ويدين في هذا الصدد جميع الهجمات ضد المدنيين والأهداف المدنية، وكذلك جميع أعمال العنف والأعمال العدائية ضد المدنيين، وجميع أعمال الإرهاب، وإذ يشير إلى أن أخذ الرهائن محظور بموجب القانون الدولي.
من الواضح أن هذه الفقرة من القرار فيها إدانة “ضمنية ” للطرفين، فهي تدين إسرائيل لاستهدافها الأهداف المدنية وإيصالها الوضع الإنساني في غزة إلى حد “الكارثة” طبقا لنص القرار، كما تدين المقاومة وتدرجها ضمن الإرهاب وتدين اخذ الرهائن، لكن النص تجنب الإشارة المباشرة للطرفين.
ثانيا: يطالب المجلس بوقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان تحترمه جميع الأطراف مما يؤدي إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار، ويطالب أيضًا بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن، فضلاً عن ضمان وصول المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجاتهم الطبية وغيرها من الاحتياجات الإنسانية، ويطالب كذلك الأطراف بالامتثال لالتزاماتهم بموجب القانون الدولي فيما يتعلق بجميع الأشخاص الذين يحتجزونهم.
تمثل هذه الفقرة جوهر القرار، لكن صياغته تخلق التباسا واضحا من حيث:
أ- تحدد الفقرة وقف إطلاق النار بـ”شهر رمضان” أي حوالي أسبوعين، لكنها تعتبر وبشكل ضمني أن الوقف المحدد برمضان هو تمهيد لوقف دائم ومستدام (leading to a lasting sustainable ceasefire)، وهو ما يعني إمكانية التحايل على النص من خلال اعتباره مرحلتين: التمهيد من ناحية والتمديد من ناحية أخرى.
ب- يطالب النص بالإفراج “الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن”، وهو ما ينطوي على إشكال في معنى الفوري، فوقف إطلاق النار يمكن أن تقوم به إسرائيل ليوم واحد وتطالب بالإفراج عن الرهائن، وما أن يتم الإفراج تستأنف القتال بأية ذريعة قد تفتعلها هي، فقد تدعي أن صاروخا أطلق على المستوطنات أو غير ذلك من التحايلات التي تتقنها إسرائيل في هذا الجانب.
ت- ثمة فقرة مهمة تنص على ” التزام الأطراف بالقانون الدولي فيما يتعلق بالمحتجزين لديهم”، (the parties comply with their obligations under international law in relation to all persons they detain) أي أن القرار يميز بين المحتجز والرهينة، (والأرجح أن إسرائيل ستحاول الاستفادة من تفسير أن المحتجز هو الذي تم اعتقاله بعد نشوب الحرب ولا يشمل الأسرى الفلسطينيين قبل الحرب، كما أن النص لا يدعو للإفراج الفوري وبدون شروط عنهم على غرار ما نص عليه بخصوص الرهائن)، لكن النص يشير إلى “الأطراف… ومن يحتجزونهم”، وهو ما قد يعني ان المخاطب هنا هو كل من حماس وإسرائيل، وبالتالي هناك إمكانية للتفسير بأن المحتجزين والرهائن سواء، وهو التفسير الذي يجب ان تتبناه المقاومة.
ثالثا: يشدد المجلس على الحاجة الملحة لتوسيع تدفق المساعدات الإنسانية إلى المدنيين وتعزيز حمايتهم في قطاع غزة بأكمله، ويكرر مطالبته برفع جميع الحواجز التي تحول دون تقديم المساعدة الإنسانية على نطاق واسع، بما يتماشى مع القانون الإنساني الدولي وكذلك القرارين 2712 (2023) و2720 (2023).
وتعني هذه الفقرة:
أ- يمكن لمصر أن تتسلح بهذا النص لفتح تام ومتواصل لمعبر رفح استنادا لدعوة مجلس الأمن واعتبار الفتح استجابة لطلب المجلس “بتوسيع تدفق المساعدات ورفع الحواجز التي تحول دون ذلك”، فإذا كانت مصر تتذرع باتفاقياتها مع إسرائيل لعدم فتح المعبر بالشكل المطلوب فان المجلس الآن يشكل لها غطاء قانونيا، وحتى لو ضربت إسرائيل المعبر فان ذلك سيعد ورقة في يد الطرف المصري لتأكيد خرق إسرائيل لقرار المجلس.
ب- ينص القرار على تعزيز حماية المدنيين، وهو ما يعني فتح المجال أمام عودة النازحين (لأن العودة من الحقوق المتضمنة في القانون الدولي الإنساني).
رابعا: يقرر المجلس إبقاء هذه المسألة قيد نظره الفعلي، وهو ما يعني ضرورة المتابعة، وعليه لا بد من الدعوة لتشكيل لجنة مراقبة لمجريات الواقع.
التداعيات:
لعل ردة فعل الحكومة الإسرائيلية الناقدة للقرار إلى حد تصاعد الإشكال مع الولايات المتحدة ومنع وفدها الأمني من السفر لواشنطن مؤشر على أن القرار لم يترك أمام نيتنياهو إلا أن يواصل التشبث بموقفه ويحرك آلاته الدبلوماسية والدعائية لتبرير استمرار المعارك أو يخضع للإرادة الدولية ، لكن نيتنياهو يقف أمام مآزق عدة فهو محشور بين جدارين داخلي ودولي، أما الداخلي فيتمثل في أزمة حادة مع أهل الرهائن أولا ومع معارضة علمانية لم تعد تطيق معه صبرا ثانيا ومع الحريديم الذي يرفضون تطبيق قوانين الجندية عليهم وهم نسبة لا تقل عن 15-20% من يهود إسرائيل ثالثا، ناهيك عن سجله حول التعديلات القضائية وحول قضايا الفساد التي تلاحقه.. وفشله في تحقيق أي من الأهداف التي كررها أكثر من مرة.. وأما الجدار الدولي فهو الذي افرز قرار مجلس الأمن الحالي، ولعل ترحيب المقاومة الفلسطينية بالقرار مع كل محاذيره التي أشرت لها فان العالم ينتظر ردة فعل نيتنياهو والتي هي أشبه بالمعروفة.
على المقاومة في ظل هذا الواقع أن تعمل على توحيد موقفها من القرار وبشكل علني، وعليها أن تتفق على فهم موحد لمعطيات القرار، وان تستعد للمرحلة الدبلوماسية القادمة في حال عدم تطبيق إسرائيل لوقف إطلاق النار للانتقال من القرار الحالي والذي يميل الفقه الدولي لاعتباره يقع ضمن الفصل السادس من الميثاق إلى التحول لمناقشة التزامات الأطراف في ضوء الفصل السابع، ولعل مطالبة غوتيرش في تصريح له بعد القرار على “ضرورة تطبيقه” يعزز هذا التوجه، لان الأصل في قرارات المجلس هي الإلزام حتى لو خلا من الإجراءات التنفيذية، رغم ادعاء الخارجية الأمريكية بأن القرار غير ملزم بحجة عدم اشتماله على إقرار بان النزاع الموضوع للمناقشة “يهدد الأمن والسلم الدولي”.