استحسن باحثون ومؤرخون تصريح رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، لوسائل إعلام وطنية، حول تمسك الدولة الجزائرية بملف الذاكرة الوطنية وبواجب الوفاء لشهداء المقاومة الوطنية والثورة التحريرية المجيدة.
أكد باحثون لـ”الشعب أونلاين”، أن تصريح رئيس الجمهورية، ينمُّ عن النية الصادقة للسلطات العليا في المضي قدما في هذا الملف، الذي لم يشهد من قبل مثل هذا الإهتمام من أجل إستكمال بناء الجزائر على أسس متينة وتحصينا للأجيال القادمة في مسائل الهوية والتاريخ.
سياسة الدولة في الإهتمام بالذاكرة
اعتبر الباحث أحمد مسعود سيدي علي، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة المسيلة، أن تصريح الرئيس تبون، يندرج ضمن السياق العام لسياسة الدولة الجزائرية في إطار عهد جديد، وهو إقرار ووعد قطعه رئيس الجمهورية ووفى به”.
وقال أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة المسيلة: “تصريح رئيس الجمهورية، إقرار لتوجه أقرته النخبة السياسية، التي حملت على عاتقها إعطاء ومضة جديدة لجزائر جديدة، وثانيا مسألة الاهتمام بالذاكرة شحذ همم المجتمع وبقية النخب السياسية للمضي قدما في ملف الذاكرة وفاء لشهداء ثورة التحرير، يدخل ضمن اطار هذه النخبة السياسية وخاصة في شهر مارس شهر الشهداء، الذي لا يقتصر على الشهداء بن بولعيد أو بن مهيدي، أو عميروش أو لطفي أوسي الحواس، أو حتى امحمد بوقرة، الذين دخلوا ضمن قافلة شهداء الثورة التحريرية، وله دلالاته العظمى”.
ويأمل محدثنا، أن تكون إرادة الاستدامة والاستمرارية في المضي قدما بملف الذاكرة لما له من دلالة استيراتيجية في بناء الأمم، وقال: ” أمة بلا تاريخ مستحيل أن تبني حاضرها ولا يمكنها أن تستشرف مستقبلها القريب أو البعيد”.
وفي رد عن سؤال حول مسؤولية المؤرخ الجزائري في صون الذاكرة الوطنية، أوضح الدكتور أحمد مسعود سيدي علي أن المؤرخ له مسؤول كبقية أطياف المجتمع لأن التاريخ لا يتعلق بإرادة سياسية، وليس تاريخ أشخاص أو منطقة أو حدث، بل هو تاريخ الأمة يبنيه المجتمع”.
وفي هذا الصدد قال: ” توجه السلطة السياسية في إعادة كتابة تاريخ الجزائر اليوم تغير وبدأ يخرج عن اطاره التقليدي، الذي ورثناه بعد الإستقلال. نحن لا ننقص من المجهودات في عهد الرؤساء السابقين الذي تعاقبوا على حكم الجزائر، لكن من الضروري اليوم بمكان الإهتمام بكل التواريخ، أي التأريخ لكل المناطق والشخصيات ولكل المعارك والوقائع، التي بنت تاريخ الأمم”.
وأضاف محدثنا أن المؤرخ اليوم عليه أن لا يتبنى تاريخ ما، عليه تبني تاريخ أمة، وأن لا يكون قاضيا، بل يُنصف في الكتابة التاريخية، ويسجل ويعيد تركيب هذه الأحداث التاريخية بموضوعية، لكي يعيد بها كتابة تاريخ هذه الأمة ضمن منظور وطني.
وأشار الباحث أحمد مسعود إلى أن السنوات الماضية كانت فيها نوع من العتمة والإقصاء وتهميش لمنطقة وحدث تاريخي ما ولشخصية ما، لكن اليوم أصبح الباب مفتوحا للكثير من القضايا والمواضيع، التي يطرحها المؤرخ الجزائري، لكي يبني بها إعادة كتابة التاريخ الجزائري بما يخدم تاريخ الأمة، وتجنب تشويش الذاكرة.
على المؤرخ تجنب قضايا لا تخدم البلاد
ويرى الأستاذ الجامعي أن رسالة المؤرخ الجزائري اليوم هي عدم الإنسياق وراء أجندات عالمية تخدم مصالح الغرب وأطراف حاقدة على الجزائر، تشوش على الذاكرة الجماعية للمجتمع الجزائري، من خلال استعمال أسلوب المفاضلة بين شخصية ثورية أو إقصاء منطقة أو أحداث ومعارك.
وقال: ” هي حلقة فارغة تثير ضبابية لدى بعض الدارسين والمهتمين بتاريخ هذه الأمة، وبالتالي يستغلونها سياسيا لتمرير أجندات خارجية. القضية ملقاة على عاتق المؤرخ بالدرجة الأولى بعدم الإنسياق وراء مسألة التشويش على الذاكرة، وعليه تجنب القضايا، التي لا تبني وما أكثرها”.
وأضاف: ” الشهيد العربي بن مهيدي، ليس مقتصرا على منطقة عين مليلة، هو أيقونة ورمز لهذه الأمة، ويكفي الرجوع الى أبناء هذا الجيل اليوم. في الإبتدائيات حين تُحدث تلميذا عن الشهيد بن مهيدي، يقشعر بدنه، والمواطن الذي يعاني قضايا اجتماعية، عندما تحدثه عن رمز من رموز الثورة يقف بافتخار، ويعلم أن الاستقلال لم يأت سدى بل بتضحيات الشهداء”.
من جهته، نوه المؤرخ الأكاديمي البروفيسور مزيان سعيدي، أستاذ منتدب مكلّف بتدريس التّاريخ العسكري والاستراتيجية العسكرية، بالمدرسة العسكرية بسدي فرج، بمجهودات رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، في صون الذاكرة الوطنية وفاء لرسالة الشهداء، وقال إن ملف الذاكرة لم يحضى من قبل بهذا الإهتمام الكبير كما في السنوات الأخيرة منذ إعتلاء رئيس الجمهورية سدة الحكم، وهو ما إعتبره أمرا إيجابيا.
وفي هذا الصدد، ثمن الأكاديمي ترسيم الثامن ماي من كل سنة يوما وطنيا تخليدا لشهداء مجازر الثامن ماي 1945، هذه الجريمة التي لا يمكن محوها من ذاكرة الجزائريين، وقال إنها من بين الخطوات الإيجابية في الإهتمام بالذاكرة الوطنية.
وتحدث عن مسائل متعلقة بإسترجاع الأرشيف الوطني وبقية جماجم شهداء المقاومة الشعبية، وملف التفجيرات النووية في الجزائر وما نتج عنه من آثار خطيرة على الإنسان بظهور أمراض سرطانية، ما يزال سكان الجنوب يعانون منها وتلوث بيئي، ويرى بضرورة تسريع معالجتها، وتقديم تقارير دورية عن عمل اللجنة الخماسية المكلفة بهذا الملف.
وأشار المؤرخ، في معرض حديثه إلى أنه من المستحيل كتابة تاريخ مشترك بين الجزائر وفرنسا، لوجود بحر من جرائم الإبادة الجماعية التي أرتكبت في حق الجزائريين من 1830 الى 1962، لا يمكن للتاريخ محوها، وشبهها بما يحدث اليوم في غزة من جرائم الكيان الصهيوني.
اقتراح معهد عالي لكتابة التاريخ
وفي هذا الصدد، دعا البروفيسور مزيان سعيدي إلى إنشاء معهد عالي لكتابة التاريخ الوطني تشرف وزارتي التعليم العالي والبحث والعلمي والمجاهدين وذوي الحقوق، عليه، بالتنسيق مع وزارة الثقافة، على أن يضم فرقا بحثية من مؤرخين مختصيين، مهمتهم إنتاج دراسات أكاديمية وبحوث في تاريخ الجزائر، عن كل حقبه من التاريخ القديم إلى غاية إندلاع ثورة أول نوفمبر 1954، خاصة وأن هناك مؤرخين كبار مثل ناصر الدين سعيدوني، والمرحوم أبو القاسم سعد الله، مولاي بلحميسي، موسى لقبال، وجمال قنان، تركوا إنتاجا علميا كبيرا في مجال التاريخ تساعد الجيل الحالي من الباحثين في دراساتهم.
وشدد الأكاديمي على ضرورة أن يُعهد ملف الذاكرة لمختصيين في التاريخ، الأجدر في دراسة هذا الملف، على شكل فرق بحثية وأن يكون البحث مستمرا.