ليس جديدا توظيف التراث الثقافي في الأعمال الأدبية، لأسباب منها ربط علاقة متينة مع القارئ. ومن جهته، يعدّ الأدب أداة قوية لنقل التراث الثقافي وحمايته، كما يساعد على سد الفجوة بين الماضي والحاضر.
وهكذا، تتضح الفائدة المتبادلة بين التراث والأدب، فالأول يوفر مادة خصبة يوظفها الأديب كيفما شاء، والثاني يضمن للتراث استمراريته، ومع الوقت، قد تبلغ هذه العلاقة حدّ التماهي، حينما تصير المادة الأدبية نفسها تراثا، يعزز رصيد الأمة الحضاري والإنساني.
كثيرة هي التعاريف المقدمة للتراث، بشقيه المادي وغير المادي، ولكننا نستهل مقالنا بتعريف بسيط تقترحه منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، فالتراث حسبها “هو الإرث الذي ورثناه من الماضي، والذي ننعم به اليوم، والذي ننقله إلى أجيال الغد. ويُعتبر تراثنا الثقافي والطبيعي نبع حياة وإلهام لا بديل له”، تؤكد المنظمة الأممية، التي نجد في تعريفها ثنائية الماضي والحاضر (أو الثابت والمتغير، أو القديم والجديد..) وهي ثنائية ستعود إلينا في أكثر من مناسبة.
مكانة التراث في الأدب العالمي
يلعب التراث الثقافي دورًا مهمًا في الأدب. وغالبًا ما يعيد المؤلفون تفسير قصص وأساطير الماضي من أجل استكشاف القضايا المعاصرة. مثلا، أعيد تصور المآسي اليونانية مثل “أوديب ملكًا” في المسرحيات والروايات الحديثة لانتقاد الأعراف المجتمعية أو استكشاف تعقيدات النفس البشرية. ويساعد الأدب أيضًا في الحفاظ على المعرفة الثقافية ونقلها من جيل إلى جيل. وقد حافظت قصائد هوميروس الملحمية، مثل الإلياذة والأوديسة، على الأساطير والحكايات البطولية لليونان القديمة لآلاف السنين.
ومن خلال الأدب، يمكن للقراء الحصول على فهم أعمق للقيم والمعتقدات التي شكّلت المجتمع مع مرور الوقت. وتقدم أعمال غابرييل غارسيا ماركيز نظرة ثاقبة للتراث الثقافي الغني لأمريكا الجنوبية. كما يستخدم الكتّاب التراث الثقافي لخلق إحساس بالمكان والفضاء والجو السائد في عملهم، وبوضع عمله في سياق ثقافي محدد، يتمكن الكاتب من نقل القارئ إلى عوالم مختلفة، وهو ما نلاحظه في رواية النيجيري تشينوا أتشيبي (Chinua Achebe) “الأشياء تتداعى”، والتي تستكشف تأثير الاستعمار الأوروبي على المجتمع النيجيري من خلال عدسة ثقافة الإيغبو التقليدية.
وقد يكون استخدام التراث الثقافي في الأدب وسيلة للحفاظ على التقاليد الثقافية، من خلال تسليط الضوء على العادات الأقل شهرة، والثقافات المهمّشة أو الممثلة تمثيلا ضعيفا، على غرار ما نجده في عمل مثل “طب الحب” (أو التداوي بالحب) للويز إيردريش (Louise Erdrich)، التي تستكشف التراث الثقافي لشعب تشيبيوا (Chippewa) وهو من الأمريكيين الأصليين. ويمكن أيضًا استخدام التراث الثقافي كعدسة لاستكشاف القضايا المعقدة مثل الهوية والانتماء والاستيعاب الثقافي، فضلاً عن تأثير العولمة على طرق الحياة التقليدية، من أجل فهم أكبر لتعقيدات الهوية الثقافية وأهمية الحفاظ على تراث الفرد.
ويمكن للتراث الثقافي أن يكون وسيلة للمقاومة والتمكين. ومن خلال استعادة هويتهم الثقافية وتأكيدها، يتحدى المؤلفون الروايات السائدة ويحطمون الصور النمطية. ومن الأمثلة عن ذلك الحائزة على نوبل توني موريسون (Toni Morrison)، التي استخدمت الفولكلور والتقاليد الأفروأمريكية لنقل تجارب النساء ذوات الأصول الإفريقية، وتحدي إرث العبودية والقمع، ومواجهة العنصرية والتمييز المنهجيين.
وهكذا، قد يكون توظيف التراث الثقافي في الإبداع الأدبي شكلاً من أشكال المقاومة ضد الاستعمار والمحو الثقافي. من خلال استعادة تقاليدهم وقصصهم الثقافية والاحتفال بها، يمكن للمؤلفين تأكيد فاعليتهم واستقلالهم في مواجهة القوى الخارجية التي تسعى إلى تقويض تراثهم أو قمعه.
فلسطين.. المقاومة بالتراث
وعلى ذكر المقاومة، يُعتبر المثال الفلسطيني من أبرز نماذج توظيف التراث في الأدب، لينتقل بذلك من مجرّد الاستلهام بغرض الإبداع إلى شكل من أشكال المقاومة الثقافية، خاصة في مواجهة احتلال يسعى إلى محو الذاكرة الفلسطينية، بمختلف تجلياتها، من الوجود.
ونستشهد هنا بدراسة أجراها الباحثان آمنة بيطاط وفريد تابتي (جامعة بجاية) حول “أشكال توظيف التراث في الشعر الفلسطيني المعاصر”، مع التركيز على قصائد محمود درويش وعز الدين المناصرة.
وممّا خلصت إليه هذه الدراسة، تمرّد الشاعرين على السائد في الساحة النقدية، منتقلين بذلك من مبدأ التكريس الشعري إلى مبدأ التجديد، مستندين على أرضيتين؛ الأولى خطية وهي الماضي التراثي، والثانية متغيرة وهي الحاضر.
وقد استطاع درويش والمناصرة الخوض في غمار تقنية التوظيف التراثي، فبرعا فيها، من خلال إتقانهما لفنيات توظيف الموروث بأنواعه (التاريخي، والأدبي، والديني…) فحققا التوازن في الكتابة الشعرية، لأنهما جمعا بين الفرادة الأدبية الذاتية من جهة، والسياقات التراثية الخارجية من جهة أخرى، وكل هذا جاء داخل نسق شعري واحد صهر فيه القديم مع العصري. كما استمد الشاعران قوة معانيهما من المتون التقليدية، وتأثرا بالتجارب الإنسانية السابقة، مبتعديْن عن النقل الحرفي الذي يلغي الخصوصية الفنية للقصيدة المعاصرة.
ويضيف الباحثان أن درويش والمناصرة لم يقدسا التراث لحدّ الذوبان فيه، بل زوداه بأفكارهما الخاصة، واستلهماه بطريقة حداثية، وعبرا عنه ولم يعبرا به، ليزيدا مساحة التأويل من قبل القارئ. وربط الشاعران بين جسرين ممتدين في الزمان؛ الماضي الضارب في القدم، والحاضر الآني الممتد إلى المستقبل، فأعادا صياغة التراث برؤية تجريدية، غلبت عليها الدفقة الشعورية والصناعة الشعرية.
وعبر الشاعران عن قضيتهما الفلسطينية، عن طريق الارتقاء والوعي في استحضار التراث، “وهذه العملية الفنية ترتقي بالنص إلى مراتب أسمى، لأنها تنزع عنه ثوبه التقليدي الذي يمتاز بالخطية، لتكسر أفقيته المعتادة، وتنفتح به على عوالم أخرى خارجة عن القيم السائدة المتعارف عليها، كاسية إياه بثوب التجديد والعصرنة”، يؤكد الباحثان.
التراث في الإبداع الأدبي الجزائري
وقبل التجربة الفلسطينية في المقاومة بالتراث، كانت التجربة الجزائرية، بما واجهته من مساعٍ استعمارية استيطانية عملت، طيلة 132 سنة، على طمس التراث الثقافي الجزائري وتحويره وتشويهه. من أجل ذلك، عمد المبدعون الجزائريون إلى توظيف تراث أمتهم في مختلف أشكال التعبير الفني.
يعتبر الأكاديمي عبد الحميد بورايو أن أي إبداع، مهما كانت وسيلته، “متجذر في التراث بقدر تجذر مبدعه”. وتعتمد عملية الإبداع على ما تخزنه ذاكرة المبدع منذ الصغر، ومن الصعب تصور مادة إبداعية لا تستعمل التراث الذي ينتمي إليه المبدع، وهنا يميز بورايو بين حضور التراث بشكل عفوي، وتوظيفه بصفة واعية ومقصودة.
ويستشهد بورايو بأدباء جزائريين وظفوا التراث في أعمال ما زالت تعتبر “من عيون الأدب الجزائري”، مثل رواية “نجمة” لكاتب ياسين، ورواية “إغفاءات حواء” لمحمد ديب، وجميع روايات عبد الحميد بن هدوقة، خاصة منها “الجازية والدراويش”، وروايات واسيني الأعرج، وغيرها.
وعلى ذكر أعلام الأدب الجزائري، نشير إلى الأديب الطاهر وطار، الذي تناولت صبيرة بودينة (جامعة بومرداس) بالدراسة توظيفه التراث الشعبي في روايته “اللاز”. وقد لاحظت الباحثة تنوع هذا التراث، سواءً المادي منه وغير المادي، فجاءت الرواية غنية بكل ما يمثل التراث الشعبي، ولعلّ من أسباب ذلك أن “رواية (اللاز) برؤيتها السياسية المتميزة عن الثورة الجزائرية إنما تؤرخ لحقبة ما، ولكنها قبل ذلك كله ترسم معامل المكان الثقافية المرتبطة بالثقافة الشعبية، ما دام (اللاز) هو “الشعب” بكل أساطيره وحكاياته وانتصاراته وخيباته، تؤكد الباحثة.
ولم تحِد الرواية النسوية عن هذه القاعدة، حيث لاحظ الباحثان مسعودة ضياف ولزهر مساعدية (جامعة خنشلة) أن التراث الشعبي من بين أكثر أنواع التراث استلهاما في المتن الروائي النسوي الجزائري، وفيه وجدت الروائيات مادة خصبة، لما يشمله من قيم إنسانية تمثل هوية الأمة. ولم تكن دوافع توظيف التراث الشعبي في الرواية النسوية الجزائرية من أجل استحضار ماضي الشعوب ونمط معيشتها، وإنما لمعالجة قضايا المجتمعات الحاضرة التي لا يمكنها الهروب من هذا الموروث.
وحين دراسة الباحثين رواية إنعام بيوض “السمك لا يبالي”، وجدا من الأشكال الشعبية المستلهمة: المثل الشعبي، الأزياء الشعبية، الأطعمة والمشروبات التقليدية، الآثار العمرانية، اللهجات العامية، العادات والتقاليد المعتقدات والطقوس الدينية.
وليس هذا التوجّه حكرا على الرواية، فكثيرة هي المسرحيات الجزائرية التي استأنست بالتراث، بل واتخذت منه أساسا لها. وفي هذا يقول الباحثان سامية غشير والحاج جغدم (جامعة الشلف) إن التراث (الشعبي) مصدر إلهام للكتاب في إبداعاتهم الروائية والشعرية والمسرحية، حيث يوظفونه كقناع للتعبير عن قضايا الراهن، وتناقضاته، وإشكالاته، خاصة في فن المسرحية باعتبارها موجهة لجميع الناس، وتُسهم في تسريد هوية المجتمعات وثقافتها، كما تنقل التجارب التراثية الشعبية وتربطها بالحاضر.
وبالعودة للرواية الجزائرية، فإن هذه لم تتوقف عند “حدودها الإقليمية”، وهي التي ورثت مخزونا كبيرا من التراث العربي والإنساني الزاخر، والممتد امتداد رحلة الإنسان وصنعه للحضارة، كما يرى عبد الرحمن فاطمي (جامعة غرداية). هذا الأخير خصّص أطروحة الدكتوراه لتوظيف التراث الإفريقي في الرواية الجزائرية المعاصرة، واتخذ الباحث من رواية “كماراد رفيق الحيف والضياع” نموذجا لدراسته، ووجد أن مؤلفها الحاج أحمد الزيواني سعى إلى تأصيل الرواية الجزائرية المعاصرة عن طريق توظيف التراث المادي وغير المادي لإفريقيا، ودل توظيفه للتراث على إحساسه بأهمية الانتماء للقارة السمراء وللبعد الصحراوي الراسخ في نفس وشخصية الزيواني. هذا الأخير لم ينصرف اهتمامه نحو التراث الإفريقي ككل، بل اختار تفاصيل منه، كما اتخذ من الشكل التراثي أداة للتعبير عن مخلفات الحضارة الجديدة، التي تحمل الكثير من القضايا المشابهة لقضايا التراث كالظلم، والبحث عن الحرية… “فجاءت الرواية بذلك محكومة بثنائية القديم والجديد”، يؤكد الباحث، وهو ما تكرّر في مختلف جنبات هذا المقال.
تراث الأدب.. وأدب الـتراث
وكما شرب الأدب من معين التراث، ونهل من نهره الدافق، فإن النصوص الأدبية يمكن لها أن تتحول، بدورها، إلى مادة تراثية، وهو ما يصطلح على تسميته بـ«التراث الأدبي”. ومع الوقت، تتحوّل هذه النصوص، خاصة تلك التي تمتاز بقيمتها الفنية والإبداعية، إلى مادية حضارية تعبر عن ضمير الأمة وهويتها.
كيف يسهم الأدب في الترويج للتراث حمايته؟ سؤال آخر يثبت العلاقة المتبادلة بين التراث والأدب. ويلعب هذا الأخير دورًا حاسمًا في الترويج للتراث الثقافي والحفاظ عليه، وقد كان الأدب، على مرّ العصور، مرآة تعكس قيم وتقاليد ومعتقدات الثقافات، وجسرا يربط الماضي بالحاضر.
لماذا يبحث الروائي عن شخصيات تراثية لروايته؟ هو سؤال طرحه الباحثان سعيد عيادي وزهرة بلعيد (جامعة البليدة)، وأجابا بأن الروائي يخلق حالة من الاشتياق والتشويق نحو ما ينقله من الماضي إلى الحاضر، وكلما كان قادرا على إعادة تشكيل صورة الماضي التراثية في الحاضر المتفاعل، وصل إلى ربط علاقة فكرية وأدبية وإنسانية بينه وبين القارئ، وهو ما يجعله مهيمنا ومحتكرا لوجدان قارئه جاذبا إياه نحو مساراته وسياقاته والمنطق الذي تقوم عليه الرواية.
وفي دراستهما “الموقف السوسيولوجي من إشكالية استحضار التراث والتاريخ في الرواية الجزائرية”، وجد الباحثان أن استخدام التراث هدفه قراءة الحاضر بتناقضاته وتشعباته، ولتشخيص مدخل وجداني عاطفي لتشكيل مقاربة شخصانية قد تسمح للقارئ من إيجاد صورة لكيان إنساني لمواجهة تحديات الحاضر وتعقيداته، فالإنسان المعاصر في حاجة كبيرة ليحدث تعارفا إيجابيا مع معالم مجتمعه، ليجد من خلال ذلك توازنه وانسجامه الذي لا يجعله في نقطة الاغتراب.
في الختام، يعتبر الأدب أداة قوية لتعزيز التراث الثقافي والحفاظ عليه. وبعرض قيم وتقاليد ومعتقدات المجتمعات المختلفة، يساعد الأدب على سد الفجوة بين الماضي والحاضر، كما أنه يلعب دورًا حاسمًا في الحفاظ على المعرفة الثقافية، وتعزيز التنوع والتعايش، وتحدي الصور النمطية.
من جهة أخرى، يعد استخدام التراث الثقافي في الأدب أداة فعالة للكاتب من أجل استكشاف موضوعات الهوية والتقاليد والمقاومة. وهذا النوع من الإبداع لا يثري المشهد الأدبي فحسب، إذ بفضل قدرته على إلهام الحركات والثورات ومختلف أشكال المقاومة، يواصل الأدب الإسهام في تثمين التراث الثقافي بطرق هادفة وذات تأثير، وباستحضاره العمق التاريخي في بعده الحضاري، يعمل الأدب كوسيلة حيوية للحفاظ على التراث الثقافي وتعزيزه للأجيال القادمة.
الروائي سليم عبادو: توظيف التراث في الأدب.. عنوان المقاومة..
يرى الروائي سليم عبادو أن الأدب يمكن أن يُساهم بفعالية في إحياء التّراث وترسيخه وتوثيقه، ممّا يُساعد على تمتين الهوية الإقليمية أو الوطنية، أو حتّى المحلّية، وجعلها تتميّز عن الهويات الأخرى المُحيطة بها، فيُعطي بذلك زخما للهوية الأصلية التي يرسم التّراث معالمها وملامحها الجميلة والعريقة، مؤكدا – في المقابل – على أهمية الاستثمار في التراث الشعبي من خلال مختلف الأجناس الأدبية.
قال الروائي سليم عبادو في حديثه لـ«الشعب»، إن الأدب يعتبر أكبر حاضنة للحضارة الإنسانية بشتّى أعراقها وأقاليمها وأزمانها، ويُمثّل التّراث الإنساني بتنوّعه وثرائه واختلافه أهمّ ما يُميّز بين مُختلف روافد هذه الحضارة. فهو ما يُعطي الخصوصية والتفرّد والاستقلالية للمجموعات الإنسانية التي تُشكّل هذا العالم ويُحافظ بالتّالي على هويتها الأصلية والأصيلة في صلب الفسيفساء الإنسانية الإجمالية.
وقال في السياق ذاته: “تأتي الحاجة والواجب معا، من أجل تضمين الأدب التّراث المحلّي، وإثرائه به، لكيلا نفقد نصيبنا من التّمثيل في الأدب العالمي، ونستثمر جيّدا الجزء أو الحيّز الخاصّ بنا فيه، كأمّة أو كشعب أو حتّى كمجتمع صغير محلّي، فتكون لنا بذلك مكانة أدبية وإنسانية مُحترمة بين الأمم”.
وأوضح محدثنا، أن الأدب يمكن أن يُساهم بفعالية في إحياء التّراث وترسيخه وتوثيقه، ممّا يُساعد في تمتين الهوية الإقليمية (العربية والإفريقية) أو الوطنية، أو حتّى المحلّية، وجعلها تتميّز عن الهويات الأخرى المُحيطة بها، المُسالمة الصديقة أو العدائية الاحتلالية التي تُريد أن تطمسها وتحلّ محلّها، فيُعطي الأدب زخما لهذه الهوية الأصلية التي يرسم التّراث معالمها وملامحها الجميلة والعريقة، فيدفع الأدب بذلك، في اتّجاه حبّ الانتماء إليها والدّفاع عنها والاعتزاز بها. ممّا يُعطيها حصانة وقوّة ومُقاومة في وجه حملات التّشويه والمحو والإنقاص من قيمتها. وهذا ما يحصل في النّظام العالمي الجديد الذي اتّخذ من العولمة مِعولا له لهدم الخصوصيات الثّقافية واستقلالية وتميّز المجتمعات، من أجل أغراض استعمارية جديدة – ثقافية واقتصادية وفكرية – اهتزّت في وجهها الكثير من المُجتمعات ذات الثّقافة والتّراث الهزيلين أو غير المُصانين كفاية من طرف أصحابهما، فتحوّلت بسهولة إلى مجتمعات استهلاكية تابعة للغرب. ومن هنا يدخل توظيف التّراث في الأدب في صلب المُقاومة الثّقافية والهوياتية، ناهيك عن أنّ المشاريع الأيديولوجية الكبرى في العالم ـ يقول عبادو – تستعمل التّراث بحِمله الثّقافي والتّاريخي كأداة في الصّراع المتواصل، ممّا يجعله مادة ُتطبع الكثير من الكتابات الأدبية، على شكل أفكار ووجهات نظر وفلسفة حياة تسمح بمواجهة المشروع المُعادي من أجل إضعاف حجّته وقوّته والنّيل منه.
وفي أثناء حديثه عن توظيف التراث في رواية “الكنّاس” وهي أوّل رواية له، حرص محدثنا على أخذ هذا التّحدّي محمل الجدّ، فجاءت الرّواية كما وصفها مُحمّلة بعبق المكان ـ الصّحراء – واستثمر فيه ليس لكونه بعدا من أبعاد السّرد ـ الزّمان والمكان – ولكن لكونه “يحمل حِملا ثقافيا، تُراثيا، ونفسيا، فتراوح بين كونه مكانا للرّاحة والطمأنينة، إلى مكان للعدوانية، مع كلّ الإرث الإنساني والمعرفي الذي يملكه الإنسان “السوفي” عن الصّحراء ووادي سوف. فجاءت الرّواية مُؤثّثة بالكثير من الأمثال العامّية الصّحراوية، والمواقف الاجتماعية الطّريفة بين النّاس في خضمّ تعاملاتهم اليوميّة، ونشاطاتهم الفلاحية والتّجارية الموروثة أبًا عن جدّ. زيادة عن توصيف دقيق للطرق الصّوفية، عبر سبر عميق لأغوار القطبية الصّوفية بالمنطقة – التيجانية/ القادرية – المُتسامحة مع الذّات ومع الآخرين في تعايش هادئ قلّ نظيره”.
وتطرّق عبادو إلى الأغنية التُّراثية، العاميّة الشّعبيّة، فذكر بأن لها مكانا خاصّا عنده ولا استغناء عنها، بدليل تضمين رواياته ثلاثتها أغنية تُراثية واحدة على الأقلّ: الكنّاس (أغنية: غرود عالية/ من تراث وادي سوف)، عبّاس (أغنية: جينا من عين مليلة، سبع أيّام على رجلينا/ من تراث الأوراس) وقلبٌ في أقصى اليسار (أغنية: فلسطين/ لفرقة ناس الغيوان). ويقول: “أعتقد بأنّ لا شيء قادر على حمل الموروث الثّقافي بجدارة مثلها، فالحِمل الثّقافي الذي تُسوّقه الأغاني المُتداولة والمُتوارثة شعبيًّا لا يُضاهيه شيء في ثرائه وعمقه الإنساني ولا يُمكن للّغات الأكاديمية أن تُحيط به كاملا”.
وشدّد الروائي سليم عبادو في على أهمية توظيف التراث في الأدب كونه يمثل رمزية عتيدة لهويتنا الوطنية، فقال: “صحيح أنَّ الكتابة الأدبية لها بعد إنساني عالمي، عابر للحدود، ولكنّ هذا لا يعني بأن نذوب في وسط الكمّ الهائل من الكتابات من كلّ الأقطار والأجناس، بل من الواجب علينا أن نحجز لأنفسنا موطئ قدم، لائق ومُشرّف للثّقافة والخصوصية الجزائرية، الجديرة بذلك كتجربة إنسانية مُتفرّدة، وهوية أصيلة، ساهمت ولا تزال تُساهم في صنع ملاحم إنسانية ناصعة، نفتخر بها، وستفتخر بها الأجيال القادمة إذا ما حرصنا على حمايتها وتوثيقها أدبيا”.
الدكتورة وردة لواتي: التراث الجزائري منح الأدب قوة الإيحاء وسلطة التأثير
تصف الدكتورة وردة لواتي، التراث بأنه ذلك المخزون الثقافي الزاخر المتوارث جيلا عن جيل، الحامل لكل القيم (دينية وتاريخية وحضارية وشعبية وإنسانية.)، والواصل للعادات والتقاليد والمعتقدات، المادي منها والمعنوي، فهو روح الأمة بماضيها ومستقبلها وحاضرها، وهويتها الممتدة في جذور التاريخ وعبقه.
وانطلاقا من أن الأدب كأداة للتعبير عن خلجات النفس، ولون من الألوان التعبيرية والإنسانية التي يترجم بها المبدع عواطفه ومخاوفه وتجاربه، ومشاعره الإنسانية التي تدور في خلده، تقول أستاذة الأدب العربي بجامعة الحاج موسى أخاموك بتمنغست وردة لواتي في تصريحها لـ«الشعب”، إن التراث الشعبي الجزائري منح الأدب قوة الإيحاء والتأثير، نظرا للإمكانيات الفنية والمعطيات التي يزخر بها التراث، بوصفه حصنا منيعا وذرعا حصينا يحول دون ما يتهدّد الأمة في هويتها ووجودها، خاصة في ظل الهجمة الشرسة على كل ما هو عربي، قومي، إسلامي، في ظل اتخاذ الأديب من التراث ملجأ يفر إلى أحضانه كلما قست عليه الحياة، وكشرت عن أنيابها في ظل هذا التغريب الكاسح الشرس.
وأشارت لواتي إلى أن العديد من الكتاب المبدعين، عكفوا على تضمين إبداعاتهم على اختلاف أنماطها وأجناسها (نثرية أو شعرية) بهذا العبق القادم إلينا من ماضينا العريق، والحامل لتجارب وقيم وعادات ومعتقدات أجدادنا، بروح تعكس حضور السلف في الخلف”.
وقالت: “في مجال الإبداع المسرحي، أدرك الكاتب الجزائري قيمة توظيف التراث في نصوصه المسرحية باعتباره همزة وصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، وخوفا من اندثار الهوية الوطنية وضياعها، عمد إلى تضمين مسرحياته بألوان التراث المختلفة وأضفى على تجربته نوعا من الأصالة الفنية، من خلال أعمال ثلة من المسرحيين عبر أجيال مختلفة، كان لكل واحد منهم بصمته الخاصة، على غرار “سلالي علي” في مسرحية “جحا”، التي استدعى فيها التراث الشعبي، وعمد إلى توظيف شخصية تراثية مميزة لها وزنها في التراث الشعبي الجزائري، فاستحق بذلك لقب أبو المسرح الجزائري، كما استلهم شخصيات من حكاية ألف ليلة وليلة حاله حال المسرحي “بشطارزي” و«رشيد القسنطيني” اللذان وظفا التراث الشعبي في أعمالهما، واستلهما عناصره ليكون حاضرا في وجدان الأمة”.
وأضافت: “كما لمع نجم الكاتب المسرحي “عبد القادر علوله” تؤكد أحد مؤلفي كتاب “تأويل العقل الثقافي الإفريقي”، بمسرحياته الحبلى بالعناصر التراثية كمسرحية “الأجواد” التي قدمت بلغة شعبية بسيطة اعتمد فيها القوال، البندير، العصا، واللباس التقليدي.. فولج بها إلى عمق التراث الشعبي، ووظف عناصر الفرجة الشعبية، والخرافة والأسطورة والأمثال والحكم والعادات والتقاليد.. ومن مسرحياته الأقوال واللثام..”..
وفي سياق آخر، تقول الدكتورة لواتي، “التراث الشعبي وجد طريقه للسرد الجزائري، وولجه من أوسع أبوابه عبر الرواية، التي اتخذت أشكالا مختلفة للتناص من الموروث الشعبي تتواءم والموقف السردي، واستطاعت أن تجعل من التراث الشعبي مادتها الخام لتجسد تجذره في الأصالة والعراقة، فاقتبست الخرافة والأسطورة، والأمثال والحكم، والحكاية والعادات والمعتقدات، كما هو الحال مع أعمال العديد من الروائيين الجزائريين من أمثال “الطاهر وطار” بروايته “الولي الصالح”، ورواية “رمل الماية” لوسيني الأعرج”، مشيرة إلى أن تجربة واسيني الأعرج الروائية تميزت باقتناصه لعناصر التراث الشعبي وبثها في نصوصه الروائية كما هي الحال مع رواية “نوار اللوز”، و«حارسة الظلال”، و«فاجعة الليلة السابعة بعد الألف”، فقد اقتنص شخصيات من التراث الشعبي لأعماله الروائية، واستلهمها من حكايات كألف ليلة وليلة، جاعلا منها مادة سردية، مثل طاهر وطار.
ولا يمكن بحال – حسب المتحدثة – أن نتغاضى عن أعمال عبد الحميد بن هدوقة المفعمة بروح الأجداد، والتجربة الروائية لـعبد الملك مرتاض بروايته “دماء ودموع” التي تضمنت مجموعة من الأمثال والأساطير، حيث جعلت مصدرا للقيم الاجتماعية، كما كانت رواية حيزية التي استعارها من الحكاية الشعبية الجزائرية رمزا للمرأة الذكية البالغة الجمال، المرغوبة من قبل كل الرجال، وغيرهم من الأدباء والروائيين الجزائريين، الذين لجأوا إلى الروافد التراثية ونهلوا منها، وجعلوا من التراث بكل أنماطه وعناصره مادة خاما لنصوصهم الروائية، فأصبحوا كالمرايا تتراءى فيها الأبعاد متداخلة، وتبدو فيها الذات رواية مروية ورائية مرئية”.
وفي ذات الصدد، تؤكد الأستاذة لواتي أن التراث الشعبي وجد طريقه إلى السرد عموما والرواية خصوصا ممهدا، وعودة الرواية الجزائرية إلى التراث كانت الغاية منها تأصيل خطابها في المورث السردي، والنأي بها عن النماذج الغربية، وإحياء التراث وتقديمه للقارئ بشكل جديد مبتكر، “وقد استطاعت الرواية أن تعزز حضوره، وتحافظ عليه من الاندثار عبر توثيقه ونقله من جيل السلف إلى جيل الخلف، وهذا كله ينسحب على الأدب الجزائري عموما نثرا وشعرا.” ـ تقول لواتي”.
وختمت حديثها بالقول، إن الأدب الجزائري نال حظه من التراث الشعبي، حيث تمكن من التوغل في عمقه ونهل من كل عناصره بشكل عصري وحديث، وبالطريقة التي تليق بمستوى الأديب الجزائري ومخيلته، وطموحه، وملكاته ووعيه، وبما يحفظ للتراث الشعبي هيبته وتجذره، وبما يرضي طموح المتلقي وأصالته وتفكيره… ويبقى هذا غيض من فيض.
العربي حمدوش: التراث الجزائري يعامل بضعف رغم تنوّعه وثرائه
أكد الأستاذ بقسم الآداب واللغة العربية بجامعة الإخوة منتوري قسنطينة 1، العربي حمدوش، أن تراث كل أمة، المادي واللامادي، هو البوتقة التي تنصهر فيها عبقريتها، وتتشكل هويتها، ويتجلى تميزها، وتقوى آصرتها الوطنية، وتجعلها المواطنة كالجسد الواحد، يقل أفرادها عند الطمع، ويكثرون عند الفزع، والتراث الجزائري، ميراث الآباء والأجداد، وخلاصة تجربة عريقة تمتد قرونا وقرونا يجب جمعه، وحفظه، ودراسته بعمق وجعله في متناول الشباب خاصة، مع الاعتزاز به دون تقديس، بل علينا القيام بعمليات انتقاء ذكية، تحقق التجانس والانسجام، وتعزز الوحدة الوطنية، وتنبذ كل نعرة جهوية.
وعن توظيف التراث في الادب الجزائري يقول حمدوش: “بإستثناء الجهود الناضجة الكبرى للرواد الأوائل على غرار الأديب طاهر وطار، عبد الحميد بن هدوقة و«واسيني الأعرج” الذين حاوروا التراث وقاموا بمناقشته وتحليله وتوظيفه، أما البقية فإنها لا تخرج عن محاولات للاستشهاد، وهو الأمر الذي لا يخدم التراث، والحديث عن حضور التراث في العمل الأدبي الجزائري يقود من وجهة أولى إلى معرفة مكنون كلمة “تراث” في حد ذاتها وما يكتنفها من غموض والتباس وتمدّد”..
ويضيف محدثنا قائلا إن “التراث هو كل ما تتوارثه الأجيال من عادات، تقاليد، معتقدات، ثقافات منها الفاعل والممتد عبر الأجيال ومنها الميت والمنتهي الصلاحية، غير أن الجميل في التراث هو استحضار العبر والمواقف والأمجاد والتزود بالفكر من مناهله ومنابعه ومواطنه الأصيلة والنقية”.