يؤكد الدكتور محمد الأمين بلغيث، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الجزائر 1بن يوسف بن خذة، في حوار لـ”ذاكرة الشعب”، أن الأبحاث التاريخية الجادة قام بها جيل التأسيس.
يشير المؤرخ بلغيث إلى أن الثقافة التاريخية تحتاج متابعة وتشجيعا، ولابد من تدريس التاريخ للطبيب والمهندس والكيميائي، وأبرز أن تحصين الذاكرة الوطنية يكون باشراك كل المؤسسات التربوية والجامعية، والسجون أيضا، ورايه في قضايا أخرى تتابعونها في هذا الحوار.
بداية أستاذ بلغيث، ما هو واقع الدراسات التاريخية في الجزائر اليوم، هل كل المواضيع التاريخية استوفت حقها أم تتطلب المزيد من البحث؟
المؤرخ الحقيقي هو الذي يكون صادقا مع المتلقي. قمت بالتدريس في الجامعة 37 سنة وسنتين في الثانوي، الأبحاث الجادة قام بها جيل التأسيس، منهم الأستاذ أبو القاسم سعد الله، مولاي بلحميسي، موسى لقبال، جمال قنان، نصر الدين سعيدوني. هم أساتذة من الصف الأول لكن هؤلاء لم يكن متاح لهم الأرشيف والشهادات مثلما هو متاح الآن، أتكلم أيضا عن جيلي.
أنا مثلا دخلت باريس بعدما سجلت في السوربون لفترة خمس سنوات تقريبا نهاية 1997، المتاح من الأرشيف في زمني يتوقف عند سنوات 1901 و1903، زمن ما يسمى الجمعيات وقانون الصحافة، بمعنى أنه سننتظر ما يقارب عشرين عاما أي 2015 حتى تتمكن الأجيال اللاحقة من طلابنا من الإستفادة من زخم نشر وفتح الوثائق في المراكز الفرنسية.
بإستثناء حجب الكثير من الملفات، التي يمكن أن تسيء لشخصيات جزائرية تعاونت مع الإستعمار أو أبنائها أو أحفادها، ولهذا الجيل الحالي محظوظ أكثر منا. أتحدث عن جيل ملاحم المدرسة التاريخية مثلما يسميها الدكتور سعد الله، هذا الجيل لا يملك اللغة بشكل جيد أو يتسرع في بعض الأحكام، لكن هم على الطريق الصحيح.
تاريخ الجزائر ككل ما يزال ساحة بكر، لكن هناك محطات تلقى العناية بشكل رائع جدا، مثلا فترة الثورة منذ تأسيس تخصص الثورة وزخم كبير من الأبحاث هناك الغث والسمين، حتى لا أزكي كل ما هو منشور بإسم الثورة، لكن هذا الجيل لو توفر له الظروف المادية وتسهيلات الإنتقال إلى الأرشيف، انا متأكد أنه سيبدع.
الجزائر تملك اليوم عشرات المراكز البحثية ومئات المعاهد والجامعات، لكن هذا لا يكفي، اليوم أصبحت الجامعة تساهم في الذاكرة الوطنية من خلال القامات البارزة جيل التأسيس وأول دفعة للماجيستير في الثمانينيات يختلف عن الأجيال، التي تواكب الآن النشاط البيداغوجي والعلمي والنشر. ومن بين المعوقات الموجودة الآن حتى نعرف الكم والكيف أن معظم الرسائل والأطروحات لا تطبع، معناه تبقى في منزل الباحث لسبب خاص به، أو لا تطبع لأنه لا يملك ناشرا أو ليس محظوظا بمعرفة ناشر ينشر أعماله.
أحسن مركز يمكن أن يؤدي دور راق جدا في هذا الجانب هو المركز الوطني للدراسات والبحث في المقاومة الشعبية والحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، الذي ساعدنا إما بنشر مقالات في المجلة أو بمحاضرات.
عملية الثقافة التاريخية تحتاج عملا يوميا وتشجيعا ومتابعة. هناك أطروحات تناقش هنا وهناك ثم تنشر من طرف وزارة الثقافة أو وزارة المجاهدين من خلال المركز السالف الذكر، وقد لا تستفيد الأجيال من هذه التراكمات المعرفية في غياب المتابعة.
لكن للأمانة فيه وعي بالمسؤولية وإحساس بالمشاركة في إعادة إحياء الذاكرة المشتركة للجزائريين، لكن الأعمال في غالب الأحيان متسرعة جدا، مثلا طلبة الماستر كارثة وطنية، من النادر أن تجد من بين 100 طالب ماستر طالب ماستر يقدم عملا جيدا، لأن ظروف نظام أل-أم-دي، يجبر الطالب على تقديم مذكرة تخرج في أربعة أشهر، يستحيل كتابة مقال جيد في هذه الفترة الوجيزة.
هذا النظام الدراسي يحتاج مراجعة. النظام القديم كان فيه تحضير مذكرة ماجيستر أو دكتوراة يتطلب سنوات. أنا مثلا استغرقت دكتوراة دولة التي أعددتها 13 عاما، ولست راض عنها، فما بالك إنسان يقدم لك عملا في عامين أو ثلاث سنوات. البحث العلمي يتطلب رصانة ومشاركة ومساعدة ومراجعة وقراءة ونشر.
فرنسا تستحوذ على 98 بالمائة من أرشيف الجزائر
مهما كان مستوى الباحث يحتاج المرافقة والمساعدة والتشجيع وتثمين عمله، وتساعده السلطة المتمثلة في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي للحصول على التأشيرة.
يفترض تقديم تسهيلات للباحث الجامعي في هذا المجال والأولوية لزيارة مراكز الأرشيف الفرنسي والمكتبات الوطنية لأن فرنسا تستحوذ على 98 بالمائة من أرشيف الجزائر.
نلاحظ صدور العديد من المذكرات الشخصية لمجاهدين، كمؤرخ له باع طويل في البحث العلمي، هل يمكن استغلال هذه المذكرات في كتابة التاريخ؟.
أغلبية المذكرات ضعيفة جدا، خاصة المذكرات المتأخرة مثلما قلت سابقا في التاريخ هناك صف أول وصف ثاني، الأمر نفسه لدى مجاهد إلتحق بالثورة نهاية 1956، ويتحدث عن نوفمبر 1954 من أين له هذا أو يتحدث عن أسباب الإحتلال معناه أصبح أستاذ جامعي.
مذكرات المجاهد علي كافي الأفضل
لكن المذكرات الأولى مثلا مذكرات المجاهد الراحل علي كافي، من أروع ما يكون، في حين المذكرات الأخيرة كارثة لا تستحق الأموال التي دفعت لطبعها، وتجد إنسان نكرة ويتحدث عن الرواد الأوائل من ثورة نوفمبر 1954، صحيح المذاكرات ككل تدخل في باب يسميها أبو القاسم سعد الله التاريخ الشعبي، التي تضم مقالات الصحافيين، الأشرطة، اللوحات الزيتية، الشهادات، وقبلها هناك التاريخ الرسمي ما تكتبه الدولة، هذه الأخيرة تتوفر على دراسات، موسوعات، ثم تأتي مهمة الأكاديمي المتمرس هو الكفيل أن يكون مئتمنا على ذاكرة هذا المجتمع لأن المسؤولية ربانية.
أنا قرأت كل المذكرات، التي طبعت دون استثناء، فوجدت حوالي عشر مذكرات صالحة، ومدى مصداقية المتكلم هو الحديث عن شهود عيان وهم أصدقاءه، تجد في إحدى المذكرات يتكلم عن شهود هم نكرة، ولا ينتمي لجماعة 1954 النوفمبريين ولم يشارك في معارك شهيرة، ولا يملك وثائق فقط صورا مع أصدقاءه إلتقطها في 1962، فكيف يجوز له أن يكون شريكا لنا في ذاكرتنا.
هناك تضارب في المصطلحات التاريخية. لماذا لحد الآن لم تضبط هذه المصطلحات في قاموس موحد؟
بالمناسبة، الأستاذ علاوة المختص في القانون أصاب في ضرورة ضبط المصطلحات، لكن يبقى المتلقي والطالب، هذا الأخير تجد مستواه ضعيفا وحتى الأستاذ في أحيان كثيرة إعتاد أشياء وهي “ما تقرر تكرر”. أحيانا أقول أحداث أو حرب الجزائر عندما أتحدث بالفرنسية، هذه الأمور لا نعطيها وزنا كبيرا. يبقى المضمون، عندما أذكر حرب الجزائر أنا أعلم أنه في هذه الفترة أتحدث عن جهاد الشعب الجزائري في القرنين الـ19 والـ20 لكن الأغلبية لا يقبلها مني.
فيه تطور في المصطلحات تطور بتطور الثورة وبتطور قبول الفرنسيين لإيجاد حل للمسألة الجزائرية، لكنها لا تضر كثيرا، إلا في حالة تدوينها رسميا مثلا 8 ماي 1945 هي مجازر وإبادة جماعية، هذا هو التاريخ.
أعتقد أن هذه المسائل هي بالتذكير والممارسة وتذكير الشبان الذين لا يملكون تجربة أنا متأكد من أنهم سيخرجون من هذه الدائرة.
المصطلحات، التي واكبت تاريخ الجزائر بداية الإستقلال، انتقلت من حديث الفرنسيين ووسائل الإعلام الفرنسية وهي العمالات، ما وراء البحر، أحداث الجزائر، أما قضية الحرب والثورة والمجازر هذه لم ترد أبدا إلا عن طريق بعض الأوفياء من المؤرخين مثل فيدال ناكي، أو مثل المحامي فرجيس صديق الثورة الجزائرية.
بعض المؤرخين اليساريين يبرهنوا فعلا أن ما كانت تقوم به فرنسا عبارة عن إبادة للشعب الجزائري تبدأ من ميشال أبار، صاحب الكتاب الشهير “قصة نكث عهد”، وتنتهي عند مؤرخين ومؤرخات درسوا مجازر 8 ماي 1945 والأحداث المؤلمة ومجازر انتفاضة الشمال القسنطيني 20 أوت 1955، لكن تبقى محتشمة.
الفرنسيون يكتبون بكثافة وأعمالهم تنشر بقوة وبأناقة، تجد تأثيرها السلبي عند المتلقي الجزائري، لذلك من الصعوبة بمكان أن تتخلص من هذا الميراث أو السرطان الفرنسي، الذي لا يزال إلى اليوم يجثم على كثير من الألسنة.
فيه عمل دؤوب، من قطاع المجاهدين الممثل في المركز الوطني للبحث والدراسات، مثلا كلمة الإستقلال عوضت بمصطلح استرجاع واسترداد السيادة الوطنية المغتصبة.
نبهني لهذه المسألة المؤرخ الدكتور العربي الزبيري، من ستينيات القرن الماضي، هو الذي يؤكد أن هناك قضية اسمها استرداد وليس استقلال.
حتى قصة تاريخ الحركة الوطنية يقول انه بدأ من 5 جويلية 1830، لكن هناك حركة وطنية مسلحة عنيفة انا أسميها جهاد الشعب الجزائري وهناك من يسميها المقاومة الشعبية أو الثورات الشعبية.
المصطلح يبقى مهما جدا وأروع من قام بعمل بشكل جيد أستاذ وأديب من تلمسان، نسيت اسمه نشر كتابا في وزارة المجاهدين حول مصطلحات الثورة الجزائرية وهي الفلاق، المجاهد، المسبل وغيرها، وهي مساهمة من باحث وأديب كبير في السن، له مشوار طويل جدا في التدريس، صلح كثير من المصطلحات الواردة على ألسنة الجزائريين.
القصائد والأغاني الشعبية صورت ملاحم ومعارك ثورية، هل يمكن إعتبارها مصدرا يفيد الباحث في كتابة التاريخ الجزائري؟
طبعا، لما تعلمنا على يد المؤسسين الكبار مثل الدكتور سعد الله، هذا الأخير يتكلم عن التاريخ الرسمي الذي تنشره الدولة، وهو عادة ما يوحد، وفي الصف الثاني تأتي الروايات الشعبية، الصحافي، صاحب المذكرات، الفنان، المسرحي، المغني والمنشد والشاعر الشعبي.
القصائد الشعبية جزء من التاريخ تحتاج التعديل
عندما نريد وصف الآلام، التي أصابت الجزائريين في سطيف، نجد أغنية” يا ناري على السطايفية”، أو نتحدث عن الغربة والمنفي نجد أغنية “يا المنفي”، و”الطيارة الصفراء”، أو “جيناكم من عين مليلة”، قضية المنفيين بكاليدونيا، كلها تدخل في باب ما تركه الجزائريون في ذاكرتهم الشعبية من خلال القصائد العفوية، هي جزء من التاريخ لكن تحتاج تعديلا حتى تتوافق مع النص الأكاديمي.
أعتقد أن شعرنا الشعبي وأدبياتنا وحكايتنا تزخر بهذه الأشياء، مثلا حينما نتحدث عن ألم الجزائريين والجوع والأمراض، لن تجد من يعكس هذه الصور مثل الأدب الشعبي.
هل أنصفت السينما الجزائرية الأحداث التاريخية في الجزائر، خاصة مجازر الثامن ماي 1945؟.
السينما مهمة جدا، مثلما يقال في اللغة العربية الصورة بمائة خطبة، صورة واحدة تصل الملايين خاصة في الوقت الحالي، وبالتالي أن تخطب على جمهور فيه 500 شخص تستطيع أن توصله الصورة إلى كل أنحاء الدنيا، خاصة مع وسائل التواصل الإجتماعي.
لكن الصورة يمكن أن تزور وتزويرها تكون مدمرا للإنسان. هذا ما يحدث الآن عندما يريدونا تشويه صورة شخص، يقومون بتركيب صور تنشر والناس تصدق، الصورة المفبركة أخطر من الرصاصة لأنها تدمر عائلات، لذلك لابد من التريث.
الدراما في كثير من الأحيان تزور التاريخ، ومثال على ذلك فيلم الشهيد العربي بن مهيدي، أكثر من 90 بالمائة غير راضيين عن رواية المخرج، سمعت شقيقته، موقفها صارم مما وقع، بالرغم من أن الأفلام التاريخية تصرف عليها الملايير. رسالتي هو أن يكون الإنسان منصفا وحذرا، وأن لا يغلب المصلحة الخاصة والصراعات الشخصية في الثورة ويعكسها في السينما بأموال الأمة.
تبقى الأفلام الأولى للمخرج لخضر حمينة، وعمار العسكري، ومخرجين قمة تصور الواقع، لأنها تعتمد نصوصا غير إيديولوجية وكتاب محترمين، مثلا بوعلام بسايح أروع من كتب وسجل ثورة الشيخ بوعمامة. الصورة مهمة إذا وظفت لخدمة المجتمع ستكون رائعة.
نعطيك مثال آخر، سينما هولوود صنعت ما يسمى هولوكست ومعاداة السامية، لكن الآن سقطت كل الخرافات في المجتمع العلمي، الآن الجامعات الأمريكية ثارت ضد صورة الثهيوني الظالم، معناه 7 أكتوبر 2023 (اي طوفان الأقصى) جعل الغرب في مواجهة قذارته.
التاريخ اذا لم تُدرسه للطبيب والمهندس والكيميائي ليس له أي معنى، وعندما لا يكون معامله لا يساوي شيئا، لا يلقى الإهتمام من الطلاب والتلاميذ
كيف ترى تدريس مادة التاريخ في المنظومة التربوية؟
المنظومة التربوية رهينة الإيديولوجية، المعلم مهان ولا يتلقى راتبا جيدا، والبرنامج مكثف وغير منتقى بدقة متناهية من أصحاب الضمائر الحية.
ابناءنا يدرسون التاريخ من أجل اجتياز الإمتحان فقط، في حين التاريخ هو الأوكسجين، الذي من خلاله ينشأ التلميذ من الروضة الى الجامعة نشأة طيبة، التاريخ اذا لم تُدرسه للطبيب والمهندس والكيميائي ليس له أي معنى، وعندما لا يكون معامله لا يساوي شيئا، لا يلقى الإهتمام من الطلاب والتلاميذ.
اعتقد كمربي وأب وأستاذ، لأكثر من 37 سنة، أنه يجب علينا أن نعطي أبناءنا معلما رساليا، يستطيع تربية أبناءنا لمستقبل أجيال بعد أربعين أو خميين سنة، أما التلاعب بالمدرسة واحتقار المعلم وكثافة البرنامج وثقل المحفظة هذه كلها سلبيات.
التاريخ يجب أن يدرسه معلم رسالي مخلص
الشعوب المحترمة مثل ألمانيا ترسل أبناءها للدراسة في سن تسع سنوات، حتى يكون قد إكتفى من اللعب، والأكل، والأولياء عندنا يقومون بالمستحيل لإدخال أبنائهم في سنة الأربع أو خمس سنوات وهي جريمة في حق الطفولة البريئة، التي تحتاج أن تشبع الأكل واللعب وحنان صدر الأم، قارني بين الجيل الأول من الكتاب الذين تمدرسوا ستينيات القرن الماضي وأبناء الجيل الحالي. التاريخ يجب أن يدرسه المخلصون من أبناء هذه الأمة لا غير.
كيف يمكن تحصين الذاكرة الوطنية؟
تحصين الذاكرة بالمدرسة والجامعة، اي اشراك كل المؤسسات التربوية، والسجون أيضا، والروضات.هناك أمور مقدسة يجب أن تصل كل جزائري، وحدة التراب الوطني، سيادتنا على جرفنا القاري وعلى فضاءنا الخارجي، وأيضا وحدة الشعب الجزائري.
كل شخص يفكر في تقسيم هذا المجتمع ويسعى من أجل تشتيته مجرم، وكأنه يسير على طريق ما كانت تصنعه المخابرات الفرنسية، الإنتماء القبلي والجهوي تغذيها وسائط التواصل الاجتماعي مثل فايسبوك، التي تشرف عليها إسرائيل وفرنسا وجيران السوء.