برز في المرحلة الأخيرة الاهتمام الواسع بتوجيه من رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، بتوسيع الاستثمار في القطاع الفلاحي، وترتكز ورقة الطريق التي تتضمن مشاريع عملاقة وشراكات إستراتيجية لتحويل الجزائر من بلد مستورد إلى بلد مصدر في هذا الميدان، خاصة بعد النجاح في تحقيق أرقام غير مسبوقة والاقتراب من تحقيق الاكتفاء الذاتي خلال الموسم الحالي، على حتمية انخراط المناطق الريفية في ثورة الفلاحة الراهنة بنظرة حديثة ووفق مهارات ابتكارية بات ضرورة لا تقبل التأجيل أو التأخير.
ملف: فضيلة بودريش وهيام لعيون وفايزة بلعريبي
ووفق رؤية رئيس الجمهورية، فقد أخذت الفلاحة حقها من الاستغلال والاستثمار والدعم لتكون في قلب التحوّل الاقتصادي لتساهم كغيرها من القطاعات الإستراتيجية على غرار الطاقة والصناعة في تنمية البلاد، ويوجه الشباب خريجو الجامعات إلى طرح أفكار جديدة في هذا القطاع ومرافقته للمساهمة في أمن غذائي مستدام.
التدفق القوّي لريادة الأعمال الخضراء تكون منظمة ومضبوطة وفق خارطة انتشار يتوافق مع إمكانيات البيئة الفلاحية المناسبة بات ضرورة، من أجل استغلال المقدرات وإدماج المزيد من مهارات الشباب وتحويلها إلى قيمة مضافة وثروة خضراء تؤمن غذاء الجزائريين وتفتح أمامهم مناصب شغل جديدة تكون مباشرة ودائمة، على أن تكون الجامعة الجزائرية الخزان الكبير لتزويد احتياجات سوق نشاط ريادة الأعمال، والتقاط الأدمغة المبتكرة وتحويلها نحو فضاءات تجسيد مشاريعها بهدف ادخال تقنيات متطورة وذكية في القطاع الفلاحي.
الخبير ومنسّق ريدة الأعمال في الاقتصاد الأخضر مراد برغل: الرقمنة والابتكار يقودان مستقبل الجزائر الفلاحي
في عالم آخذ في التطوّر المتسارع بشكل رهيب، خاصة مع دخول تقنيات الذكاء الاصطناعي على الخط، باتت التكنولوجيا والابتكار حافزا حاسما لتحويل المساهمة في زيادة كفاءة النظام الغذائي وقدرته على الصمود في وجه مختلف التحديات الطبيعية، البيئية والتكنولوجية، حيث جعلت السلطات العليا في البلاد من القطاع الفلاحي ركيزة أساسية لتحقيق الأمن الغذائي الذي يضمن السيادة الوطنية في البلاد، ليساهم في التحولات الهيكلية اللازمة لمواجهة التحديات الزراعية والغذائية التي تواجهها الجزائر، خاصة وأن بلادنا تعد من البلدان الرائدة في مجال المقاولاتية الخضراء، نظير الجهود الكبيرة التي تبذلها خلال السنوات الأخيرة من أجل تطوير قطاع المؤسسات الناشئة، سيما المؤسسات الخضراء وتوفير مناصب شغل خضراء للجنسين لتقود بجدارة قاطرة التنمية المستدامة.
أكد الخبير والمستشار ومنسق ريادة الأعمال في الاقتصاد الأخضر مراد برغل ، أن التكنولوجيا والابتكار أصبحا في الوقت الحالي، ضروريين لبدء التغيير وتعزيز التنمية المستدامة، وباتا من بين أولى الأولويات لرواد الأعمال الشباب الحريصين على استخدام تكنولوجيا المعلومات، واستغلال الفرصة لتعبيد الطريق نحو الابتكار في مختلف قطاعات النشاط الاقتصادي وخاصة القطاعات الزراعية عبر إنشاء مؤسسات خضراء باستعمال أخر تقنيات التكنولوجيا.
وقال الخبير في مجال الاقتصاد الأخضر، إن “إدراج الرقمنة والابتكار في قطاع الفلاحة على وجه الخصوص، يمكن أن يحمل قيمة مضافة للإنتاجية والربح، حيث يمكّن القطاع من القدرة على الصمود في وجه تغيّر المناخ، كما يمكن للتحول الزراعي الرقمي أن يحسّن سبل عيش المزارعين أصحاب المزارع الصغيرة الذين يمثلون عددا كبيرا، فضلا عن ذلك يمكنه أيضا تشجيع الشباب والنساء الريفيات على الانخراط في ريادة الأعمال سيما المؤسسات الخضراء بتوفير مناصب شغل خضراء بالنسبة للرجال والنساء، في سلسلة القيمة المضافة”.
ولهذا يجب علينا إعداد وتدريب ودعم هذا الجيل الجديد من الشباب الملقب بـ “رواد الأعمال الزراعيين” المتخصّصين في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات للولوج من الباب الواسع إلى الاقتصاد الأخضر، يقول الخبير، مشددا على ضرورة التركيز على الرقمنة، وليس على بعض تكنولوجيات المعلومات والاتصالات (TIC) عبر تطبيقها عبر سلسلة القيمة.
وأضاف برغل في نفس السياق: “ ولاغتنام هذه الفرصة، يجب علينا أن نضمن تنسيق التنمية بين مختلف الجهات الفاعلة، ونشر الممارسات الجيدة، وإتباع نهج تعاوني يركز على زيادة استخدام المزارعين للحلول لنشر الابتكار الرقمي على نطاق أوسع”.
مشاريع مُبتكرة
ويرى الخبير الاقتصادي، أن القطاع الزراعي في الجزائر، يشكل أرضا خصبة لفرص المشاريع المبتكرة التي ستؤدي بالتأكيد إلى تطوير نموذج الأعمال الزراعية الخضراء والاستفادة من الخبرة، مؤكدا أنه عند هذا المستوى، تظهر ريادة الأعمال الخضراء والأعمال المبتكرة، وبشكل أكثر يصبح تحديًا للشركات الناشئة الخضراء، كنهج مشترك يمكن أن يؤدي إلى زراعة مبتكرة.
وبخصوص الانشغال الخاص بتمتع الجزائر ببيئة مواتية لإدخال الابتكارات التكنولوجية في القطاع الفلاحي، تساءل الخبير برغل عن التحديات الحقيقية للابتكارات التكنولوجية بالنسبة للقطاع الزراعي؟.. وعن الأصول التي تمتلكها الجزائر لجعل الزراعة قطاعا أكثر ابتكارا ومواجهة المعوقات الرئيسية التي من المحتمل أن تعيق مثل هذا المشروع الابتكاري، وتناول في هذا السياق تحديات الابتكارات التكنولوجية في القطاع الزراعي.
قال الخبير الاقتصادي، إن الابتكارات التكنولوجية في القطاع الزراعي تواجه العديد من التحديات، حيث يكمن التحدي الأهم في حقيقة أن التكنولوجيات الجديدة تسمح للمزارعين بالتكيف بشكل أفضل مع قيود الطقس وأنواع التربة في أراضيهم، فضلا عن التأثيرات المباشرة على الدخل الزراعي، حيث تظهر النتائج في بعض البلدان أن اعتماد التكنولوجيا يولد أرباحا أعلى وعوائد أكبر، خاصة مع الاستخدام الأمثل للمدخلات.
وأضاف الخبير برغل موضحا “هناك القضايا البيئية المرتبطة باستخدام التقنيات الجديدة لأنها تهدف إلى الحد من البصمة البيئية للنشاط الزراعي، فعلى سبيل المثال، يمكننا التكيف مع استخدام منتجات تخضع لتدابير الصحة النباتية وفقا لصرامة احتياجات المحاصيل، خاصة وأننا مهتمون حاليا بتأثير التسميد النتروجيني بمعدل متغير على أساس التكنولوجيا والأقمار الصناعية”.
ريادة الأعمال
وبخصوص الزراعة المبتكرة، لفت الخبير في الشركات الناشئة، إلى أن الشركة المبتكرة هي اليوم طريقة قوية للتعامل مع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، مشيرا إلى أن السلطات العمومية وبتوجيهات من رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، أضحت مقتنعة أن ريادة الأعمال بشكل عام، وريادة الأعمال الخضراء على وجه التحديد تعتبر رافعة قوية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلادنا.
وأشار برغل في السياق، إلى العديد من مبادرات الشباب الخاصة بإنشاء مؤسسات ناشئة مبتكرة في المجال الفلاحي، وهو ما تم الكشف عنه من قبل الوصاية خاصة ما تعلق بإطلاق المسرع العمومي للمؤسسات الناشئة “ألجيريا فانتشر”، وهو برنامج تسريع لفائدة 15 مؤسسة ناشئة تنشط في الاقتصاد الأخضر، وذلك بالشراكة مع منظمة العمل الدولية باستعمال تكنولوجيات متطورة على غرار الذكاء الاصطناعي، مذكرا بالبرامج التدريبية التي بدأتها جمعية المرأة في الاقتصاد الأخضر منذ عام 2015، والتي تهدف إلى توفير التدريب ودعم ريادة الأعمال الخضراء والرقمنة الخضراء في الجزائر.
البنية التحتية
وتحدث الخبير عن ضرورة تهيئة بيئة مواتية لإدخال الابتكارات التكنولوجية من خلال التركيز على ريادة الأعمال الخضراء كونها أداة قوية لنشر الابتكارات وآخر التقنيات في القطاع الزراعي، وذلك بالكشف عن القيود التي من المحتمل أن تعيق مشروع الابتكار.
كما أشار برغل إلى التدريب والدعم في مجال ريادة الأعمال الخضراء الذي يعتبر أمرا ضروريا، إذا ما أردنا تطوير زراعتنا وتقديم المنتجات للمواطنين كمّا ونوعا، مشيرا إلى أن تحديث القطاع الزراعي يتطلب إدخال الابتكارات التكنولوجية في مراحل مختلفة من عملية الإنتاج، من المنبع باتجاه المصّب، باعتبار أن القطاع الفلاحي في الجزائر لا يزال أرضا خصبة لفرص مشاريع مبتكرة، تخصّ الري، التسميد وحماية النباتات عن طريق منتجات الصّحة النباتية، أو حتى مراقبة ديناميكيات نمو النبات، يضاف إلى هذا الرغبة في الحفاظ على البيئة، عن طريق الحد من استهلاك الطاقة، ومن خلال الترويج للنفايات الزراعية.
بالمقابل، تحدث رئيس جمعية المرأة في الاقتصاد الأخضر، الرائدة في تدريب ودعم الشباب والنساء في الجزائر، عن تكوين أكثر من 500 مشارك ومشاركة عبر التراب الوطني منذ سنة 2015 إلى يومنا هذا في مجال ريادة الأعمال الخضراء، وقال: “لمسنا وجود رغبة كبيرة لدى الشباب الذين يرغبون في إنشاء مشاريعهم الصغيرة الخضراء، ما يجعل الحياة اليومية للمزارعين أسهل، في حين لايزال التمويل أكبر رهان لهم لمواصلة مغامرة تحقيق مشاريعهم”.
وعلى الرغم من أن الزراعة في الجزائر تحتاج بالتأكيد إلى موارد مالية لتمويل مشاريع الابتكار، يقول برغل ـ لكن لا يمكن لمثل هذا المشروع أن ينجح حقًا إلا بروح ريادة الأعمال الخضراء والابتكار. ومن هذا المنظور، يظهر السياق الحالي أن هناك فرصة حقيقية لجعل الزراعة تتفاعل مع الابتكار وريادة الأعمال الخضراء.وفي هذا الإطار، أفاد الخبير الاقتصادي، أن الزراعة في الجزائر تعتبر من بين أكثر القطاعات التي تنتشر فيها الابتكارات التكنولوجية، حيث تشير الدراسات التجريبية أن التكنولوجيات الجديدة لها آثار زراعية واقتصادية وبيئية إيجابية، مشيرا الى أن “الزراعة المبتكرة تحظى بالمزيد من الاهتمام في السنوات الأخيرة في مختلف الجهات الفاعلة، حيث خصص المعرض الزراعي الأخير المقام خلال السنة الجارية حول 2024 موضوع للابتكارات التكنولوجية في الزراعة.
أُسس مُستدامة
من جهة أخرى، يعتقد الخبير برغل أن “القطاع الزراعي يواجه تحديا كبيرا لسنوات وعقود قادمة، خاصة ما تعلق بزيادة الإنتاج الزراعي بشكل مستدام مع تحسين جودته، مشيرا إلى أن هياكل الإنتاج (حجم وتنظيم المزارع) وتنظيم المهنة والإشراف الفني والإداري وكذلك البيئة الاقتصادية للقطاع، تحتاج إلى توافق كبير مع التحولات الضرورية.
وتضاف إلى هذه التحدّيات ــ أضاف برغل ــ القيود الطبيعية القوية، مثل ندرة المياه والأراضي الخصبة، بسبب تغير المناخ. وبالتالي، يجب على القطاع الزراعي أن يواجه التحديات الفنية والتنظيمية والبيئية لضمان إنتاج مستدام وجيد في السنوات والعقود القادمة، ولذلك يجب عليها أيضاً أن تعزز قدراتها على تطوير وتقييم وتحديث السياسات الزراعية.
وخلص برغل إلى القول إنه “ للقيام بذلك، يجب علينا أن نبدأ ببناء رؤية مشتركة، تتقاسمها جميع الجهات الفاعلة السياسية والاقتصادية والمجتمع المدني، حول ما يجب أن تكون عليه الزراعة الجزائرية بحلول عام 2050، وبعد ذلك، سيتعّين علينا اليوم أن نبني الأسس الصلبة لهذه الزراعة وشروط استدامتها، لذلك فإن بناء الأسس المستدامة لزراعة الغد سوف يتطلب المزيد من الإصلاحات تكون عميقة وقوّية وشجاعة، ويجب أن تعتبر التكلفة الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية لهذا المشروع الإصلاحي بمثابة استثمار لفائدة الأجيال المقبلة”.
المؤسسات الناشئة.. الحلقة الأقوى في مسار التحوّل الفلاحي
كلما تجدّدت عملية تسريع الدورة الاقتصادية بشكل منتظم ومتواصل، يكون الرهان على ريادة الأعمال وتكثيف نسيج المؤسسات الناشئة، كحلقة قوية يمكن الارتكاز عليها في بعث النمو المستدام، واليوم لم يعد الرهان يقتصر على ريادة الأعمال في الصناعة والمجال الرقمي وحدهما بل على المؤسسات الناشئة في قطاع الفلاحة، بعدما اعتلت بدورها صدارة الاهتمام وصارت مهمة تقوم بدور إستراتيجي في المنظومة الاقتصادية بفضل قيمتها الاقتصادية والاجتماعية.
أصبح الاهتمام أكبر وأكثر وضوحا بريادة الأعمال باعتبارها ورقة الغذاء الرابحة، ومن أجل ذلك تيقنت الجزائر مبكرا لأهمية النشاط الريادي المفضي إلى فرص اقتصادية تلبي احتياجات الاقتصاد وتدفع قاطرة التنمية نحو اقتصاد أخضر قوّي إلى جانب الدور الاجتماعي الهام المتمثل في امتصاص البطالة وتحسين مستويات معيشة سكان الأرياف والمناطق النائية عبر توفر فرص اقتصادية هامة وفتح المجال لرواد الأعمال المبتكرين بالظهور والنشاط في بيئتهم الزراعية وتتويج جهودهم بتحويل مناطقهم إلى وجهات جاذبة لأن الإمكانيات الفلاحية في الجزائر غير محدودة في الهضاب والجنوب كما في الشمال والشرق والغرب.
النشاط الريادي الأخضر ستكون له مكانته الفارقة في إحداث أمن غذائي وتحول اقتصادي حاسم ومفصلي، خططت له الجزائر، وتخوض غماره رافعة الرهانات واحدا تلو الآخر، بانفتاح وتركيز على الزراعة المبتكرة كعمود أساسي في نهج تحقيق السيادة الغذائية.
ودون شك هذه المعركة تكسب بمشاركة شباب متحمس وموهوب ينتظر منه الكثير مستقبلا، لأنه وضعت فيه ثقة كبيرة وبدأت ملامح نجاح التوجه تظهر في إقبال الشباب على طرح مشاريعهم المبتكرة على مستوى الجامعات ومراكز البحوث.
إن قطاع الفلاحة على موعد مع بروز شركات مستدامة ومربحة ستحول الإمكانيات الفلاحية غير المحدودة إلى سوق من الثروة الخضراء، تختفي معها كل الفجوات وتولد فرصا جديدا وتقود إلى بروز رواد أعمال مبتكرين من الجامعات ومراكز التكوين المهني، يطلقون العنان لمهاراتهم، على خلفية أن تشجيع ودعم إنشاء المشاريع الرائدة، يعد الخطوة الرئيسة الدافعة إلى نمو وبروز المزيد من المؤسسات، لأن الخبرة وتجربة المشاريع الناجحة تمنح النسيج المؤسساتي جرعة قوية للصمود والتعميم وكذا الانتشار أكثر بثقة ودعم ومرافقة وانفتاح أكبر على المهارات والأفكار الجديدة الحاملة لمؤشرات النجاح.
وبالحديث عن خارطة الطريق للنشاط الريادي في قطاع الفلاحة، يجب وضع ورقة طريقة أو خارطة وطنية من أجل احتواء جميع أفكار المشاريع الخضراء المدرجة ضمن القطاع الفلاحي، لأن الحرص ينبغي أن يكون قائما على انتشارها في جميع المناطق المتوفر على مستواها الأراضي الفلاحية والمناطق الرعوية وكل ما يتناسب مع هذا النشاط من بيئة وتربة ومناخ، لأن التطلع مستمر من أجل إرساء أقطاب فلاحية.
ويمكن للمؤسسات الناشئة والصغيرة أن تنطلق ثم تتوسّع لأن النشاط الريادي الأخضر مستقبله مضمون اقتصاديا بفضل جدوى هذه المشاريع المتضمنة لجميع مقوّمات النجاح، ويمكنها بعد سنوات أن تنمو بسرعة وتتحوّل إلى مؤسسات متوسطة وكبيرة، تساهم في تعزيز الأمن الغذائي وتكون في مقدمة المصدّرين السائرين في مسار التصدير.
وبدورها المرأة مرشحة لأن تتموقع في حصة معتبرة من النشاط الريادي الأخضر، ومن المنتظر أن توفر لها الفرص الاقتصادية المناسبة لها في المناطق الريفية والجنوب الكبير على وجه الخصوص، لإطلاق شركات ناشئة مربحة بفضل انفتاحها على مشاريع صغيرة، يعوّل عليها في تنمية الزراعة والتخلص من الركود، وفي طرحها لحلول مبتكرة لا تحتفظ بها لمؤسستها، بل تكون في متناول شركات ناشئة أخرى تنصهر كلها كقوّة واحدة متجاوزة فجوات السوق لتقوم بدورها الاقتصادي والاجتماعي المنوط.
عبد القادر سليماني: الجامعة مموّن معرفي للإستراتيجية الفلاحية الجديدة
يفرض الأمن الغذائي الذي اتخذت منه الجزائر رهانا غير قابل للتخلي عن تحقيقه، نظرا لارتباطه المصيري بسيادة البلاد الاقتصادية واستقرارها الاجتماعي، حشد جميع المتدخلين في تحدي تحقيقه، بما في ذلك فئة الشباب، الذي برهن على قدرته على تحمل مسؤولياته تجاه معركة التنمية التي تخوضها البلاد.
نتائج القطاع الزراعي لموسم 2024، أكدت نجاعة الإستراتيجية الاستشرافية التي اعتمدها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، بجميع محاورها خاصة في شقها المتعلق بإشراك المؤسسات الناشئة وما وفرته من حلول علمية مبتكرة. إلا أن تحقيق إدماج المؤسسات الناشئة في القطاع الفلاحي يحتاج إلى متابعة لمشاريعهم الفلاحية، وفق آليات مرافقة، تربط بين الشباب حاملي المشاريع ومختلف الفاعلين بالقطاع الفلاحي، إضافة إلى عامل التحفيز الذي يتطلع إليه رواد الأعمال الشباب من أجل التمسك بمشاريعهم وضمان استمراريتها وتقديمها لأفضل النتائج.أوضح الخبير الاقتصادي والمستشار العام للاتحاد الجزائري للاقتصاد والاستثمار عبد القادر سليماني، في تصريح لـ “الشعب”، فرصة الحديث حول دور ومساهمة المؤسسات الناشئة في تطوير القطاع الفلاحي والرفع من مردود إنتاجه، إلى مخرجات مجلس الوزراء الأخير، وما تم الكشف عنه من أرقام تبعث على التفاؤل والاعتزاز بما تم تحقيقه من نتائج جد مرضية، ستقودنا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من غذائنا في المستقبل القريب، بحسب ما عبر عنه رئيس الجمهورية، حيث اعتبر موسم الدرس والحصاد لسنة 2024 استثنائيا من حيث النتائج المحققة والآفاق الواعدة التي يسعى إليها قطاع الفلاحة بعد جملة الإجراءات سواء الاستشرافية منها أو الاحترازية وحتى الاستعجالية منها في بعض الحالات، لتطوير قطاع الفلاحة بشعبتيه الزراعية والحيوانية.
مشاريع مستقبلية
واستبق الخبير الاقتصادي، الحديث عن أداء المؤسسات الناشئة في المجال الفلاحي، بالإشارة إلى الأرقام المحققة من طرف هذا القطاع، حيث تم توفير-بحسب الإحصائيات المتداولة- ما قيمته 1.2 مليار دولار لفائدة الخزينة العمومية، عقب الإنتاج المحقق من القمح الصلب، مما يجعل الجزائر على أعتاب تحقيق الاكتفاء الذاتي التام من هذه المادة التي أصبحت تغطي80% من احتياجات السوق الوطنية، وستدعم أكثر بعد تعليمة رئيس الجمهورية، للقطاعات المعنية بالإسراع في توسيع المساحات المزروعة بالجنوب الكبير إلى 500 ألف هكتار ومشاريع الشراكة التي ستجمع الجزائر بكبرى الشركات الرائدة في المجال الفلاحي، موزعة على التوالي بين الشركات القطرية بـ 117 ألف هكتار والايطالية بـ 36 ألف هكتار، فيما ستخصص 120 ألف هكتار للاستثمار الوطني.
وسط هذه الثورة الفلاحية للنهوض بالقطاع، تؤدي المؤسسات الناشئة من خلال المشاريع المبتكرة المتحكمة في آخر التطورات التكنولوجية دورا هاما من أجل تطوير الزراعات الإستراتيجية عبر المساحات الشاسعة للجنوب الجزائري خاصة زراعة الحبوب وإنتاج البذور الزيتية والتوجه نحو تحقيق السيادة الغذائية للبلاد.
وأفاد أن الاعتماد على الحلول المبتكرة في تطوير القطاع الفلاحي خاصة تلك التي ترتكز على الذكاء الاصطناعي وتقنيات الثورة الصناعية من الجيلين الرابع والخامس، ونقل المعرفة من الشركاء الأجانب، سيكون في صلب الإستراتيجية الفلاحية المستقبلية، أين سيتم العمل على توسيع فرص استعمال نماذج متقدمة من الآليات على غرار الطائرات بدون طيار أو ما يعرف باسم “الدرون”، التي تلعب دورا كبيرا في مراقبة المساحات الزراعية من حيث الاحتياجات والمعطيات وضبط إحصائيات القطاع، واستشهد المتحدث، بالإحصاء العام الفلاحي الأخير، أين اعتمدت وزارة الفلاحة تقنيات حديثة من التكنولوجيا الرقمية. وهو المجال الذي أبدعت به المؤسسات الناشئة ورواد الأعمال الشباب مقدمين أحدث النماذج من “الدرون” متعدّدة المهام.
طرح البدائل
وتطرق سليماني إلى شقّ مهم من معادلة حماية وتطوير القطاع الفلاحي، لا مجال لإقصائها والمتعلقة بعملية الأمن المائي وضمان حاجيات المساحات الزراعية من المياه، كمورد حيوي ضروري للإنتاج الفلاحي، وغيابه سيعطل حتما الحلقة الإنتاجية والدلائل عديدة عن أثار غياب عامل المياه على المنتوج الفلاحي، أين سجلت الجزائر إنتاجا ضعيفا من الحبوب خلال السنوات الأخيرة بسبب شحّ الأمطار، تم تداركه من خلال الاستراتيجيات الاستباقية، المعتمدة على تحلية مياه البحر وحفر المزيد من الآبار الارتوازية.
في هذا الصدد، يرى الخبير الاقتصادي أن المؤسسات الناشئة المختصة في الحلول التكنولوجية للمشاكل الايكولوجية، تساهم بشكل فعال في مرافقة الفلاحين في أشغال تهيئة الأراضي الفلاحية وكذا التحكم في تقنيات الري الحديثة، خاصة وأن بلادنا في السنوات الأخيرة قد عانت من قلة الأمطار كمصدر مباشر للري.
مخزون معرفي
تسعى الجزائر اليوم إلى التحكم في سلسلة القيم ومن خلالها التحكم في أساليب الإنتاج الفلاحي في جميع مراحله بآليات وتقنيات تكنولوجية، في نفس السياق تحدث المستشار العام للاتحاد الجزائري، عن دور الجامعة الجزائرية وتموقعها بقوّة كممون لمختلف القطاعات الحساسة من الحلول المبتكرة لمختلف الإشكاليات التي تواجه العملية الإنتاجية، ما يجعل مستقبل الفلاحة ببلادنا، بحسب ذات المتحدث، مرهون بمدى التعاون والتنسيق بين الجامعة الجزائرية بمخزونها المعرفي والبشري الشاب وبين المؤسسات الاقتصادية الكبرى، ضمن علاقة تكاملية يتم من خلالها إدماج المؤسسات الناشئة في إطار عقود مناولة تدعّم النسيج الاقتصادي الجزائري وتكمل الحلقة الإنتاجية علميا وتكنولوجيا. وأضاف سليماني، أن النتائج المحققة في مجال الزراعة في ظل الإستراتيجية الفلاحية، القائمة على اعتماد التكنولوجيا الحديثة والتحرّر من قيود الطبيعة التي قد تخلط أوراق الخبراء في العديد من الأحيان وتقلب موازين التوّقعات، قد أثبتت صحة الخيار والتوجه الجديد الذي أراده رئيس الجمهورية من أجل النهوض بقطاع الفلاحة وتصحيح الاختلالات التي عانى منها لعقود طويلة، خيار منح مساحة أوسع وثقة أكبر لشباب الجزائر من أجل رفع التحدي وإثبات التمسك بجذورهم ذات الأصول الفلاحية.
”ماكسروب” للرّي
ومن أجل عرض أمثلة ميدانية عن مساهمة طلبة الجامعات، بعد أن منحت لهم الفرص وفتحت أماهم الأبواب واسعة، اتصلت “الشعب” بعينة عن هذه الفئة التي ترجمت بحوثها الجامعية مدى قدرتها على المشاركة في النهضة الاقتصادية للبلاد، خاصة في ظل جملة القرارات والإجراءات التي تم اتخاذها على مستوى الجامعة الجزائرية، من بينها قرار وزير التعليم العالي البحث العلمي كمال بداري، القاضي باستثمار مذكرات التخرج وتحويلها إلى مشاريع مبتكرة ومؤسسات ناشئة، بعد أن كانت حبيسة رفوف المكتبات لسنوات طويلة، رغم ما تحتويه من ثراء معرفي وحلول علمية.
أصدق مثال عن إبداع الشاب الجزائري، في حال منحت له الفرصة وتم استثمار مكنوناته المعرفية وأطلق العنان لمادته الرمادية، طالب الدكتوراه، بالسنة الرابعة علوم زراعية بجامعة بسكرة، تخصص التربة والمياه، عبد المالك زروالي، الذي قام باختراع برنامج أطلق عليه تسمية “ماكروب”، يسمح بتقييم كمية الماء اللازمة للنباتات أيا كانت أنواعها، أو المناطق المتواجدة بها، عن طريق معطيات مناخية وجغرافية وتحاليل تخضع لها التربة لتحديد نوعيتها وحاجياتها، ليتم بعد ذلك إدراجها ضمن البرنامج الذي سيقوم بحساب الكمية اليومية والشهرية والسنوية اللازمة لدورة حياة النبتة من خلال كبسة واحدة فقط.
من جهة أخرى يقوم البرنامج بعرض المؤشرات الإحصائية والمنحنيات والأعمدة البيانية الخاصة بالمناخ والطرق الأساسية للحساب التي يعتمدها هذا التطبيق الذي يمكّن في نفس الوقت من تقديم حصيلة مائية شاملة، وكذلك تفصيل دقيق لنوع المناخ الموجود في هذه المنطقة.
ويسمح البرنامج من خلال إحصائه الدقيق لحاجيات النبات من الماء، بالحد من مشكل هدر المياه الذي تسببه عملية الري التقليدي، كما يساهم بحسب الشروحات المقدّمة من طرف صاحبه، في دعم الإنتاج الزراعي والرفع من مردوده، خاصة وأن النبات في حالة ما إذا تمت العناية به ضمن المعايير العلمية الدقيقة التي تتطلبها وظائفه الخلوية، بصفة منتظمة دون زيادة أو نقصان فإن النتائج ستكون حتما إيجابية. وعن إمكانية اعتماد عامة الفلاحين لهذا البرنامج أجاب الدكتور عبد المالك زروالي، أنه في متناول جميع المتدخلين في المجال الزراعي من فلاحين وتقنيين كما أكد المبتكر الشاب، بخصوص تطوير وتوسيع مجالات استعمال هذا البرنامج، أنه بالإمكان ربط هذا الأخير، بمستقبلات ومحسسات مناخية بالتربة متصلة مباشرة بالبرنامج وبالنبتة في نفس الوقت، عن طريق “الأردوينو” أو ما يعرف بالسقي الذكي عن طريق الذكاء الاقتصادي.