ألقت التكنولوجيا الحديثة بظلالها على حياة الأفراد، وقدّمت الكثير من التسهيلات في مختلف مناحي الحياة، فأصبحت من بين أهم الوسائط التي لم يعد للفرد بمقدوره الاستغناء عنها، وهنا يقودنا المقام للحديث عن الأدب، والتحوّلات الجذرية الحاصلة في مجال الكتابة والقراءة مع التقدّم التكنولوجي وانتشار الأنترنيت، التي مهدت لظهور أدب رقمي يفسح المجال للأدباء والقراء للتفاعل والإبداع.
ملف: أسامة إفراح ومحمد الصالح بن حود وإيمان كافي ورابح سلطاني وفاطمة الوحش
تعتبر الرواية التفاعلية، من بين أهم الأشكال الإبداعية التي تخطو اليوم خطواتها الأولى بالساحة الأدبية، ويعمل روادها (على قلّتهم لا سيما على الساحة الوطنية والعربية)، إلى فرض تواجدها لما تكتسيه من أهمية لدى الكتاب والقراء أيضا، حيث تتيح لهم التفاعل مع النصوص الأدبية والمشاركة في الكتابة وإبداء آرائهم وتعليقاتهم بشأن النصّ المنشور..
نهاية نخبوية التلقي والانفتاح على الإبداع المتعدّد.. ”النصّ لتفاعلي”.. شكل يتجاوز “النصّ الترابطي”
نشر الرواية على الوسائط الالكترونية، يجعل من الكتابة والقراءة أكثر متعة وتفاعلا.. أمر يتفق عليه عديد الكتاب والنقاد وحتى القراء.. وهو ما يدفعنا للتساؤل عن مكانة الرواية التفاعلية على الساحة الأدبية في الوقت الراهن، وهل يمكن القول إنّ الرواية التفاعلية ستكون في المستقبل القريب منافسا قويا للرواية الورقية؟ أسئلة تفاوتت فيها إجابات الأساتذة والباحثين الذين تحدّثت إليهم “الشعب”، فاختلفوا بين من لا يعترف بوجود “المنافسة أو التهديد” باعتبار أنّ الروايات تختلف وتتنوّع، ولكلّ نوع منها مجتمع وجمهور خاص، ومن يرى أنّ العالم الورقي اليوم ينسحب تدريجيا من الواقع المعيش، كي يفسح للواقع الافتراضي..
الرواية التفاعلية.. إشراك القارئ في عملبة الإبداع
تعتبر الرواية التفاعلية إبداعا أدبيا فريدا ومبتكرا، يسمح للقراء بالمشاركة في عملية السرد. وقد أثبتت الرواية التفاعلية أنّها شكل متعدّد الاستخدامات وقابل للتكيّف مع متطلّبات الأدب، يمكن أن يجذب طيفا واسعا من الجمهور. وعلى عكس الروايات التقليدية التي تكتفي بالقارئ كمجرد مراقب سلبي، تفرض الرواية التفاعلية على القراء اتخاذ قرارات في نقاط مختلفة.. هذا التنوّع وهذه المرونة يجعلان الرواية التفاعلية شكلًا ديناميكيًا ومتطوّرًا من الأدب.
تنطلق الباحثة حسيبة ساكر (جامعة أم البواقي) من فكرة أنّ الأجناس الأدبية الرقمية التفاعلية، هي أجناس أدبية تقليدية ظهرت في ثوب جديد من خلال استثمارها كلّ إمكانات الثورة التكنولوجية الرقمية كتقنية النصّ المترابط، وتوظيفها مختلف الوسائط المتعدّدة.
وتشير الباحثة آسيا علية (جامعة وادي سوف) إلى أنّ الثورة الرقمية التي شهدتها الساحة الأدبية منذ عام 1986، فتحت مجال المزاوجة بين الأدب والتكنولوجيا، أو بالأحرى مجالا للجمع بينهما، والذي أنتج ما يعرف بـ«الأدب التفاعلي” كجنس أدبي جديد، انبثق من رحم التقنية، مفرزا بدوره أشكالا متنوّعة منها الشعر التفاعلي، والمسرح التفاعلي، والرواية التفاعلية. ويقترن تاريخ هذا الجنس الأدبي بتاريخ التكنولوجيا المعاصرة، ويرتبط بها ارتباطا وثيقا اعتبارا لمواكبة أول رواية تفاعلية التحوّل العظيم في صناعة الكمبيوتر الشخصي.
ولذلك فإنّ تاريخ الرواية التفاعلية يبدأ من منتصف الثمانينيات، تقول الباحثة، بصدور أول رواية تفاعلية لمايكل جويس (Michael Joyce) بعنوان “الظهيرة.. قصة” (Afternoon،a story) (وجدنا عديد المصادر الأجنبية تحدّد 1987 تاريخا لهذه الرواية). فيما تعتبر رواية (20% d’amour en plus) لفرانسوا كولون (François Coulon) سنة 1996، ورواية (Sale temps) لبرنار دوفور (Dufour) سنة 1997، أول روايتين تفاعليتين كتبتا باللّغة الفرنسية على قرص مضغوط.
بالمقابل، كان ظهور أول رواية رقمية تفاعلية عربية متأخرا مقارنة بنظيرتها الغربية، تلاحظ الباحثة حسيبة ساكر، وكان ذلك على يد الكاتب الأردني محمد سناجلة برواية “ظلال الواحد” سنة 2001 (أصدرها في شكل ورقي سنة 2002) ثم أتبعها برواية رقمية ثانية موسومة بـ«شات” سنة 2005، ليصدر بعدها بسنة روايته الثالثة “صقيع”.
الرواية التفاعلية.. والرواية الترابطية
وعلى ذكر محمد سناجلة، فإنّ هذا الأخير لم يكتف بكتابة الرواية التفاعلية، بل كتب عنها وسعى إلى التعريف بها، حيث نجد سناجلة يفرق بين مصطلحي “الرواية التفاعلية” (interactive novel) و«الرواية الترابطية” (hypertext novel) إذ يعني كلّ واحد منهما جنسا إبداعيا يختلف عن الآخر في أوجه، ويتفق معه في أخرى.
الرواية الترابطية – حسب سناجلة – هي تلك التي تستخدم النصّ المتفرع، والمؤثرات الرقمية الأخرى، ولكن يقوم بكتابتها شخص واحد ويتحكم في مساراتها، أيّ لا يشاركه في عملية الكتابة أحد غيره، فهي رواية يكتبها مؤلّفها فقط، ويطلق عليها بعض النقاد “تفاعلية”؛ لأنّها تحتوي على أكثر من مسار داخل النص وتسمح للقارئ بالاختيار بين المسارات السردية المختلفة التي تحتويها.
أما الرواية التفاعلية، فهي تستخدم النصّ المتفرع أيضا، وبقية المؤثرات الرقمية الأخرى مثلها في ذلك مثل النوع الأول، ولكنّها تختلف في أنّ كاتبها أكثر من واحد، أيّ يشترك في كتابتها عدّة مؤلّفين، وقد تكون مفتوحة لمشاركة القراء في كتابتها.
ويلاحظ سناجلة أنّ بعض النقاد الغربيين يطلقون اسم “الرواية التفاعلية” مجازا على كلا النوعين، وقد أخذ منهم هذا أغلب النقاد العرب الذين تصدّوا لهذا الموضوع، “وهذا برأينا غير دقيق، والأصحّ هو التمييز بينهما”، يقول سناجلة، الذي يضيف مصطلحا آخر هو “رواية الواقعية الرقمية”، وهي – كما يراها – “تلك الرواية التي تستخدم الأشكال الجديدة التي أنتجها العصر الرقمي، وبالذات تقنية النصّ المترابط (هايبرتكست) ومؤثرات “المالتي ميديا” المختلفة من صورة وصوت وحركة وفن الغرافيك والتحريك، وتدخلها ضمن البنية السردية نفسها، لتعبّر عن العصر الرقمي والمجتمع الذي أنتجه هذا العصر، وإنسان هذا العصر، الإنسان الرقمي الافتراضي الذي يعيش ضمن المجتمع الرقمي الافتراضي. كما يعتبر رواية الواقعية الرقمية تلك الرواية التي تعبّر عن التحوّلات التي ترافق الإنسان بانتقاله من كينونته الأولى كإنسان واقعي، إلى كينونته الجديدة كإنسان رقمي افتراضي.
ويقول: “نحن هنا أمام رواية شكل ومضمون، رواية تستخدم التقنيات الرقمية المختلفة، وتتحدّث عن المجتمع الرقمي وإنسان هذا المجتمع، الإنسان الافتراضي، وهذا هو اختلافها عن الرواية التفاعلية أو الرواية الترابطية، فتلك روايات شكل غير محدّد موضوعها، وهذه رواية شكل وموضوع”.
كما يعرف سناجلة النصّ الرقمي بأنّه “كلّ نصّ ( بما فيه الرواية) ينشر نشرا إلكترونيا، سواء كان على شبكة الإنترنت، أو على أقراص مدمجة، أو في كتاب إلكتروني”، وهذا النصّ نوعان: النصّ الرقمي ذو النسق السلبي، وهو النص الذي لا يستفيد من تقنيات الثورة الرقمية التي وفرتها التقنيات الرقمية المختلفة، مثل تقنية النصّ المتفرع “هايبرتكست”، أو المالتي ميديا المختلفة من مؤثرات صوتية وبصرية وغيرها من المؤثرات المستخدمة، أيّ هو النصّ أو الرواية العادية التي قد تنشر في كتاب ورقي عادي، واكتسب/اكتسبت صفة الرقمية لأنّه نشر نشرا إلكترونيا. أما النصّ الثاني فهو النصّ الرقمي ذو النسق الإيجابي، وهو النصّ (بما فيه الرواية) الذي ينشر نشرا رقميا، ويستخدم التقنيات سابقة الذكر.
الخصائص والمميّزات
إحدى الخصائص الرئيسية للرواية التفاعلية بنيتها السردية غير الخطية، وإذا كانت الروايات التقليدية تتبع تقدّمًا خطيًا ثابتًا، تسمح الرواية التفاعلية للقراء بالتنقل عبر القصّة بطريقة غير خطية، والقفز بين نقاط الحبكة المختلفة، واتخاذ خيارات يمكن أن تؤدّي إلى نهايات مختلفة متعدّدة.
كما نجد جانبا فريدا آخر من جوانب الرواية التفاعلية وهو التركيز على الاختيار والنتيجة. في الروايات التقليدية، غالبًا ما يتم تحديد الشخصيات والأحداث مسبقًا من قبل المؤلّف، مع وجود مساحة صغيرة لمساهمة القارئ. على النقيض من ذلك، تضع الرواية التفاعلية تأكيدًا قويًا على الخيارات التي يتخذها القارئ، حيث يؤدّي كلّ قرار إلى نتيجة مختلفة.
وتشير الباحثة ريم حجوج (جامعة الجزائر 2) إلى بعض الخصائص الأخرى للرواية التفاعلية، على غرار “انفتاح الرواية في تركيبتها وبنائها وكذا موضوعها على التقنية باعتبارها نصّا غير ورقي، ما يتيح مساحة أكبر وآفاقا متعدّدة للمتلقّي”، وأيضا “تعدّد القراءات والانفتاح الواسع على النصّ النواة، ما يخلق التفاعلية بين مجموع القراء والمستخدمين والنصّ أو المبدع الأول”، كما أنّ “النهايات غير الثابتة نتيجة تعدّد القراء والانفتاح النصّي، بحيث كلّ قارئ يجعل لقراءته نهاية هو اختارها تختلف عن غيره”.
من جهتها، تقدّم الباحثة حفيظة بن عبد المالك (جامعة الشلف) أمثلة عن بعض أشكال الرواية التفاعلية، حيث تذكر “الرواية كليب” التي تحتوي على عبارات مفتاحية معينة، تتيح بالنقر عليها مشاهد ولقطات حية تثري العمل الأدبي، وتغنينا عن صفحات كاملة مكتوبة، وتجعل العمل أقرب إلى السينما بشموليتها. أمّا “الرواية الجماعية” أو “المشتركة”، أو “رواية الويكي”، فتستفيد من خاصية “الويكي” أيّ مواقع الويب التي يتم تحريرها جماعياً، بحيث يأتي الكاتب بالفكرة في هذه الرواية، ويضعها على موقع للرواية على الشبكة، ويعلم الآخرين بوجود بذرة نصّ رواية، فتأتيه الإسهامات من جمل، وأحداث، ولقطات فيديو، وموسيقى، ومؤثرات، ومشاهد، وخلفيات تاريخية للشخصيات، والأماكن، وتتحوّل البذرة إلى شجرة لها سوق، وأوراق، وفروع.
ومن الأمثلة عن الروايات التفاعلية الجزائرية، رواية “الزنزانة رقم 6” للدكتور حمزة قريرة، التي خصّتها الباحثة ريم حجوج بالدراسة، ووجدت أنّها “تعدّ رواية تفاعلية بامتياز لما تمنحه للمتلقّي من إمكانية الإضافة عليها والمشاركة في بنائها؛ وهذا ما يطلق عليه بالنسق الإيجابي”. ولاحظت الباحثة أنّ المؤلّف سعى إلى الحفاظ على خصائص الرواية الورقية، ومحاولة استيلاد خصائص جديدة تتماشى مع التقنية الإلكترونية. وتتكوّن هذه الرواية من مجموعة من الروابط متصلة ببعضها البعض، تستدعي التمكّن من استعمال الحاسوب. وخلصت الباحثة إلى أنّه، رغم انتشار هذا النوع من الرواية التفاعلية، إلا أنّ هذه الحركة الإبداعية تحتاج رقابة ومتابعة فنية للقراء للإسهام في إنتاج عمل أدبي لا يلغي أسسه الفنية واللغوية.
الدكتورة أمال برحمة: التعامل مع الجيل الجديد بالأسلوب الكلاسيكي.. غير ممكن
قالت المختصة في علوم النقد الحديث والمعاصر، الدكتورة آمال برحمة، في حديث لـ«الشعب” إنّ الأعمال الأدبية التفاعلية ترسم للقارئ صورة خيالية من الخوارق والمستحيلات، ممّا جعل أغلبها في الوقت الراهن يحوّل إلى مقاطع فيديو، لتسويقها لشدّة إعجاب وانبهار هذا الجيل بالتفاعل.تقول أمال برحمة إنّ الغرض من التفاعل هو مشاركة كلّ الحواس في إدراك العمل الأدبي الذي يواجهه المتلقّي، ولعلّ أشهر رواية تفاعلية هي رواية “هاري بوتر” التي عادة ما يتم تنفيذ رواياتها ثواني قليلة بعد إصدارها لشدّة إدراكها لنوعية المواضيع والأفكار التي يتبعها الجيل الحالي، إلى أن أصبح العديد من الأدباء العرب حاليا يتبعون هذا النمط في الكتابة والتأليف لجذب هذه الفئة من المجتمع، لذلك الرواية التفاعلية لها جمهورها الخاص ولها متذوّق خاصّ، وحاليا من أشهر أعمال الرواية التفاعلية مثلا رواية “أبابيل” التي تتحدّث عن الجنّ، لصاحبها أحمد آل حمدان في مجال الغموض والرعب، مشيرة إلى أنّها تحظى باهتمام من طرف تلامذتها الذين طالعوها أكتر من مرة لشدّة إعجابهم بأحداثها، فهذا النوع من الروايات – تؤكّد المتحدّثة – يجعل المتلقّي يشعر بمشاركته في عملية الإبداع، ويجد نفسه في حالة ذهنية خاصة تمكّنه من الانتقال في عوالم هذه الروايات، بل وحتى في نقاشاتهم يتحدّثون عن هذه الأعمال بطريقة غريبة وكأنّها تملأ فراغات بداخلهم.
في السياق، اعتبرت المتحدّثة أنّه من غير الممكن أن نكتب لهذا الجيل بالأسلوب الكلاسيكي القديم، أو رواية اجتماعية، حيث سيشعر بالملل والرتابة، مؤكّدة أنّ القارئ الحالي يريد الإثارة والدهشة والرموز والأسرار والألغاز، لذلك يتربع “دان براون” و«جاكلين رولين” على قمة هذا النوع من الفنون، فكلّ أعمالهم حوّلت لأفلام، لتنتج ما يسمى بالجو التفاعلي، ولابد ككاتبة أن أواكب الصيحة الجديدة أو الترند الجديد.
من ناحية التنافس بين الرواية التقليدية المعتادة والرواية التفاعلية، تؤكّد بأنّها لا تعترف بوجود أيّ نوع من المنافسة، لأنّ الروايات تختلف وتتنوّع ولكلّ نوع منها مجتمع وجمهور خاصّ، “صحيح أنّ التنافس قد يكون في عدد متابعي الساحة الأدبية الحالية، لكن يظل الموضوع متعلّقا بذوق القارئ وحتى على المستوى الشخصي أحيانا أجد نفسي في حالة رغبة لقراءة أعمال المنفلوطي، أو أغاثا كريستي ولما لا بعضا من الشعر الجاهلي، فالأمر يتعلّق بالأذواق”.
الدكتور ياسين صلاح: الرواية التفاعلـية تصنع نخبة جديدة
يرى الأستاذ بجامعة الوادي، الدكتور ياسين صلاح، أنّ الرواية التفاعلية تكسر نخبوية التلقّي لترتمي في أحضان القارئ السيبراني، وصنعت لنفسها نخبة جديدة، فمن يقرأ الأعمال التفاعلية الجديدة عليه أن يكون على دراية بعلم الحاسوب وبرامج البحث والتنزيل والتشغيل، مضيفا أنّه ليس في وسع المتلقّي الجديد معرفة كلّ هذه التفاصيل، وقلّة هم الذين يتابعون اليوم مشهد الأدب التفاعلي ويطالعون الروايات الرقمية..
يقول ياسين صلاح في تصريح لـ«الشعب” إنّ المتلقّي السيبراني بمقدوره التصفح والانتقال بين الروابط دون أن يشغل نفسه بمعرفة البرمجيات الحاسوبية المعقدة، كما أنه مع ثورة الهواتف الذكية قد استغنى عن الحاسوب وتعقيداته، فالهاتف أخفّ وزنا وأكثر خصوصية وتحرّرا من قيود الزمان والمكان، كما أنّه أكثر فعّالية وأبسط استعمالا، فضلا عن اختزاله لعدّة أجهزة في جهاز واحد، ففيه الهاتف والتلفاز والكاميرا والماسح الضوئي وغيرها ممّا لا يعدّ ولا يحصى.
واعتبر محدّثنا أنّ الرواية من بين أكثر الأجناس الأدبية التي استفادت من مزايا التكنولوجيا، حيث استطاعت من خلالها تقديم جنس الرواية التفاعلية، هذا الجنس الجديد والهجين الذي جمع بين ما هو أدبي وما هو تقني حديث، وأضاف قائلا: “مع انبلاج فجر ما بعد الحداثة وتطوّر ثورة الإنفوميديا بوسائطها الرقمية المتصلة بشبكة الأنترنت، أصبحت الحاجة ملحّة لمواكبة الطفرة الجديدة على جميع الميادين، وذلك نتيجة التسهيلات المذهلة في واقع العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي، وإذا كانت العلوم التجريبية قد أخذت حظها منذ البداية في مواكبة المستجدات التقنية، فإنّ العلوم الإنسانية وعلى رأسها الأدب، لم تتوان عن تطوير آلياتها في الإنتاج والانتقال من الوسيط الشفاهي والكتابي إلى الوسيط الرقمي بعوالمه الافتراضية، من صوت وموسيقى وصور ثابتة ومتحركة وروابط تشعبية، ولعلّ الرواية من أكثر الأجناس التي استفادت من معطيات التكنولوجيا في تقديم مادتها مشكلة جنسا هجينا يجمع بين ما هو أدبي وما هو تقني ثقافي”.
وأضاف: “كتّاب الرواية الرقمية التفاعلية استفادوا ممّا توفره معطيات التكنولوجيا من موسيقى وصور ثابتة ومتحركة، إضافة إلى الروابط التشعبية التي تكسر خطية الكتابة لترسم خارطة تشعبية تحاكي الخارطة الذهنية للقارئ المبحر”.
وذكر المتحدّث أنّ بعض كتّاب الرواية بدأوا بالتجريب في هذا الشكل الجديد وذلك مواكبة لروح العصر الرقمي من جهة، ومحاولة لإرضاء القارئ الذي باتت تتلقفه الأجهزة الذكية وبرامج شبكة الأنترنت المتنوّعة كالألعاب والأفلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، كما أنّ “انتقال الرواية إلى الواقعية الرقمية بتعبير الأديب الأردني الرائد محمد سناجلة، له مسوغاته المتعدّدة، فالجماهير انتقلت بظهور عصر الرقمنة من الوسيط الكتابي إلى الوسائط المتعدّدة وأصبحت الرواية المكتوبة، ومعها الكتاب، محل إعراض القراء الذين باتت تستهويهم منتجات العولمة الأثيرية الناعمة، وكثر الحديث في الآونة الأخيرة حول النهايات البدايات: نهاية المؤلف وميلاد القارئ، سقوط النخبة وبروز الشعبي، موت الأدب وميلاد الأدب الرقمي التفاعلي، نهاية الحدود والجغرافيا وميلاد الفضاء اللامكان” حسب ما أشار إليه الدكتور صلاح.
وأوضح هنا “من بين الروايات الرقمية التفاعلية التي ظهرت في الآونة الأخيرة روايات الأديب الأردني محمد سناجلة، منها “ظلال العاشق” و«شات” و«صقيع”، إضافة إلى المبدع الجزائري الشاب حمزة قريرة الذي كتب رواية “الزنزانة رقم 6” وهو عمل رقمي تفاعلي يشترك القارئ مع المبدع في رسم مسار الأحداث والنهايات التي لا تزال مفتوحة”.
وعما إذا كان مستقبل الرواية في شكل الرواية التفاعلية قال: “يرى النقاد أن المستقبل شئنا أم أبينا سيكون للرواية التفاعلية، إلا أنّ هذا الحكم فيه نوع من المبالغة لعدّة اعتبارات، منها أنّ هذا النوع من الكتابة الإبداعية جديد وما يزال في مرحلة التجريب، ولم يبلغ مرحلة النضج والاكتمال، ومن غير المنطقي الحكم على تجربة ما تزال في مرحلة التشكّل”.
الدكتور حمزة قريرة: الأدب التفاعلي يؤسّس لنصّ دون مؤلّـف
يقول أستاذ السرديات العربية الحديثة والأدب التفاعلي بجامعة قاصدي مرباح بورقلة، البروفيسور حمزة قريرة ، في حديث لـ«الشعب” إنّ الأدب التفاعلي هو الذي يقدّم عن طريق الوسائط الالكترونية، سواء كان قصيدة أو نصّا نثريا أو مسرحية، مشيرا إلى أنّ كلّ أدب يتم تقديمه عن طريق الوسيط، نسميه أدبا رقميا أو إلكترونيا، ولا يمكن إطلاق تسمية أدب تفاعلي إلا إذا تضمّن أربعة شروط، على اعتبار أنّ الأدب المكتوب بخط اليد يصبح مرقمنا، ونستطيع قراءته من الجهاز، لكنّه يفتقد إلى عنصر التفاعلية..
بالانتقال من الأدب الرقمي إلى التفاعلي، فإنّ العملية – يقول البروفيسور قريرة – “ليست وليدة كتابة نصّ على فايسبوك أو التويتر كما يعتقد كثيرون، وإنّما هي عملية ترتبط بكتابة نصّ مبني على الفلسفة التفاعلية، فهو قبل أن يكون أدبا، يمثل فلسفة، شأنها في ذلك شأن الكتابة الورقية التي تحمل بعدين، بعد طولي وآخر عرضي مرتبطة في الأساس بالمتلقّي وقراءة النصّ من اليمين إلى اليسار، إذ أنّ عين المتلقّي تنتقل في البعد الأول والثاني طوليا وعرضيا، فأيّ مؤلّف يقوم بتأليف نصّ شعري أو أدبي أو إبداعي في النصّ الورقي، يعتمد على مخيال معين ومرجعية معينة يستند إليها في الكتابة، ويحول هذه المرجعية إلى كتابة ثم يقوم بالخط ليقوم المتلقّي بعملية التأويل وفق العملية التقليدية المعروفة نصّ موجّه، مرسل، ومرسل إليه، لكنّ الأمر مختلف تماما في “الأدب التفاعلي” من حيث الفلسفة، فالأدب التفاعلي – يقول قريرة – يقوم على أربع مقوّمات ويحمل أربعة أبعاد وليس بعدين فقط، بمعنى أنّ العملية تقوم على قراءة النصّ طوليا وعرضيا، بالإضافة إلى العمق أو الارتفاع، وبعد رابع هو الزمن، ففي الأدب التفاعلي، يمكننا الانتقال إلى الأمام أو الخلف بشكل حرّ، لذا يعتبر بعد “الزمن” بعدا جديدا بالنظر إلى الكتابة الورقية، ولأنّ إنتاج النصّ في الأدب التفاعلي مرتبط بنصّ ذو الأربعة أبعاد، يتم تلقّي النصّ فيها من طرف المتلقّي الذي بدوره عليه أن يفكّ الشيفرة وفق الأبعاد الأربعة المذكورة آنفا”..
أما فيما يتعلّق بخصائص النصّ التفاعلي ومكوّناته الأساسية، يرى المتحدّث أنّ الأمر يتعلق بأربع مكوّنات، وهي “المكوّن اللّغوي” وهو عنصر مشترك مع الأدب المكتوب الورقي، غير أنّه يكون مختلفا في النصّ التفاعلي، ويتميّز بأنّه غير منته ويفتح الأقواس، أمّا المكوّن الثاني فهو غير لغوي، تمثله العلامات غير اللّغوية أو ما يعرف بالملتيميديا بشكل عام، مثل الصورة، الصوت، الحركة وغيرها ممّا يعطي للنصّ التفاعلي ميزة أساسية، ويؤدّي حذف أيّ رمز منها إلى تغيير في المعنى أساسا، وبالنسبة للمقوم الثالث، فيتعلق بما هو برمجي، فأيّ نصّ تفاعلي يحتاج إلى لغة برمجية معينة، قد تكون برنامجا خاصا بالنصّ التفاعلي أو موقع ويب، ليأتي في النهاية المقوم الرابع المرتبط بالجانب التفاعلي للمتلقي مع النصّ، يكون من خلال إضافة وصلات نصية للنصّ، وليس إضافة تأويل فقط كما هي الحال في النصّ الورقي.
ويذهب الأستاذ قريرة إلى أنّ الأدب التفاعلي يؤسّس لنصّ بلا أب، ولهذا لم يعد مجرد أدب تفاعلي فقط بل هو فني تفاعلي، وعلى هذا الأساس، فالمتلقّي لا يكتفى في هذا اللون بالقراءة والتبويب فقط، بل يضيف وصلات نصية ويبقى فيها سرد النصّ مفتوحا على إعادة الإنتاج، بل وحتى الترجمة إلى كلّ اللّغات، ولهذا فالأدب التفاعلي يقرب المسافة، وأضاف: “إنّنا فعلا نعيش عصر الرواية التفاعلية بالرغم من الحركة البطيئة للرواية التفاعلية العربية مقارنة بالغربية، وهذا راجع إلى أنّ المتلقّي العربي ما يزال متعوّدا على الرواية والنصّ الورقي، ولهذا – يقول – “سنعيش عصر الرواية التفاعلية آجلا أم عاجلا، لسبب بسيط هو أنّ الألواح الذكية سيصبح سعرها أقلّ بكثير من الكتاب الورقي، فسعره أقلّ من كتاب واحد، في حين أنّ جهاز الأيباد يمكن أن يحمل ويخزّن أكثر من 20 مليون كتاب مثلا.. المسألة هنا اقتصادية أكثر، أما المسألة الثانية، فهي متعلّقة بالسرعة، فالكتاب الالكتروني يمكن أن تحمله في لمح البصر، ناهيك عن أنه يمكن أن يتوفر مجانا” .
واعتبر المتحدّث أنّ الوطن العربي لا يزال بعيدا جدّا عن الأدب التفاعلي مقارنة مع الغرب، لأسباب عديدة..
الدكتورة حلايمية: هل تصمد الرواية التقليدية في العصر الرقمي؟!
أكّدت الدكتورة دلال حلايمية أنّ العالم الورقي المكتبي تحوّل من الواقع الفعلي إلى الواقع الافتراضي، حيث سيطرت الصورة والحركة والصوت والروابط، والوسائط على المجال الإبداعي، منتجة جمالية جديدة للأدب البديل. وأشارت في حديثها مع “الشعب” إلى أنّ ميلاد الرواية التفاعلية يشكّل – فعلا اليوم – تهديدا للرواية الورقية التقليدية.
ترى الدكتورة دلال حلايمية، أنّه بعد الانقلابات الجذرية التي أحدثتها الرقمنة والتطوّر التكنولوجي، كان لابد للأدب – وهو ابن بيئته ونتاج تأثر وتأثير- أن يكتسب ميزات جديدة، وينفتح كاسرا أبواب بوتقته، لتتمخّض عنه أجناس تكتسي صيغة العصر، ومن أهمها الرواية، التي تعدّ من الكتابات الأكثر قدرة على استيعاب التطوّرات التي تحدث في المجتمعات على جميع النواحي.
ومن خلال العلاقة التي حدثت بين الأديب والتكنولوجيا، تقول دلال حلايمية، تحوّلت الرواية من الورقية إلى التفاعلية، وهي كما قال مونتي في كتابه (نحو نظرية للرواية التفاعلية): “هي نصّ مغامرات أو ألعاب، ويربط السرد فيها بين لعب وقصّ”، ومن أهم كتاب الرواية العربية التفاعلية: محمد سناجلة، صالح جبار محمد، محمود عبد الحليم، ياسين أحمد سعيد، داليا مصطفى صلاح وغيرهم، ومن المحاولات الإبداعية الجادة للولوج إلى عالم الرواية الرقمية والتفاعلية الجزائرية: حمزة قريرة في “الزنزانة رقم 6”؛ وعز الدين جلاوجي في روايته “الشجرة التي هبطت من السماء.”
وأضافت: “وبما أنّ هذا التطوّر قد خلق حديث البدايات والنهايات، ومصطلح الموت، كان لزاما على الرواية التفاعلية أن تكون حقلا كذلك للبداية والموت، وهي أطروحة أطلقها مفكرو ما بعد الحداثة، ولكن أيّ نهاية وموت في الرواية؟.”
لفتت المتحدّثة – في السياق ذاته – إلى أنّه إذا تمعنّا فإنّنا نجد المقولة تؤكّد موت المؤلف وإحياء القارئ، فمع كسر خطاطة الإبداع الثلاثية (مؤلف/ نصّ/ قارئ)، يفتح المجال السيبراني طريقا نحو ميلاد القارئ وموت المؤلّف، فتتوسّط الآلة بين النصّ ومتلقيه، وهي معادلة توافق العقل الرقمي الذي صنعته التقنية، مشيرة إلى أنّ فكرة الموت والنهايات لم تكن حديثة، إذ لها جذور مع “هيجل ونيتشه وصولا إلى فوكوياما وبارت، ليتحوّل العالم الورقي المكتبي من الواقع الفعلي إلى الواقع الافتراضي، حيث سيطرت الصورة والحركة والصوت والروابط، والوسائط على المجال الإبداعي، منتجة جمالية جديدة للأدب البديل.
وقالت حلايمية: “وإن توجّهنا للحديث عن النهايات فميلاد الرواية التفاعلية يشكّل – فعلا اليوم- تهديدا للرواية الورقية التقليدية، إذ أنّ كلاّ منهما موجّه للقارئ، ولكن الرواية التفاعلية كانت أكثر حرصا وتأكيدا على القارئ الفاعل، وفي هذا المجال يشير الدكتور عمر زرفاوي إلى أنّ: الرواية التفاعلية كأحد أشكال الأدب التفاعلي تعتمد كسر النمط الخطي الذي كان سائدا مع الرواية التقليدية أيّ الرواية المقدّمة على وسيط رقمي يلتزم فيها المبدع خط سير واضح غالبا، يتبعه القارئ الذي لا يحاول مخالفة هذا الخط، وما نراه اليوم من التعايش المتلازم بين الإنسان والآلة المرتبطة بشبكة الأنترنت”.
وأردفت حديثها: “نجد أنّ الرواية الورقية قد وقعت في مأزق الوصول إلى القارئ الجديد الذي يسيطر عليه العالم التشعبي، والذي منحه بدوره مساحة إبداعية تفاعلية تزيد عن مساحة المبدع الأصلي، لجمع شذراتها وتأويلها وحتى تفكيكها، ومهما حاولت الرواية الكلاسيكية أن تثبت استمرارية وجودها وتصدّيها، فإنّها لن تتمكّن من طمس السؤال المطروح: إلى متى ستصمد الرواية بصيغتها الورقية أمام هذا الإعصار الذي أحدثته الرواية التفاعلية؟ والتي بدورها عبّرت عن روح العصر، وغامرت بكلّ تقنياتها للوصول إلى القراء في مختلف أنحاء العالم وتقديم صورة جديدة ومتجدّدة للأدب، بشرط أن يتمكّن الأديب العربي من تقنياتها.