اثنان وستون عاماً تمر على استقلال الجزائر واستعادة مجدها وحرية شعبها بعد 132 سنة كاملة تحت استعمار استيطاني شرس، استهدف الإنسان والأرض والتاريخ والثروة والهوية، وسعى بخبث ووحشية – لطالما ميزت الغزاة المحتلين في كل الأماكن والأزمنة – إلى إبادة الشعب الجزائري الأبيّ، واستبداله بشعب دخيل أوروبي، من أجل إفناء الأمة الجزائرية العريقة وانمحائها، واستئصال جذورها النابضة بالحياة، والتي تضخ الشجاعة والشموخ والعظمة في قلب البشرية منذ مئات السنين.
بقلم المجاهد صالح قوجيل
رئيس مجلس الأمة
إثنان وستون عاما مضت على أعظم الانتصارات التي خلّدها التاريخ المعاصر بماء الذهب، وحُفرت عميقا في الذاكرة الإنسانية العالمية، فكانت نورا تهتدي به الشعوب المستعمرة في طريقها نحو استعادة حقها المشروع في الحرية والسيادة وتقرير المصير، وإلهاما جديدا لإيديولوجيات مناهضة الاستعمار في العالم، يؤكد أن العزيمة تُروّض الزمن، وقوة الشرعية تعيد حتما ودوما عجلة التاريخ إلى مسارها الصحيح ولو بعد مائة عام.
إنّني أستحضر في كل ذكرى وطنية مآثر وبطولات ومواقف إنسانية مؤثرة عايشتها عن قرب رفقة إخواني الشهداء والمجاهدين رفاق السلاح في كل شبر من الجزائر إبان ثورة التحرير المجيدة، وخلال المحطات التي سبقتها في الحركة الوطنية، وعلى رأسها مجازر الثامن ماي 45..فيحثني هذا الماضي المشرف والأليم في آن واحد، على الاعتزاز بالحاضر الذي يؤكد بإنجازاته العظيمة منذ عام 1962 في الجمهورية الجزائرية الحرة المستقلة، أن دماء الشهداء وتضحيات المجاهدين لم تذهب سدى، وأن الإنجازات التي حققتها الجزائر بسواعد أبنائها بعد استرجاع سيادتها، ونهوضها من قلب الجحيم كطائر الفينيق ينبعث من رماده، لا يقل عظمة عن معجزة ثورتها وانتصارها على أعتى الامبراطوريات الاستعمارية في العالم آنذاك.
بين فظاعة الأمس..فسحة اليوم وإشراقة الغد
لقد رفعت الجزائر تحديات السنوات الأولى من الاستقلال بكل تعقيداتها في ظل غياب تام للوسائل والخبرات والموارد، ونجحت في رهاناتها بفضل وحدة شعبها، وحافظت بعد استقلالها على وحدة ترابها بفضل بسالة جيشها الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني بحق وجدارة..الجزائر المستقلة أرست مؤسساتها ومارست سيادتها على ثرواتها وعززت بدبلوماسيتها دعمها اللامشروط لقضايا التحرر في كل أصقاع العالم، بعد أن مكنت الشعب من حقوقه الأساسية في الصحة والسكن والتعليم وغيرها، وتجاوزت بجهود جبارة تراكمات خطيرة ومخلفات اقتصادية واجتماعية كارثية، تحفّها مؤامرات ودسائس تحاك مكرا بدولة الثوار الفتية.
الجزائر المستقلة لملمت جراحها بعزة وصبر وبتقدير حكيم لأولويات مرحلة حرجة وقفت فيها بشموخ على كتل من الخراب، إذ باشرت بإقامة المؤسسات – فهي دوما وأبدا الخطوة الجوهرية الأولى حين تنزلق الدولة نحو الانهيار أو تكاد – وبدأت بالسلطة التشريعية ممثلة في الجمعية الوطنية التأسيسية التي أقرها استفتاء سبتمبر 1962 تكريسا للسيادة الشعبية وإرساءً لمبادئ الديمقراطية التشاركية، ثم إعداد تنظيم إداري جديد لتسيير الدولة..تُوّج بدستور وميثاق 1976، كان مسبوقاً بقانون وميثاق البلدية عام 1967 وقانون وميثاق الولاية العام 1969.
كما تبنّت الدولة الجزائرية ديمقراطية التعليم ومجانيته باعتباره خيارا يتماشى وطابعها الاجتماعي الذي نص عليه بيان أول نوفمبر 1954، فالتحق آلاف الأطفال بمقاعد الدراسة رغم العجز الكبير في الوسائل البيداغوجية إذّاك، وهم اليوم يناهزون 11 مليون متمدرس في مختلف الأطوار الدراسية..كما استعادت الجزائر سيادتها الكاملة على نظامها المصرفي لتمويل انطلاقتها التنموية، وذلك عبر تأميم البنوك الأجنبية عام 1966..وكذا، على ثرواتها الباطنية لوضع حد لكل أشكال الاستغلال والتبعية، والمضي قدما نحو تحريك عجلة الاقتصاد لفائدة الجزائريين وليس سواهم.. فأمّمت المحروقات سنة 1971 لتصطفّ في قائمة الدول الأساسية في السوق النفطية العالمية، وهي الآن بصدد تجاوز هذه المرحلة نحو خيارات أوسع وآفاق أرحب في كنف اقتصاد المعرفة والبدائل الاقتصادية الجديدة.
وفي سنتها الثانية والستين بعد الاستقلال، ها هي الجزائر اليوم ترفع تحديات وطنية وإقليمية ودولية جديدة في ظروف عالمية استثنائية، وتنهل من مآثر ذاكرتنا الوطنية لتستلهم نهجا جديدا من عهد نوفمبر 54 قائم على 54 عهدا نوفمبريا، يؤسس لبناء الجزائر الجديدة التي يرسي دعائمها رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، وفق مبادئ دستورية راسخة وممارسة ديمقراطية حقيقية تعبر عن الإرادة الحرة للشعب الجزائري..
هذه الإرادة الشعبية التي تشكّل دوما وأبدا مصدر التغيير والتجديد والإصلاح والبناء، بدءا من حرب التحرير المظفّرة، حيث حافظت هذه الإرادة على الجزائر من الزوال، مرورا بالحراك الشعبي المبارك الذي أنقذ الدولة من “الانصهار” وصولا إلى الاستفتاء الشعبي على دستور الفاتح نوفمبر 2020، والذي انتشل البلاد من التوهان وهيمنة الفساد، وأعاد ضبط بوصلتها ووجهتها الصحيحة نحو بناء دولة المؤسسات والحريات والعدالة الاجتماعية، مرتكزاً في ذلك على وثيقة نوفمبر الخالدة…
لذلك، من الواجب التأسي بالماضي وبتاريخ الجزائر العريق وبكل ما جسدته الثورة التحريرية، من أجل استخلاص العبر والدروس في تحلي كل مناضلي ومناضلات الحركة الوطنية من عهد المقاومة الى زمن الثورة التحريرية ، بقيم الوحدة والتضحية والتضامن والتجرد من كل الاعتبارات الشخصية والمادية والحزبية في سبيل تحرير الوطن…لقد شكلت تلك المصفوفة القيمية الأساس الذي تحقق بموجبه الاستقلال السياسي للجزائر، ونحن اليوم جميعا وبصفة أخص جيل الاستقلال ، بحاجة للاستدلال بهذه القيم، بل أقول من الضروري التحلي بها، متزودين أيضا في ذلك بالعلم والمعرفة والتكنولوجيات الحديثة، لاستكمال المسار التحرري الوطني باستقلال اقتصادي حقيقي والنهوض بالجزائر الجديدة لفائدة جيل الحاضر والمستقبل.
بعد اثنين وستين عاما من الاستقلال، تبقى هذه القيم والإرادة الشعبية الحرة ونار الوجود مستعرة في مُهج الشعب الجزائري الثائر، حجر الأساس في كل المراحل التاريخية التي تشهدها الجزائر وتحياها، وهي على موعد جديد لأداء دورها الحاسم – كما كل مرة – من أجل تأكيد استحقاق الشعب الجزائري لحصاد الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي خاضتها بلادنا بنجاح لافت، رغم جسامة التحديات وصعوبة الرهانات واستمرار الدسائس التي لا تزال تكيد مكرا بالدولة الأبية..سيتم ذلك – بحول الله – عبر المشاركة الواسعة في الاستحقاق الرئاسي المقرر تنظيمه في السابع من سبتمبر 2024، والعمل بكل وعي ومسؤولية على إنجاح هذا الحدث الوطني الهام، وتحصينه بتقوية اللحمة الوطنية، وتمتين الجبهة الداخلية وتغليب روح المواطنة على محاولات التضليل المشبوهة..ستسجل إرادة الشعب حضورها بقوة كما عهدناها في كل المراحل المفصلية، إعلاءً لمصلحة الوطن، ووفاءً لخارطة الطريق التي رسمها بيان أول نوفمبر 54، وتجسيدا للوصية المنقوشة في وجداننا والتي حملها جيل الثورة عن الشهداء وستتناقلها الأجيال القادمة جيلا بعد جيل وتعمل لأجل صون وتخليد إرث الآباء والأجداد يعصمنا من الوقوع في الأذى: “اتهلاو في الجزائر”.