أصدر المجمع الجزائري للغة العربية عددا جديدا من مجلته الدولية المحكمة. وتناول هذا العدد جملة من المواضيع، من الشفاهي والكتابي في اللغة العربية، إلى الكتابة والتواصل. وسجّل الشعر حضوره بمقالين دوليين.
تضمنت المجلة نظرة على راهن معاجم الرياضيات في العالم العربي، ومحاولة لتفسير الظواهر النطقية للحروف المفخمة العربية، عن طريق التحليل الفيزيائي للكلام باستغلال وسائل التكنولوجيا الحديثة والبرمجية الحاسوبية.
صدر مؤخرا العدد السابع والثلاثون من مجلة المجمع الجزائري للغة العربية. وتضمن هذا العدد الجديد، الذي جاء في أكثر من 140 صفحة، ست مقالات أكاديمية، تراوحت مواضيعها بين اللسانيات، والتأويل، واستعمال البرامج الحاسوبية، ودراسة الأسلوب وجماليات البنية اللغوية.
جاء المقال الأول في المجلة تحت عنوان “اللغة العربية الفصحى بين المشافهة والكتابة” لمؤلفه عبد الرزاق عبيد (جامعة الجزائر 2)، ويرى هذا الأخير أن اللغة العربية الفصحى، شأنها شأن جميع اللغات البشرية الطبيعية الأخرى، كانت تتشكّل من لهجات عديدة متقاربة لا تحول دون التبليغ بين أفراد المتحدثين بها مشافهة، ومع مرّ الزمن أخذت تتقلص شفاهيا وتتوسّع كتابيا تاركة المجال للغة عامية هجينة.
وعليه، يواصل عبيد، يتميز المستوى الكتابي بجملة من الخصائص، كما يتميز المستوى الشفاهي بجملة من الخصائص الأخرى، وهو ما أدى إلى قيام كل واحد منهما بوظائف دقيقة في الممارسات التعبيرية. ويستوجب ذلك التنبيه على ضرورة العمل العلمي الدائم لجعل اللغة العربية تتصدّر جميع الوظائف، وتصبح بذلك لغة حيوية تداولية بين جميع أفراد المجموعة اللسانية الناطقة بها.
من جهته، يرى بوجملين لبوخ (جامعة باتنة) في مقاله “الكتابة والتواصل، من دلالة الوضع إلى دلالة الإيحاء”، أن كل تواصل لساني هو محاولة لتأسيس مبدأ إنساني معلّل يسعى إلى إخراج الفرد من عزلته، ودمجه قسرا في شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة على الوعي بضرورة الحوار والتعايش.
ومن هذا المنطلق، تبدأ اللغة في ممارسة سلطتها المطلقة في تحديد طبيعة هذا التواصل وتمثلاته حينما تتكفل بتحويل العالم إلى أنساق من المفاهيم، فتنشأ بذلك مراتب المعرفة، وتتبلور الأفكار، وتتحوّل حواراتنا الرتيبة الجافة بفعل النزعة البراغماتية إلى إبداع وفن وثقافة. وعكس تصوراتنا الساذجة لواقع الحياة، فإن علاقاتنا الحقيقية لا يمكنها أن تستمر إلا وفق ما تمليه سلطة الفهم التي تنشأ تبعا لإملاءات مرهونة بالفعل الثقافي المهيمن.
ويلاحظ الباحث أن الألفة الواقعة بين الراهن والمستقبل، ترصعها ثلاثية: الهوية/ اللغة/ الثقافة التي تتجلى بالكتابة، وعليه فالكتابة ليست مسألة صياغة لغوية فحسب، بل طريقة في التفكير والتحليل والوجود، النصي منه على الأقل، إنها شكل حضور الذات في اللغة والفكر، حضور يقوم على التأسيس لتأويل يعتمد الحرية الذاتية للقارئ في بناء النص.
العلوم الدقيقة في خدمة اللغة العربية
وينقلنا كمال فرات (مركز البحث العلمي والتقني لتطوير اللغة العربية) إلى مجال آخر في مقاله “تفسير الظواهر النطقية للحروف المفخمة العربية عن طريق التحليل الفيزيائي بالبرمجية الحاسوبية (praat)”، حيث قام الباحث في هذه الدراسة بمحاولة تفسير الظواهر النطقية للحروف المفخمة العربية، عن طريق التحليل الفيزيائي للكلام باستغلال وسائل التكنولوجيا الحديثة والبرمجية الحاسوبية (Praat)، بغية الوصول إلى رأي حول الظاهرة في ضوء الخلافات المتعددة التي تتعلق بالأوضاع والحركات التي تأخذها الأعضاء النطقية أثناء النطق بالحروف المفخمة، فضلاً عن التأثير الصوتي الفيزيائي أو الأكوستيكي الناتج.
ويرى الباحث أن التحليل الفيزيائي للكلام مجال مهم يساعد كثيرا في دراسة وتفسير موضوعي وملموس للظواهر النطقية الخاصة باللغة العربية مثل التفخيم، التشديد، مخارج وصفات الحروف، وغيرها. ويمكن استغلال البرمجيات الحاسوبية في دراسة وتفسير ظواهر التفخيم وغيرها في اللغة العربية، وما ينتج منها من حركات فيزيولوجية أثناء النطق، وقد تساهم بشكل فعّال في موضوعية الدراسات المتعلقة بالصوتيات بتزويد الأخصائيين في الميدان بالعديد من المعطيات الملموسة والدقيقة، على شكل منحنيات طيفية وبيانات رقمية تخرجنا من دائرة التفسيرات النظرية المبنية على الوصف، إلى التفسير الموضوعي المبني على الدليل الملاحظ والتدقيق.
أما أبو بكر خالد سعد الله (المدرسة العليا للأساتذة، القبة) فيتناول في مقاله “الوضع الراهن لـمعاجم الرياضيات في العالم العربي” عرضا لجهود عدد من المجامع العلمية اللغوية، والمؤسسات العربية، وحتى بعض الجهود الفردية، التي رافقت عملية التأليف بالعربية في ميدان الرياضيات لقطاع التعليم العالي في الوطن العربي، واشتغلت على توفير منظومة من المصطلحات في ذلك.
وعرض الباحث أهم ما تميزت به من الخصائص الإيجابية ومن النقائص، معرّجا على أهم الصعوبات التي اعترضت تلك المشاريع، ومحاولا تقديم جملة من اقتراحات الحلول الناجعة لتجاوز هذه الصعوبات.
الشعر.. الحاضر دوما
إلى الشعر العربي، يأخذنا مقال “أسلوب الإنشاء في مطالع قصائد المعلّقات” للباحث أحمد الأعرج (جامعة دمشق). وتهدف هذه الدراسة إلى تفسير مجيء جملة من الأساليب الطلبية في مطلع المعلقات، وقد عنيت أيضا ببيان أثر هذه الأساليب في ذهن المتلقي، ومدى الاستجابة الحاصلة منه، فعمدت الدراسة إلى تعريف الأساليب الطلبية التي انحصرت في الأمر، والاستفهام، والنداء، وحاولت التماس ما وراء ذلك وتعليله، بتعريف هذه الأساليب الثلاثة وتبيان أهميتها، مع السعي إلى التماس الأسباب التي دعت هؤلاء الشعراء إليها، ومحاولة إيضاح الأغراض البلاغية الناتجة عنها.
ووصلت هذه الدراسة إلى أن لهذه الأساليب أثرها وقوّتها في التأثير بالمتلقي، وشدّ انتباهه، وتشنيف أسماعه، وإثارة خياله.
واختتمت المجلة مقالاتها بمقال “جماليات البنية اللغوية في شعر هند المطيري، دراسة نصية في نماذج مختارة” للباحث باجابر نوير (جامعة أم القرى، مكة المكرمة)، الذي يرى أن الدراسات النقدية العربية قد شهدت، في الثلث الأخير من القرن العشرين، تطورا لافتا على الصعيدين النظري والتطبيقي، بفضل توظيف مناهج نقدية ولغوية غربية، أفاد استثمارها في انفتاح النقد الأدبي على مستويات نصية، وزوايا جمالية لم تكن مكتشفة من قبل، بسبب هيمنة النقد الانطباعي والقراءات التاريخية للنص الأدبي، والنظرة التجزيئية للقصيدة. ولعل توظيف التحليل البنيوي للنص الشعري، والنظر إلى القصيدة بوصفها كلا متكاملا من البنى والأغراض والدلالات أسهم في استكشاف جمالية القصيدة العربية.
وانطلاقا من هذه الرؤية، سعى الباحث من دراسته هذه إلى تحليل نص شعري عربي سعودي بوصفه مثالا للخطاب الأدبي من زاوية جمالية بنيوية، تركز على سماته الأسلوبية وملامح الانسجام النصي متعدّد المستويات.
للتذكير، فإن مجلة المجمع الجزائري للغة العربية مجلة علمية دولية تصدر منذ 2005، ذات وصول مفتوح، وخاضعة لعملية مراجعة النظراء، وهي نصف سنوية تصدر في شهري جوان وديسمبر من كل سنة. وهدف المجلة الرئيس الإسهام في بناء مجتمع المعرفة من خلال توفير منصة للباحثين الوطنيين والدوليين.