يشكّل الفن عامة والفن التشكيلي بشكل خاص ـ على الدّوام – متنفسا للمبدعين والفنانين، ومأوى لشعورهم الداخلي، يبرزون من خلاله ميولاتهم وتعاطيهم مع الحياة وظواهرها، ويوظفون إبداعاتهم في نتاج فني، وفي صور وأشكال فنية إبداعية، يكون لها الأثر البالغ على الحركة المعرفية والثقافية، وعبر إسهامها البارز في تحقيق ذلك التناغم القائم بين الفكر والإبداع فيتحقق بذلك التراكم المعرفي والجمالي، خاصة إذ استلهم هذا النتاج الفني الإبداعي من خلال استقراء الموروث المادي واللامادي، واقترن في رمزياته ودلالاته بعادات وتقاليد تكون بمثابة توثيق وسجل يُنقل بأمانة للأجيال القادمة.
الفنان وأستاذ النقد الأدبي بجامعة ابن خلدون بتيارت، الدكتور منصور مهيدي، واحد من أولئك الذين ينتمون إلى هذا النسق الفني والمعرفي، استطاع من خلال أعماله أن يزاوج بين النقد الأكاديمي الأدبي والفن التشكيلي، ويطمح من خلال مشروعه إلى تأسيس مدرسة تحمل اسم “الرقام” يحفظ من خلالها موروثنا الثقافي العريق، حماية له من الاندثار والتلاشي أمام طغيان الآلة، باعتباره يشكل هويتنا ويمنحنا الخصوصية والكينونة الثقافية التي تميزنا عن غيرنا، وتساهم في لحمة الوطن ووحدة هذه الأرض الطاهرة.
الموروث الثقافي الجزائري..
يقضي الفنان منصور مهيدي معظم وقته في مداعبة الريشة ورسم العديد من اللوحات الفنية بعناية وتأنّ وبحث في كل ما له علاقة بالموروث الثقافي الجزائري دون ملل ولا كلل، ولا يقل حرصه في ذلك في مساحات الأدب والنقد، فالرجل فنان تشكيلي وخريج معهد الفنون الجميلة بمستغانم، ويعيش شغفا كبيرا بالبحث العلمي والاهتمام بالتراث الجزائري، ومنه تتدفّق إسهاماته الثقافية عبر حصص إذاعية، أبرزها حصة “لطائف المعارف” و«شمس الأثير” و«عين على الحداثة” التي تبث على أثير إذاعة تيارت.
يستلهم الفنان التشكيلي منصور مهيدي معظم أعماله الفنية والتشكيلية، من الرسومات والنقوشات المدرجة في “الرقامات التقليدية” الموجودة في الزرابي والسجاد.. يستلهم منها المعنى ويحولها بأنامله الإبداعية وريشته إلى لوحات فنية تشكيلية بالألوان الزيتية على القماش وبالألوان المائية على الورق، لتبحر بالمتمعن في تشكيلها إلى عبق التاريخ.. إلى عادات الأجداد والأسلاف، فكل شكل ورسمة تتضمنها اللوحة الزيتية تحمل حكاية أو قصة يستلهمها الفنان من تلك الرسومات التي أبدعت جداتنا في نسجها على السجاد والحنبل، أو نقشها على ألواح خشبية تمثل التراث المادي واللامادي للأمة الجزائرية عبر العصور.
يعمل الفنان التشكيلي منصور مهيدي على المزاوجة بين الفن التشكيلي والنقد الأدبي، ويقول إن “الفن هو إبداع، هو خلق، هو كينونة المبدع الجمالية التي تتجاوز الكائن إلى ما ينبغي أن يكون من خلال فعل التخييل والذوق المتعالي والتشكيل والتركيب والتصميم المتناغم والمدروس”، ويضيف: “ورشتي الفنّية هي الملاذ الآمن من صخب الحياة وتضاريسها، أو بالأحرى بمثابة بوابة انتقل من خلالها من عالم الوعي إلى عالم اللاوعي، حيث تتزاحم الأشكال وتتباين الألوان وتتوازن المساحات وتتداخل الرموز بالأفكار، كما أن مداعبة الريشة داخل الورشة، هو إحساس وشعور داخلي باذخ وقلق وتوتر أحيانا أخرى، شعور يعجز اللفظ عن وصف منتهاه، فتقف ألفاظي قلقة متوترة أمامه، شعور يتنامى ورؤيا المبدع المجنحة في ملكوت الوعي والمخيال، لذا يقال: كلما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة”.
بداية الرحلة..
يتحدّث الفنان منصور مهيدي عن بداياته الأولى في عالم الرسم، مشيرا إلى أن أول رسمة له، تمثلت في شخصية “الأمير عبد القادر الجزائري، وعبد الحميد بن باديس”، وقال في حديث مع “الشعب” إن أول عهد له مع الريشة والقلم كانت منذ الصغر وزمن الصبى، حيث كانت تقتصر في البداية على محاولات محتشمة كأي بداية لأي فنان محب للاكتشاف، مسافر في الفضول، مريد للإبحار في مساحات الألوان الزاهية والمتدرجة والمركبة، وأشار إلى أن أول رسم ظلّ منقوشا في ذاكرته عبارة عن بورتريه للشيخ عبدالحميد بن باديس على الورق الأبيض، وبورتريه ثان خاص بمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر رسمه على صفيحة من الخشب، ثم بدأت موهبته تكبر وتتنامى شيئا فشيئا بالاحتكاك والتكوين والمشاركات.
يعمل الفنان “مهيدي منصور” على الحفاظ على الموروث الثقافي من الزوال في ظل طغيان الآلة والذكاء الاصطناعي.. يقول: “إن جل أنشطتي الثقافية والإذاعية تسير وفق منحى الحفاظ على كل أشكال الموروث الجزائري سواء المادي أو اللامادي، والعمل وفق ثنائية الحفاظ والتجاوز والعمل على مسايرة لغة الرقمنة التي أضحت من الضروريات، إضافة إلى العمل على صناعة المحتويات وتوظيف الذكاء الاصطناعي في التخزين والتعريف بموروثنا الثقافي الزاخر، أما تقنيات الرسم والفن التشكيلي، تبقى تقليدية أحسن من أن ندخلها في عالم الرقمنة”.
مـدرسة “الرقام” مشروع قادم..
يطمح أستاذ النقد الأدبي بجامعة تيارت، منصور مهيدي، إلى تأسيس مدرسة تتولى مهمة الحفاظ على هذا الموروث الثقافي حماية له من الاندثار، على اعتبار أن هذا الموروث الثقافي يشكل هويتنا وأصالتنا المائزة عن باقي الهويات والثقافات الأخرى، والتي تمنحنا خصوصيتنا وكينونتنا الثقافية، كما تساهم في لحمة ووحدة البلاد.
وقال، “اخترت اسم الرقام كفكرة لتجسيد مشروع يُعنى بحماية الموروث الثقافي، اقتداء بالفنان والأستاذ محمد وضاي الذي اختار هذا الفن، وأنا من الذين اجتهدوا ولازالوا يشتغلون من أجل تطوير هذا الفن التراثي الذي وجدنا تشكيلاته ووحداته الفنية الضاربة في التاريخ عبر كل الحضارات سواء في السجاد أو الوشم أو صناعة الحلي والخزف”..
ويعود الفضل في صقل هذه التجربة لديّ إلى كل الذين علموني وساعدوني في اقتحام هذا العالم الفني، أذكر على رأسهم المعلم الأول الذي حرّك البحث في هذا المجال الأستاذ الفنان محمد وضاي الذي حاول أن يدرج تصميمات الرقامات التقليدية الموجودة في الزرابي والسجاد في تشكيل لوحاته الفنية بالألوان الزيتية على القماش وبالألوان المائية على الورق.
رسومات السجاد.. مضامين تراثية راقية
ويبرز مهيدي منصور في حديثه أهمية حرفة صناعة السجاد بالجزائر وما تعنيه تلك الرسومات التي تتضمنها الزربية، مبرزا أن صناعة السجاد بالجزائر أو نسيج الزرابي كما يطلق عليه في بعض المناطق (الحنبل) قديمة جدا قدم الإنسان فوق الأرض، كانت بداية حياكته من جلود الحيوانات وشعرها ووبرها وجريد النخيل والقصب، ثم تطورت صناعة السجاد مع ظهور الخيط والخياطة والنسيج الصوفي، ثم أدخلت عليه بعض المهارات والتصاميم والصباغة والألوان، حتى أصبحت كل منطقة تتفرد عن غيرها بألوان السجاد ورموز الزرابي والألوان والتشكيلات الخاصة بها.
ويفصل المتحدث أكثر في وصف الفروق التي تحتويها الرسومات والأشكال الرمزية للسجاد أو الزربية الجزائرية بالقول، إن هناك فروقا متباينة بين كل زربية وأخرى، تعبر مضامينها عن بعد اجتماعي وثقافي وتاريخي لكل منطقة، فالأشكال والتصاميم والرموز الموجودة في الزرابي والسجاد والوسادات وحتى الوشم، يحمل دلالات جمالية وتاريخية متداخلة، خاصة بكل منطقة أو بكل قبيلة، كما لها كذلك دلالات اجتماعية كالتكافل والتآزر والزواج وغيرها، ودلالات ثقافية ودينية كالهلال والمآذن وغيرها من الأشكال الهندسية كالمثلث والمعين (المقروضة) والمربع والخطوط المنكسرة .
زربية جبل العمور والزربية الأمازيغية.. جودة عالمية
ويذكر الفنان مهيدي منصور بعض الأمثلة عن الزرابي الجزائرية التي استطاع اسمها أن يحتل مكانة مشرّفة وسط المراتب العالمية، على سبيل المثال “زربية جبل العمور” المنتشرة عالميا والموجودة في الجزء الجنوبي بأفلو، البيض، الأغواط.. وهي معروفة بلونها الأحمر القاني والأسود، ذات رموز مربعة ومعينات (مقروضات) وخطوط منكسرة متداخلة، وعلى الحواف تؤطرها “شراشيف” بالخيط الأبيض المعقود من طرف واحد.
وأضاف أن هناك الزربية الأمازيغية ذات الألوان المتناسقة والجذابة والمزركشة اشتهرت في منطقة القبائل، ولها رموزها وأشكالها الهندسية البسيطة، مثل الخطوط المتوازية والمعينات والمثلثات والمستطيلات، وألوانها المائزة الأحمر والبرتقالي والأصفر خاصة، والتي ورثها الحرفيون عن حضارات ما قبل التاريخ.
حماية موروثنا الثقافي.. ضرورة
ويختتم الفنان والأكاديمي مهيدي منصور حديثه مع “الشعب” قائلا: علينا أن نلتفت إلى موروثنا الثقافي والحضاري، ونعمل على الحفاظ عليه أولا، ثم قراءته وتحليله ثانيا، لما له من قيمة جمالية فنية وتاريخية وانثروبولوجية، ودلالات سيميائية قد نفك من خلالها كثيرا من الألغاز التاريخية والشيفرات الثقافية، مؤكدا على ضرورة العمل على مسايرة التكنولوجيا الحديثة من أجل الحفاظ عليه وتطويره وأرشفته حتى لا يسرق منا وينسب إلى جهات أخرى..