في الوقت الذي يسجّل فيه العالم ارتفاعا في أسهم بعض الدول جراء ما تحققه من نمو واستقرار داخلي وما تثيره من إعجاب بسبب مواقفها الداعمة للقضايا العادلة، تراجعت أسهم المغرب كثيرا، وبات الحديث عنه في الصحافة العالمية مقرونا بمستوى التراجع التنموي والتأزّم الاقتصادي الذي أدخل شعبه في متاهة الفقر ودفعه إلى حافة الانفجار خاصة وهو يواجه مقاربة قمعية يراهن عليها المخزن لإسكات الأصوات المعارضة وترهيب المطالبين بحقوقهم المهنية المشروعة وزجر الداعين إلى اسقاط التطبيع الذي وضع المملكة في مصيدة الاختراق الصهيوني.
الحديث عن المغرب اليوم لم يعد يخرج عن إطار المظاهرات والاحتجاجات اليومية التي تهزّ الشوارع بسبب الأوضاع المعيشية والحقوقية المتردّية، ولم يعد يتوقف عند حالة الاحتقان التي بلغت مستويات قياسية بسبب الغلاء وتراجع التنمية واستشراء الفساد والرشوة والمحسوبية وتزايد المديونية التي ستقود إلى مزيد من الإفلاس والتضخم ورهن مستقبل البلاد والعباد للمؤسسات المالية الدولية.
كل ما نقرأه حاليا عن المغرب في الصحافة العالمية، يظهر وجها شاحبا للمملكة التي تواجه بالفعل متاعب جادّة قد تؤدي الى انفجار أكيد في حالة ما إذا أصرّ الساسة هناك على عدم الاستجابة لنبض الشارع وتمسكوا بسياسة المواجهة القمعية التي تزيد الأوضاع سوءا.
ظروف العيش لا تُطاق
كشفت أرقام رسمية بالمغرب، بخصوص التغير الحاصل على مستوى المعيشة، أن 82.6 في المائة من الأسر أقرّت بتدهور مستوى معيشتها خلال الـ12 شهرا السابقة، وبأن 42.1 منها اضطرت إلى الاستدانة من أجل تلبية متطلباتها الحياتية خلال الربع الثاني من العام الجاري.
وأظهرت نتائج استطلاع للرأي يخصّ الربع الثاني من العام الجاري، أجرته المندوبية السامية للتخطيط، وهي الهيئة الرسمية المكلفة بإجراء الإحصاءات في المغرب، أن 96،4% من الأسر المغربية اعترفت بأن أسعار المواد الغذائية عرفت ارتفاعا، وتوقعت استمرارها في الارتفاع، كما توقعت استمرار ارتفاع مستوى البطالة الذي أدخل الشباب المغربي في حالة يأس وجعل الكثير منه يركب أمواج البحر بحثا عن الخلاص الذي قد لا يأتي أبدا.
هذه الأرقام، تعكس جزءا بسيطا من الحالة الاجتماعية الصعبة التي يعيشها الشعب المغربي دون أن يسجّل أي تحرّك جاد وفعّال من طرف الحكومة التي، بدل أن تتحرك لإيجاد حلول للأزمات المتعددة التي تتخبط فيها المملكة، فإنها فضّلت أن تلجأ إلى خيارات تزيد الأوضاع تدهورا واحتقانا، بداية باعتماد مسلك المديونية، وانتهاءً بانتهاج المقاربة الأمنية لمواجهة أي تحرّكات اجتماعية.
اختلالات في كل القطاعات
لا يمر يوم في المغرب دون أن تسجل احتجاجات لقطاع من القطاعات، فالوضع ملتهب في كل المجالات من الصحة الى العدالة والتعليم والفلاحة والماء. ولعلّ أكثر القطاعات تأزّما هما قطاعي الصّحة والتعليم اللذان يخوضان إضرابات منذ بداية السنة دون ان تستجيب السلطات لمطالبهما، بل على العكس تماما، حيث تعرض عدد كبير من الأساتذة للتوقيف عن العمل وحرم كثيرون من مرتباتهم، ما جعل نقابات التعليم والصّحة تحشد لبرنامج احتجاجي تصعيدي يمتد على طول الشهر الجاري، وسط دعوات للحكومة بضرورة التدخل للاستجابة للمطالب المهنية المشروعة ووقف الاحتقان غير المسبوق في القطاعين والكف عن مواصلة انتهاجها لسياسة “الآذان الصماء”.
وقد هددّت نقابات الصّحة باجتياز موسم صيف مشتعل بأشكال وأنماط احتجاجية جديدة قد تشمل مقاطعة العمليات الجراحية غير المستعجلة وعدم المشاركة في برامج صحّية حكومية ومقاطعة الفحوصات الطبية المتخصّصة بالمستشفيات المتخصّصة”.
وعلى نفس المنوال يمضي قطاع التعليم الذي يعيش هو الآخر حالة غليان طال أمدها، حيث التزمت نقابات التعليم بتنفيذ برنامج احتجاجي تصعيدي، للمطالبة بإرجاع الموقوفين من الأساتذة بدون قيد أو شرط.
وانتقدت نقابات القطاع إصرار وزارة التربية الوطنية على التنكيل بالموقوفين ظلما وجورا والانتقام السافر منهم، واستنكرت المماطلة التي تتعمدها الحكومة في التعاطي مع ملف التعليم وطالبت بسحب كل العقوبات في حق الأساتذة المشاركين في الاحتجاجات وتسوية وضعياتهم المالية والإدارية وحل كل الملفات العالقة وتنفيذ كافة الاتفاقات الموقّعة، داعية رئيس الحكومة إلى ايجاد حل لهذا الملف الحقوقي.
طلبة الطّب ومنكوبي الزلزال
كما يواصل طلبة الطّب والصيدلة حراكهم الاحتجاجي للمطالبة بتحسين ظروفهم التعليمية ورفع الإجراءات العقابية عن الطلبة الموقوفين، لكن لا تبدو الحكومة ولا الوزارة الوصية مكترثتان بإنقاذ السنة الدراسية لهذه الفئة من الطلبة التي قاطعت مقاعد الدراسة لأزيد من سبعة أشهر، وهي متمسكة بمواصلة حراكها حتى تحقيق مطالبها.
وعلى نفس الدرب يسير متضررو زلزال “الحوز” الذين نظموا في أكثر من مناسبة وقفات احتجاجية للمطالبة برفع الإقصاء والتهميش وتحقيق العدالة وللتأكيد على التشبث بحقوقهم المشروعة في الاستفادة من عمليات إعادة إعمار المنطقة، في ظل تماطل الحكومة وإهمالها لقضيتهم.
فبعد مرور 11 شهرا على الكارثة التي هزت المملكة، لاتزال الأسر المتضررة تعيش معاناة حقيقية بسبب استمرار لجوئها في خيام تحت رحمة الطقس لعدم استفادتها من الدعم والبرامج المرصودة للمنكوبين.
وأكد نشطاء بالمنطقة المتضررة أن “آلاف الأسر لا تزال تعيش في الخيام وما زالت قرى بأكملها في العراء بجوار المقابر التي تأوي رفات ضحايا زلزال المدمر، علاوة على مخاطر أخرى بما فيها خطر التعرض للسعات العقارب ولدغات الأفاعي في موسم الصيف الحار”.
وأكد متضررّون من الزلزال أنهم وبعد نحو عام على الكارثة لازالوا يعيشون في ظروف غير مستقرة دون مصدر دخل أو تعويضات أو خطط مستقبلية لبناء منازلهم، وأشاروا إلى أن المبالغ الزهيدة التي رصدتها الحكومة للمنكوبين لا تكفي حتى لإزالة ركام المنازل المنهارة، فكيف تكفي لإعادة بنائها.
قمع يهدّد السّلم الاجتماعي
أمام تصاعد الحراك الاجتماعي، رفع النظام المخزني من وتيرة عنفه ضد الحركات الاحتجاجية السلمية، في محاولة منه لترهيب المتظاهرين وثنيهم عن المطالبة بحقوقهم مستعملا كل الوسائل القمعية المحظورة، من ضرب وتوقيف وتلفيق تهم وسجن.
وفي هذا الاطار، تعرضت القافلة الحقوقية السلمية التضامنية مع مناضلي الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، بمدينة سوق السبت الأحد الماضي، لهجوم شرس، ما نتج عنه عدة إصابات.
وبحسب بيان للجمعية، “تمثلت مجريات القمع الذي طال هذه القافلة التضامنية، التي نظمت تحت شعار “وحدة الصف سلاحنا في مواجهة القمع المخزني”، في الضرب والركل والدفع ومختلف أشكال العنف”.
وهو القمع، تضيف الجمعية، “الذي تسبب في إصابة العديد من المناضلين بأضرار جسمية متنوّعة ما استدعى نقلهم الى المستشفى لإجراء الفحوصات وتلقي الإسعافات الأولية”.
وأدانت الجمعية المغربية، هذا الهجوم المخزني والاستعمال المفرط وغير المبرر للعنف ضد المتظاهرين السلميين، مؤكدة أن “هذا الهجوم يندرج ضمن مخطط الدولة الرامي إلى الإجهاز على الحقوق والحريات، وخاصة الحق في حرية الرأي والتعبير وحرية التنظيم وحرية الاحتجاج السلمي”.
وقبل أيام، قامت السلطات المغربية بقمع مسيرة سلمية للأطر الصّحية، من أطباء وممرضين وتقنيين.
وأظهرت العديد من الفيديوهات، التي نشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التدخل العنيف وغير المسبوق لقوات الأمن المغربية لتفريق المحتجين مما أدى إلى إصابة العديد منهم برضوض، بينما أصيب آخرون بالإغماء.
ونددت العديد من الهيئات والمنظمات والاحزاب المغربية بإمعان المخزن في اعتماد المقاربة الأمنية لمواجهة المطالب المشروعة للعمال، محذرة من سياسة الحكومة التي تهدد بشكل خطير السلم الاجتماعي في البلاد.
وقد شهدت المملكة المغربية في الفترة الأخيرة، تصاعدا ملحوظا في قمع الاحتجاجات السلمية لمختلف القطاعات وذلك من خلال استعمال العنف المفرط ضد المتظاهرين، وتنفيذ اعتقالات تعسفية ومحاكمات غير عادلة تهدف إلى ترهيب وإسكات الأصوات المعارضة.
قبضة حديدية ضد المناوئين للتطبيع
القمع في المغرب يطال أيضا المطالبين بإسقاط التطبيع، حيث زج النظام المخزني بالكثير منهم في غياهب السجون بتهم ملفّقة وبأحكام سجنية مبالغ فيها مثلما حصل مع المدون عبد الرحمن زنكاض الذي تمّت إدانته بخمس سنوات سجنا نافذا على خلفية تدوينات تنتقد التطبيع.
لكن رغم هذا القمع والترهيب، مازال آلاف المغاربة يخرجون في مسيرات حاشدة بصفة يومية للمطالبة بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وآخرها كانت بمدينة طنجة، رفضا وتنديدا برسو سفينة حربية تابعة للكيان الصهيوني محمّلة بالأسلحة الموجّهة لإبادة الفلسطينيين.
وشارك في المسيرة الاحتجاجية، التي دعت إليها الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، عشرات الهيئات والأحزاب والمنظمات وشخصيات سياسية وحقوقية ونقابية مغربية من مختلف القطاعات، بما يعبر عن مدى تغلغل القضية الفلسطينية في أوساط الشعب المغربي الرافض لكل أشكال التطبيع المخزني-الصهيوني الذي فرض عليه بالقوة نهاية عام 2020.
كما طالب المحتجون الدولة المخزنية بإطلاق سراح كل معتقلي الرأي الذين يحاكمون على خلفية التدوين رفضا للتطبيع ودعما للشعب الفلسطيني.
ودعوا الى وقف مهازل بعض المسؤولين والافراد الذين يستفزون الشعب بمواقف انهزامية مهينة، مثل التصرف الأرعن لعميد كلية العلوم بنمسيك بالدار البيضاء الذي رفض تكريم طالبة متفوقة لارتدائها الكوفية، وأدانوا زيارة وفد شباني مغربي الى الكيان الغاصب ورقصه مع الصهاينة على جراح الفلسطينيين.
سقطة تاريخية
ورغم القمع والتنكيل والاعتقالات، لا يتردّد كتّاب مغاربة بشجاعة كبيرة في فضح الاختراق الصهيوني للمملكة المغربية وانتقاد السياسة التطبيعية المخزنية التي لن تجلب غير العار والبلاء، حيث قال الكاتب المغربي أنس السبطي، أن “المتأمل في مغرب ما بعد ديسمبر 2020، يلاحظ أنه فقد زمام أمره وتحوّل إلى ألعوبة في يد الصهاينة”، مشيرا إلى أنه “في الوقت الذي تتصاعد فيه دعوات مقاطعة هذا الكيان المحتل في العالم يصّر المخزن على هذا العار الذي لن تطويه صفحات التاريخ”.
وأوضح أنس السبطي في مقال له تحت عنوان: “ما الفرق بين ميناء طنجة وميناء حيفا؟”، أن “الكيان الصهيوني بعد أن امتلك حرية التصرف في كل مقدرات البلاد بطولها وعرضها، والتي أمست مستباحة له، فإنه ابتدع مزارات يهودية أضفى عليها قدسية كاذبة وتوغل في الأحياء العريقة وأضحت المنتجعات المغربية مستراحا لأصناف من مجرميه”.
وحتى الثكنات العسكرية المغربية – يضيف الكاتب – “اعتاد الضباط الصهاينة على دخولها، واليوم تريح السفن الحربية في موانئ المغرب وتتزود فيها بما يلزمها من مؤن ومن وقود في أريحية تامة كأنها ترسو في أحد موانئ فلسطين المحتلة” متسائلا: “هل أصبح هناك فرق ملموس بين ميناء طنجة وميناء حيفا؟”.
وتوقف الكاتب المغربي في مقاله مطوّلا عند الخبر الذي قال إنه “صدم الشعب المغربي” وهو “سماح السلطة المغربية للسفينة الصهيونية بالرسو في ميناء طنجة الدولي قبل استئناف رحلتها نحو إرهابها لأهل غزة بأطنان من الأسلحة والمتفجرات، والتي حولت أجسادهم الطاهرة إلى أشلاء، مخلفة دمارا هائلا ينتمي إلى زمن الحرب العالمية الثانية”.
وبحسب الكاتب، فإن “المغرب بعد هذه الحادثة تحوّل رسميا إلى شريك في الحملة الإرهابية الصهيونية على القطاع الصامد”، مشددا على أنه “لو كانت هناك عدالة دولية لكان لزاما أن يجر المسؤولون للمحاكم “.
كما أكد أنس السبطي أن رفض اسبانيا لاستقبال السفينة الصهيونية في ميناء إحدى مدنها الساحلية، وقبول المغرب لذلك “أمر مخجل”، حيث قال: “ظهر النظام المغربي بمظهر المرتزق الذي يقبل على نفسه لعب أي دور مهما كان قذرا وهو ما ترفضه الأنظمة التي تحترم نفسها”.
من خلال ما سبق، يتّضح جلياّ بأن النظام المغربي في مأزق حقيقي، فهو عاجز عن مواجهة متاعبه الاقتصادية والاجتماعية، ومدرك تمام الإدراك بأن اعتماده على المقاربة الأمنية القمعية لن ينقذه مما هو فيه، بل سيزيد وضعه تدهورا.
والمفارقة، أن أوجاع المغرب، لا تأتيه من الداخل فقط، فهو يعاني أشدّ المعاناة نتيجة انتكاساته الدبلوماسية المتتالية، وتراجع مكانته الخارجية بسبب فضائح التجسس والابتزاز التي تلاحقه.