إذا كانت حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة منذ عشرة أشهر قد صنعت واحدة من أبشع المآسي الإنسانية، وخلّفت جراحا لن يداويها الزمن، فإنها وعكس ما خطط له الدّمويون الصهاينة، لم تقض على القضية الفلسطينية بل على العكس تماما، حيث زادتها قوة وتحديا وحقّقت لها الكثير من المكاسب، إذ أعادتها إلى الواجهة وحرّكت الرأي العام العالمي لدعمها والدفاع عنها كقضية تصفية استعمار وقيام دولة، كما دفعت المحاكم الدولية لترفع سيف العدالة في وجه الكيان المارق وتصدر بشكل متتالي العديد من القرارات التي كشفت وجهه الدموي وأدانت جرائمه واستنكرت انتهاكاته للشرعية الدولية والقوانين الإنسانية.
تلقى الاحتلال الصهيوني نهاية الأسبوع الماضي صفعة موجعة من محكمة «العدل الدولية « في لاهاي بإصدارها قرارا تاريخيا ينصف الشعب الفلسطيني وقضيته للمرة الأولى منذ نشأة الكيان الغاصب قبل 76 عاماً، حيث أقرّ بوضع حدّ لاحتلال الأراضي الفلسطينية التي وقعت في قبضة الصهاينة بعد حرب 1967، وأمر بتفكيك المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية ووقف الاستيطان الذي يرقى، كما أكّدت، إلى عملية ضم فعلي تنتهك بشكل واضح اتفاقيات جنيف. ودعا لدفع تعويضات للفلسطينيين عن الضرر الذي لحق بهم على مدى 57 عامًا من الاحتلال الذي اتبع أيضًا سياسة عنصرية ممنهجة ضدهم.
محكمة «لاهاي» وعكس ما تشتهيه سفن الكيان الصهيوني، وضعت النقاط على الحروف، وحدّدت في رأيها الاستشاري موقفها من احتلال الأراضي الفلسطينية ومن سرطان الاستيطان الذي ينهش هذه الأراضي، حيث أقرّت بأن «فلسطين وطن تحت الاحتلال تربط شعبه وجغرافيته عناصر تاريخيّة تجعله شعباً واحداً يملك حق تقرير المصير، واعتبرت الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية يتعارض مع أحكام القانون الدولي، والأمر يسيري على المستوطنات التي أنشئت في تلك الأراضي، وطالبت الكيان بتفكيكها وبوضع حدّ لاحتلال الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد 1967، داعية إلى إنهاء أي تدابير تسبب تغييرا ديمغرافيا أو جغرافيا».
وختمت المحكمة قرارها بمطالبة دول العالم بضرورة عدم الاعتراف بالوضع غير القانوني وغير الشرعي للوجود الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعدم تقديم أي مساعدة للحفاظ على الأمر الواقع، وأن تحرص على احترام ميثاق الامم المتحدة والقانون الدولي لوضع حد لأي انتهاك لحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وقالت إن الكيان الصهيوني فرض سلطته كقوة احتلال بطريقة تخالف ما ورد في المادتين 53 و64 من اتفاقية جنيف.
وبخصوص الاستيطان، دعت المحكمة سلطات الاحتلال التي سرّعت من إنشاء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، إلى وقف جميع الأنشطة الاستيطانية الجديدة. وأكدت أن ترحيل سكان الأراضي المحتلة من أراضيهم كان قسريا وهو ما يخالف التزامات الاحتلال، كما قالت إن احتجاز الممتلكات الفلسطينية من قبل المستوطنين يخالف التزامات الاحتلال الدولية.
ضربة في مقتل
القرار الذي أصدرته محكمة «العدل الدولية» نهاية الأسبوع الماضي، جاء ردّا على الطلب الذي تلقّته من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 31 ديسمبر 2022، والذي دعاها لتقديم «رأي استشاري» بشأن «العواقب القانونية الناشئة عن سياسات الكيان الصهيوني وممارساته في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية». ومعلوم أنه في حرب جوان 1967، سيطر الكيان الغاصب على الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان السورية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، ثم أعلن احتلاله لهذه الأراضي التي تبلغ مساحتها 70 ألف كيلومتر مربع. وهو احتلال أعلنت الأمم المتحدة في وقت لاحق أنه غير قانوني.
ورغم أن هذا القرار استشاري، أي غير ملزم، فإنه ضرب الاحتلال في مقتل، حيث أكد «عدم شرعيته وعدم قانونية كل الإجراءات والأعمال العدوانية التي يمارسها، بما فيها مصادرة الأرض والاستيطان والضم والقوانين العنصرية ضد الشعب الفلسطيني».
كما بيّن بأن الكيان دولة احتلال مارقة تنتهك القانون الدولي والاتفاقيات الدولية ولا تلتزم بها، حيث واصلت حكوماتها العنصرية المتعاقبة عمليات الاستيطان والعدوان والمصادرة والهدم والتهويد في الأراضي المحتلة، وهي جريمة محرمة في القانون الدولي، استنادًا إلى اتفاقية جنيف الرابعة الموقعة عام 1949.
وقد اعتبرت العديد من الأوساط حكم لاهاي ضربة سياسية واقتصادية مزدوجة للكيان الصهيوني، فسياسيا هو يقرّ بعدم شرعية الاحتلال ويدعو لإنهائه وعدم نقل السفارات والبعثات الأجنبية إلى القدس المحتلة، أما اقتصاديا، فهو يدعو إلى مقاطعة المستوطنات وكل الأعمال التجارية والصناعية في المناطق المحتلة، ما يعني أن أي دولة ستحاول التعامل تجاريا مع مواد مصنعة أو مستخرجة من الأراضي الفلسطينية المحتلة ستعرض نفسها للمساءلة القانونية، وهذا طبعا يعتبر أمرا كارثيا بالنسبة للكيان الصهيوني الذي سيجد نفسه تحت وطأة المقاطعة الاقتصادية، محروما من مداخيل هائلة هي في الأساس من حق الفلسطينيين الذين يتضورون جوعا.
الكرة في ملعب الأمم المتحدة
رغم أن قرار «العدل الدولية» كما سبق وقلناه، استشاري ولا يتوفر على قوة التنفيذ، فإنه بالمقابل يكتسي فائدة كبيرة على اعتبار أنه يشكّل ضغطا معنويا وسياسيا كبيرا على الاحتلال الصهيوني ويمكن استخدامه كأساس لتعزيز المساعي الدبلوماسية لحل القضية الفلسطينية وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية».
ولجني ثمار هذا الحكم القضائي التاريخي، يجب في البداية تحويله إلى قرار إلزامي يفرض على كل الدول والهيئات والمنظمات العالمية تنفيذه، وهو أمر يقع على عاتق الأمم المتحدة التي من صلاحياتها وحدها منح صفة الإلزام لمختلف القرارات والأحكام وذلك بتمريرها عبر الجمعية العامة ومجلس الأمن الذي يصادق عليها ويقرّها.
وبما أن حكم العدل الدولية جاء بناء على طلب من الأمم المتحدة في ديسمبر 2022، فلا يمكن لهذه المنظمة الدولية، في تصورنا، أن تكون قد طلبت رأيا استشاريا من محكمة دولية ولما يصدر القرار تحفظه في رفوف النسيان ولا تأخذ به.
لا نعتقد بأن الأمم المتحدة وبعد أن أمضت المحكمة ما يقرب من سنتين في التحقيقات والجهود من أجل الوصول إلى هذا القرار، ستحجم عن تكثيف جهودها لتحويله الى قرار إلزامي، بل على العكس تماما، لأنها تدرك جيّدا بأن مصداقيتها باتت على المحك خاصة مع اخفاقاتها المتكررة في حماية الفلسطينيين من حرب الإبادة التي تعصف بهم منذ عشرة أشهر وعجزها عن تجسيد القرارات التي صدرت لصالح القضية الفلسطينية منذ 1948.
ويتساءل جل المراقبين السياسيين عن كيفية تعامل المنظمة الأممية مع حكم لاهاي الاستشاري، وهل ستتمكن من استعادة دورها كحامية للسلم والأمن والعدل الدولي، أم أنها ستواصل الانحناء لإرادات الدول الحامية للكيان الصهيوني الذي لا يتردد في التطاول عليها، إذ بعد صدور قرار المحكمة مباشرة، هدد مندوب الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة بغلق مكاتب هذه الأخيرة في فلسطين المحتلة وطرد موظفيها والانسحاب منها، وانهال نتنياهو ووزراءه بالسب والشتم على المحكمة والامم المتحدة، واعتبروا القرارات وكالعادة (معادية للسامية) وتدخل (في الشؤون الداخلية للكيان )».
هذا التطاول من الجانب الصهيوني على الهيئة الأممية المفروض أن تحظى بالاحترام والتقدير، يشير مسبقا إلى أن مهمة المنظمة الأممية في تفعيل قرار العدل الدولية ستكون صعبة إذا لم تكن مستحيلة خاصة بالنظر إلى الدور المعرقل الذي يلعبه الفيتو الأمريكي في مجلس الامن، لهذا ينصح البعض الأمم المتحدة بعد كل هذه التجاوزات، أن تقوم بتعليق أو طرد الكيان المحتل من المنظمة بسبب خرقه المستمر لميثاقها وعدم احترام قراراتها، كما فعلت الجمعية العامة مع نظام جنوب افريقيا العنصري عام 1974.
الاستيطان في عين الاعصار
الأهمية التي يكتسيها قرار محكمة العدل الدولية لا تعود فقط إلى دعوته لإنهاء الاحتلال، بل لإصراره على وقف الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية حيث قضت بعدم قانونية الاستيطان وقالت إنه يرقى إلى عملية ضم فعلي غير مشروعة.
وفي حيثيات الحكم، قال رئيس المحكمة اللبناني الأصل نواف سلام: «إن المحكمة تعيد التأكيد على الرأي الاستشاري الذي سبق وأصدرته، أن المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية غير قانونية وأن إقامتها والإبقاء عليها هو انتهاك للقانون الدولي».
وأضاف أن «سياسة الكيان في استغلال الموارد الطبيعية في الأراضي الفلسطينية لا تتفق مع التزامها باحترام حق الشعب الفلسطيني في السيادة الدائمة على موارده الطبيعية».
وأشارت الأرقام والإحصائيات، إلى أن عام 2024 شكّل الذروة في مصادرة الأراضي الفلسطينية بالضفة الغربية المحتلة، ليصبح من الواضح أن الحكومة الصهيونية الحالية، التي وُصفت بأنها «الأكثر تطرفًا» في تاريخ الكيان، تعمل على تنفيذ أفكارها المناهضة لفكرة وجود دولة فلسطينية من خلال سرقة الأرض الفلسطينية وتغيير ديموغرافيتها لصالح الصهاينة.
وقبل أسابيع، وافق الكيان الغاصب على أكبر عملية مصادرة للأراضي في الضفة الغربية منذ أكثر من 3 عقود، حيث وقّع أواخر الشهر الماضي على مصادرة 12.7 كيلومتر مربع من الأراضي في غور الأردن وذلك بعد مصادرة 8 كيلومترات مربعة من أراضي الضفة الغربية في مارس الماضي، و2.6 كيلومتر مربع في فيفري.
ويعتبر الفلسطينيون ومعظم المجتمع الدولي، المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية والقدس الشرقية غير قانونية.
هذا، وتوقع مسؤولون صهاينة أن تصعّد دول عديدة عقوباتها ضد المستوطنين والمستوطنات في الأيام القادمة، بما فيها دول صديقة للكيان، بعد الرأي الذي نشرته محكمة العدل الدولية في لاهاي. مثل اليابان، التي فرضت قبل يومين، عقوبات على أربعة مستوطنين صهاينة، لضلوعهم بأحداث عنف ضد فلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة.
ونقلت صحف للاحتلال، تقديرات مسؤولين صهاينة كبار بأنّ الدول التي سبق أن فرضت عقوبات تتعلق بالمستوطنات وبينها الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وفرنسا وكندا، ستفرض مجموعة أخرى من العقوبات. كما تقدّر المصادر ذاتها، أنّ دولاً أخرى لم تفرض عقوبات بعد، ستنضم إلى هذه الخطوات. ويربط المسؤولون الصهاينة بين التصعيد المرتقب والخطوات بأقوال وزير المالية العنصري المتطرف «بتسلئيل سموتريتش «في إطار منصبه الثاني وزيراً في وزارة الأمن، بأنه يعمل على ضمّ فعلي للمستوطنات في الضفة.
وقال مسؤول صهيوني كبير مطّلع، للصحيفة، دون أن تسمّه، إنّ «جميع الدول التي تحرّكت بالفعل بهذا الشأن، تخطط الآن لمزيد من الخطوات. الجولة المقبلة من العقوبات ستكون أكثر إيلاماً من سابقاتها». وأُفيد في الآونة الأخيرة، أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، تبحث إمكانية فرض عقوبات على سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير. وإذا تم ذلك، فستكون هذه خطوة غير مسبوقة، وتحدّد مستوى جديداً من الضغط الأمريكي على أنشطة جهات يمينية متطرفة في الكيان، بما فيها وزراء ومسؤولون.
وفرضت بريطانيا والولايات المتحدة وكندا عقوبات على بعض المستوطنين الصهاينة، رداً على تصاعد العنف في الضفة الغربية في خضم الحرب على غزّة.
يبقى في الأخير الإشارة إلى أن قرار لاهاي يُعتبر هزيمة كبيرة للكيان الصهيوني. وعلى الرغم من أن عديدًا من تقارير الأمم المتحدة وتوصياتها في الجمعية العامة قد أشارت إلى مضمون قرار المحكمة ذاته، فإن حكم العدل الدولية، لكونه استند إلى المعاهدات والقوانين الدولية والفردية، فإنه يمثل حكمًا سيكون من الصعب تجاهله.
كما أن توصيفه الدقيق بعدم شرعية الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية سوف لن يؤدي إلا إلى تعزيز العزلة المفروضة على الكيان الغاصب على المدى البعيد، خاصة وانه أصبح منبوذا بفعل سلوكه الدموي في الحرب على قطاع غزة، وخضوعه للتحقيق في محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية بتهمة قيامه بجرائم حرب.