“عيد الفضة” بآث يني في تيزي وزو، في طبعته الثامنة عشرة ( 18 إلى 27 جويلية)، تظاهرة ثقافية بأبعاد تاريخية، حيث أراد منظموها إعادة الاعتبار للحرفيين الذين خدموا الثورة التحريرية بصناعتهم للأوسمة التي قلدت بها رتب زعماء الثورة التحريرية، والذين وجدوا ضالتهم في حرفيي اث يني.
دفع بعض حرفي آث يني حياتهم ثمنا لهذه الخدمة التي اكتشفها المستعمر الفرنسي، ليكون مصيرهم الاستشهاد تحت وطأة التعذيب، كما كان لهم الفضل في تزوير النقود لدفع الضرائب التي أقرتها عليهم السلطات إبان العهد العثماني، الأمر الذي أدخل العثمانيين في دوامة من المعاناة حاولوا من خلالها القضاء على كل ما هو صناعة للفضة، ولكنهم لم يتمكّنوا من ذلك ما دفع بهم إلى التفاوض مع الحرفيين لمنعهم من تزوير النقود.
تاريخ فضة اث يني عريق، فهي مرتبطة بالتاريخ الذي ما يزال شاهدا عليها منذ الأسلاف وإلى غاية يومنا هذا، وهو هدف الطبعة الثامنة عشرة التي حملت شعار «فضة اث يني في خدمة الثورة التحريرية»، تكريما منهم لشهيد الثورة العربي اث يعقوب المدعو «لعربي معروف» الذي دفع حياته ثمنا لصناعة الأوسمة التي تقلّدها قادة وزعماء الثورة التحريرية، حيث اكتشف امرأه بعد العثور على الأوسمة في جيب أحد الشهداء، لينال نفس الشرف وهو الاستشهاد من أجل الوطن، وبذلك تمّ تكريمه في هذه الطبعة بتسليم عائلته «النجمة الفضة» في اختتام فعاليات هذه التظاهرة.
إقبال كبير على الفضة
«اث يني» مدينة الفضة والجمال، شهدت إقبالا واسعا من طرف الزوار والسياح على مدار عشرة أيام، أين زاروا مختلف المعارض التي زيّنتها الحلي التقليدية والتي رسمت حضورها في هذه التظاهرة، وذلك بمشاركة 15 ولاية كان عارضوها سفراء للثقافة والموروث الثقافي والحرف التقليدية التي تفنّـن الحرفيون في صناعتها وتحويلها إلى أجمل التحف والحلي التقليدية التي كانت غاية العديد من الزوار، كونها تذكار يحملونه معهم خلال سفرهم وتذكرهم بثقافتهم أينما رحلوا وارتحلوا.
الطبعة الثامنة عشرة لعيد الفضة باث يني طغت عليها فضة اث يني، وقد عرفت مشاركة أزيد من 150 حرفي، من بينهم 109 حرفي من المنطقة مختصين في ممارسة هذه الحرفة المتوارثة أبا عن جد، وهي حرفة دفينة في وسط أفراد العائلة بمنطقة اث يني، والتي يعتبرها سكانها فضة شريفة «تشريفت» مباركة تتغلغل في الحياة اليومية لسكان هذه المنطقة، الذين يتباركون بها لدرجة أن البعض منهم لا يقومون بتشييد منازلهم إلا بعد رمي قطعة من الفضة قبل البناء، كفأل على الصفاء والجهد والقوة، كما أنها تحمل طابعا روحيا يرتبط بمختلف مراحل الحياة في منطقة القبائل، من زواج، ميلاد صبي، وحماية الحامل من خطر الاجهاض، فكل حلي لديه قدسية ومعنى معين ما يزال السكان متمسكون بها إلى يومنا هذا.
الزائر للمعرض يقف على الفسيفساء الجمالية لفضة اث يني ومختلف المصنوعات والمنتوجات التقليدية التي تفنّـن الحرفيون من مختلف المناطق والولايات بصناعتها، لكن هذا الجمال المختزل في أروقة وأركان هذه المعارض يقابلها ارتفاع كبير في الأسعار، الأمر الذي يحرم الكثيرين من اقتناء بعض الحلي التي تكون غايتهم من الزيارة، خاصة مع انتشار الحلي الفضية المقلدة وبأسعار رخيصة، إلا أنهم يعودون أدراجهم مكتفين بلمعانها وجمالها الصارخ الذي يغازل العيون قبل القلوب، وذلك لروعة تلك الحلي التي تنافس بعضها البعض، خاصة مع تفنن الحرفيين في صناعة موديلات وحلي جديدة بصيغة عصرية تتماشى مع الحياة اليومية، عكس ما كانت عليه في الماضي، أين اقترنت الحلي الفضية بالمناسبات والأعراس فقط، ولكن حاليا هناك حلي يمكن ارتداءها في مختلف الأماكن والمناسبات..
«اث يني» مدينة الفضة
«اث يني» مدينة الفضة بامتياز وخلال تواجدنا بالمكان، لمسنا نبرة التأسف لدى الحرفيين الذين وجدوا أنفسهم اليوم في صراع من أجل الحصول على المادة الأولية، ناهيك عن ارتفاع أسعارها، ما يدفع بالكثيرين للعزوف عن شرائها وتغيير الحرفة، بالرغم من الشغف الكبير لصناعة أجمل الحلي، والتفنّـن في صناعة موديلات جديدة يقودهم إليها إحساسهم كونها حرفة تتعلق بالفن أكثر منها تجارة، كما تعتبر موروث ثقافي عبر القارات إلى العالمية، وأصبح مطلب ملح للزوار والسياح الذين يسافرون بهذه المجوهرات والحلي التقليدية إلى ما وراء البحار.
حرفيو اث يني طالبوا السلطات والوزارة الوصية بضرورة التدخل من أجل توفير المادة الأولية، وبأسعار معقولة من أجل الاستمرار في صناعة الحلي الفضية التقليدية، التي تعتبر القلب النابض للسياحة الجبلية والتنمية المستدامة التي من شأنها أن تستقطب ملايين السياح وإنعاش السياحة، وبالتالي الدفع بعجلة التنمية في المنطقة إلى الأمام، كما تُبقي على هذه الصناعة والحرفة المهددة بالاندثار، خاصة وأن عديد الحرفيون تخلوا عن هذه الحرفة لانعدام وغلاء المادة الأولية، وغيروا من نشاطهم بحثا عن مصدر رزق يكفيهم شرّ السؤال.
بين الثقافة والتاريخ أعطيت شهادة ميلاد حرفة صناعة الفضة التي سافرت بالثقافة الجزائرية إلى العالمية، وأعطت تأشيرة الدخول إلى مختلف بلدان العالم من أجل أن تروّج لثقافة جزائرية وأمازيغية امتزجت فيها الفضة بالألوان والمرجان، لتحاكي قصص عن حياة مجتمع متفرّد في عاداته وتقاليده ووجّه إليه أنظار العالم لاكتشاف معالمه وخباياه، خاصة وأنه يسكن أعالي الجبال التي ورث سكانها الصلابة من صلابة صخورها، ليداعبوا الحديد والفضة محولين إياهما إلى أجمل الحلي التي زادت من جمال المرأة ووقارها، إلا أنها في الآونة الأخيرة تواجه عديد المشاكل التي تركت وفتحت المجال للحلي المقلدة لكي تغزو الساحة، وتنافسها في الأسوق، كما تحوّلت إلى صيد أسال لعاب بعض الدول التي تريد أن تأخذ شرف صناعتها في حال ما لم يتمّ تصنيفها من طرف اليونيسكو كموروث ثقافي خاص بالجزائر ومنطقة القبائل، وهو مطلب منظمو هذه التظاهرات الذين شدّدوا على ضرورة حمايتها من الاندثار.