على بعد أزيد من 27 كلم من الجنوب الشرقي لعاصمة «البيبان» ببرج بوعريريج، يتراءى معلم تاريخي ومبنى صخري قديم مكوّن من طابقين، مبني بصخور عظيمة ملساء متراصة فوق بعضها بإحكام دقيق، يعرف بـ»برج شميسة»، وغير بعيد عن تلك المنطقة، تتراءى بقايا أخرى لمجسمات صخرية لا تزال جدرانها القديمة شاهدة على قرون غابرة من التاريخ الإنساني، تولد في النفس انطباعا غريبا يدفع إلى التساؤل عن ماهية هذه المعالم، وتحرك الرغبة في البحث عن تاريخها..
تحتفظ برج بوعريريج بمعالم أثرية تعود إلى عصور غابرة، على غرار الموقع الأثري الذي تعرف به منطقة برج الغدير المعروف بـ»برج الشميسة» أو «ضريح شميسة»، و»بقايا الصور القديمة» المتواجدة بمنطقة الزمالة، وغيرها من الشواهد التاريخية التي تبرز أهمية المنطقة ومكانتها الجغرافية والسياسية عبر العصور، تضاف إليها المدن القديمة التي تزخر بها ولاية برج بوعريريج، على غرار بقايا المدينة الأثرية بخربة «زامبيا» في منطقة بليمور، وأنقاض مدينة رومانية بمنطقة «تي حماميين» التابعة لمنطقة العش، جنوب ولاية برج بوعريريج.
شواهد ومعالم أثرية..
شكّل الموقع الجغرافي المتميز لمنطقة برج بوعريريج الذي يربط الشمال بالجنوب، مهدا لميلاد العديد من الحضارات التي ذاع صيتها عبر الأزمان، تؤكده تلك المعالم الأثرية التي تزخر بها المنطقة من تحف نادرة عثر عليها بمناطق متفرقة ببرج بوعريريج، تبرز المكانة الجغرافية والنمط الحضاري والثقافي لدى ساكنة المنطقة إبان الفترة النوميدية، وفترة الاحتلال الروماني، بما فيها القلل الطينية وأغراض وأدوات منزلية مصنوعة من الفخار والحديد كان يستعملها الإنسان بالمنطقة في حياته اليومية..
روايات مختلفة تتقاطع عند ضريح شميسة
مدينة برج الغدير.. هذه المدينة الجميلة تنام على تاريخ أصيل وطبيعة الخلابة، تجعلها محط أنظار العديد من الباحثين والمهتمين بالتاريخ الإنساني، إذ تشير بعض الروايات إلى أن هذه المنطقة مرّت بالعديد من الحقبات، بداية من عهد الانسان الأول، إلى أن وقعت تحت وطأة الاحتلال الفرنسي الذي دخلها بقيادة «فيردينالد فليب» في أكتوبر 1839، وخلفت كل حقبة منها معالم أثرية وآثارا لا تزال حاضرة إلى يومنا هذا، تبرز أهمية المنطقة على مرّ العصور والبعد الاستراتيجي الذي عُرفت به المنطقة من حيث الأهمية التجارية والاقتصادية وحتى العلمية، حيث كانت خلال العهد الروماني والبيزنطي مطوقة بسبعة أبراج مراقبة تحرس المدينتين.
وتتوفر مدينة برج الغدير على خاصية مهمة، وهي نشاط الإنسان على أرضها منذ العصور الغابرة، بسبب موقعها الجغرافي، إذ تقع المدينة بين أحضان جبال عياض بالهضاب العليا الشرقية، وعُرفت المنطقة في زمن الاحتلال الروماني باسم «لوميلي بروسيدوم» وفق ما ذُكر في اللوحة «البتنجرية» المشهورة التي تبين الخرائط والطرق العسكرية الرومانية خلال فترة حكم الإمبراطور أنطونيوس بين سنتي 139 و161 ميلادي، وفق ما أشار إليه عالم الآثار والدبلوماسي الألماني «كونرد بوتينجر»، في كتاباته.
أسماء أخرى كثيرة للمنطقة، دونها الرحالة والمكتشفون في كتاباتهم مثل اسم «مكميلي»، عثر عليها في النقوش الحجرية الموجودة في كل من منطقة برج الغدير وخربة زامبيا الواقعة بمنقطة «بليمور» أو ما عرف خلال الحقبة الرومانية بـ»تومسكي»، لتعرف باسم «وارو» فيما بعد، ومعناها العيون الجارية، وهو الطابع والخصوصية التي لا تزال محافظة عليها إلى يومنا هذا بكثرة، كما ظلّت محافظة على هذا الاسم إلى غاية الفتح الاسلامي الذي أضاف اسم الغدير إلى كلمة وارو لتصبح تسميتها باسم «غدير وارو»، ويطلق عليها اسم منطقة الغدير.
حافظت منطقة الغدير على اسمها ونمطها العمراني إلى غاية قدوم الاحتلال الفرنسي الذي قام بتشييد قرية تحوي مساكن وبيوت خاصة بالمعمرين الأوروبيين القادمين من الأصقاع الأوروبية، ويعلو هذه القرية المشيدة برج إداري للمراقبة ومنه اشتق الاسم الأول للمنطقة برج ليستقر اسم المنطقة بعدها على برج الغدير.
العمارة الجنائزية
يعتبر المهندس المعماري والخبير الدولي في التراث المعماري، سفيان زواوي، أن ضريح برج الغدير المسمى من أهالي المنطقة «برج الشميسة»، نصبًا تذكاريًا رومانيًا، يقع بقرية الزمالة بالجنوب الشرقي من مدينة برج الغدير ولاية برج بوعريريج، والتي كانت تُسمى في الحقبة الرومانية بـ»لملف» في إقليم موريتانيا السطايفية. يبلغ عرضه 3.45 متر وارتفاعه 5.70 متر، ويأخذ شكل متوازي مستطيلات مبني من حجارة ضخمة منحوتة بإتقان ومرصوصة بدقة متناهية ومزين بعرق بسيط.
وأشار زواوي إلى أن الضريح يصنف ضمن الأضرحة ذات الطابق العلوي، ويتجه نحو الشرق حيث يفتح مدخله الرئيسي في الواجهة الأمامية عبر فتحة كبيرة محاطة بإطار مزخرف، تحت العتب العلوي لهذه الفتحة، نجد قرني الوفرة المتجاورين منحوتين بشكل واضح وفني للغاية، بالمقارنة مع بعض الأضرحة الرومانية نجد «ضريح شميسة» شبيها بضريح «لامبيز» من حيث الشكل والهندسة المعمارية والزخارف، وهو ما أبرزه محدثنا ليؤكد أن عملية ترميمه واستعادة حالته الأصلية، تفرض الاعتماد على القياسات الدقيقة والصور الفوتوغرافية والبحث النظري والمقارنة، فهذه من شأنها أن تسمح بعملية ترميمه وإعادته إلى حالته الأصلية كقيمة تراثية للمدينة، من شأنها أن تشجع على حماية التراث، ودعا إلى إدراج ضريح برج الغدير في عمليات الحماية والتثمين المسطرة من طرف القائمين على الثقافة.
ضريح الشميسة في معترك التاريخ
تؤكد العديد من الروايات التاريخية أن المدينة احتلت مكانة تاريخية مهمة قبل الميلاد، حيث عثر بها على العديد من الأدوات الفخارية والحجرية وبقايا من الرسوم الجنائزية التي تعبّر في مضمونها عن العادات والطقوس التي مارسها الانسان، منها لوحة حجرية من الجير الكلسي الرمدي، عثر عليها باحثون على ضفاف واد القصب أو نهر سهر، ومناطق مجاورة للمعلم الأثري برج الشميسة، فسرها الباحثون لاحقا على أنها رسومات ونقوش تعبر عن حياة إنسان ذلك العصر، ومنها ما وجد في كل من منطقة «قبر حريز «وغار «عبادة» ومدافن أخرى.. عثر عليها بجبل «مزيطة» ترجع في أصلها – حسب الباحثين – إلى العصر الهيلنستي، وقد شهدت برج الغدير إبان زحف الاحتلال الروماني على المنطقة مع انتهاء الحروب البونيقية، العديد من الأحداث والمعارك، بعد هزيمة الملك ماسينيسا وهدم مدينة قرطاج الشهيرة في ذلك العصر، حيث شهدت خلال القرن الأول قبل الميلاد معركة «العناصر» التي خاضها القائد يوغرطة ضد القوات الرومانية، بعد أن عسكر بجيشه لأسابيع بمنطقة «تيويرا» على بعد أميال قليلة من منطقة برج الغدير استعدادا للمعركة، لتصبح المدينة بعدها أبرز المستعمرات الرومانية في شمال إفريقيا.
وحسب ما تورد بعض الأبحاث التاريخية بما فيها تلك التنقيبات الأثرية التي عثر عليها «لوازيون» نائب رئيس بلدية المعاضيد المختلطة في بداية القرن العشرين، والذي أشار في رسائله إلى تلك الحفريات التي عثر عليها بالمنطقة أثناء عملية التنقيب، شملت وجود مجمع سكني يحيطه سور خارجي ضخم لم يبق منه سوى آثار أساس المرافق المعمارية التي كان يحيط بها هذا المجمع السكني، إضافة إلى بقايا المطحنة الرومانية بمنطقة «كاف متكل» تلتقي بالعديد من الأعمدة والكتل الحجرية وبقايا فخارية وقطع من حجر التبليط، لكن الأهم من كل ذلك هو بقاء السد المائي الذي كان مشيدا في نهاية منطقة عين «مخلد» أحد أهم مصادر وادي القصب، حيث كانت المياه توزع عبر أخاديد وسواقي مائية محمولة على دعائم حجرية بقيت منها دعامتان عثر عليهما سنة 1896م من طرف أحد الباحثين..
الفترة البزنطية
تذكر بعض الروايات والدراسات التاريخية، أن بناء المعلم الأثري المعروف باسم برج الشميسة أو ضريح الشميسة، يرجع إلى الفترة البيزنطية، حيث نقش عليه رسم ثعبانين يرمزان إلى الخصوبة، إضافة إلى الفسيفساء المشهورة التي تحاكي اقتناص الخنزير البري، حيث تشير المصادر أنه تمّ اقتلاعها من أنقاض حمام قديم غير بعيد من منطقة تواجد برج الشميسة ونقلها أحد أعضاء بعثة هيئة الآثار بشمال إفريقيا إلى المتحف الوطني للآثار القديمة بالجزائر العاصمة، ولوحات أخرى عثر عليها بالمنطقة ذاتها، على بعد أميال قليلة بأعالي قمة منطقة الزمالة، لا يزال جزء بسيط من السور البيزنطي الذي كان بمثابة ستارة لهذه المدينة.
شهدت الحرب ما بين الكنيسة التقليدية والدوناتيين المجددين، بقيادة فيبس وجانوكيس عام 361 ميلادي، ضد كنائس الشمال الشرقي لإقليم الزاب، ومن ضحايا هذه الحرب دونيكس وسانس يمانوكس، لتعتمد المدينة بعدها كمزار للمسيحيين لوجود ضريح هذين الرجلين المشهورين في العالم المسيحي، فكان ضريح ديا كونوس أي الشمامسة، والذي يعتقد أنه برج الشميسة حاليا، وبعد انتهاء هذه الحرب بقدوم «جوسستينوس» أعلن رسميا إعادة الاعتبار للديانة المسيحية الكاثوليكية سنة 535 م.
برج الغدير في روايات الرحالة
شهدت المنطقة بعد الفتح الاسلامي لشمال افريقيا تطورا في نمطها المعماري والحضاري، بدأت بتشييد قلاع وحصون عسكرية تابعة للجيوش الاسلامية، تجاوزت 150 قلعة وبرج مراقبة بين منطقة راس الوادي وبرج الغدير، وقد ذكرها العديد من المؤرخين والرحالة في كتاباتهم، على غرار المؤرخ أبو عبد الله البكري في كتابه الشهير «المسالك والممالك» الذي قال في وصفها: «نهر سهر – القصب – الذي عليه مدينة المسيلة منبعثه من عيون داخل مدينة غدير واروا، وهي مدينة كبيرة أولية بين جبال، فيها عين ثرة عذبة عليها الأرحاء وعين أخرى، وتحتهما عين خرارة يقال لها عين مخلد تجتمع فيها، ومن هناك منبعث نهر سهر، وبمدينة الغدير جامع وأسواق عامرة وفواكه كثيرة وهي رخيصة الطعام واللحم وجميع الثمار، قنطار عنب فيها بدرهم، وسكانها هوارة يعتدون في ستين ألفا».