عرفت الجزائر منذ سنة 2019 تحولاً كبيرا في توجهاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث وضعت مكافحة الفساد على رأس أولوياتها. هذا التحول لم يكن مجرد شعارات سياسية كما أراد البعض تصويره، بل تجسد ـ وفق ما يؤكده خبراء لـ “الشعب” في سلسلة من الإجراءات الصارمة التي طالت مختلف القطاعات والمستويات، دون استثناء أي شخص أو مؤسسة متورطة.
ملف: علي مجالدي وحياة كبياش وخالدة بن تركي وآسيا قبلي وسفيان حشيفة ومحمد فرقاني
تندرج هذه الجهود في إطار تكريس العدالة الاجتماعية والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي للبلاد، كما أدركت السلطات العمومية أهمية الحفاظ على المؤسسات الاقتصادية المتورطة في قضايا الفساد وتجنب الإغلاق الكلي لها، وهذا ما ترجمته الإجراءات الأخيرة للسلطات المعنية باسترجاع الأملاك العقارية والمنقولة المصادرة، وتحويل ملكيتها إلى القطاع العام، كجزء من استراتيجيتها الشاملة لمكافحة الفساد وتحقيق التوازن الاجتماعي.
بعد 2019، بدأت الجزائر حربا واسعة ضد الفساد، وهي حملة لم تستثنِ أحداً، سواء كانوا مسؤولين كبارًا أو رجال أعمال أو مؤسسات كبرى. وقد أظهرت السلطات العليا جديتها في مواجهة هذه الظاهرة من خلال سلسلة من المحاكمات والتحقيقات التي شملت مختلف القطاعات. ولكن، ما يميز هذه الحملة هو التوجه نحو إصلاح المؤسسات المتورطة بدلاً من غلقها.
”التأميم”.. حفاظ على مناصب الشّغل وأخلقة للمنظومة
في إطار جهودها المستمرة لاسترجاع الأموال والأملاك المنهوبة، أعلنت الجزائر مؤخرًا عن استرجاع ثلاث مؤسسات تعمل في قطاع الفلاحة والتنمية الريفية، وتحويل ملكيتها إلى مؤسسات عمومية. هذا القرار يأتي تنفيذًا لمخرجات الاجتماع الأخير لمجلس مساهمات الدولة المنعقد في 5 أوت الجاري، حيث تم الاتفاق على نقل ملكية هذه المؤسسات بعد صدور أحكام قضائية نهائية في قضايا فساد.
تشمل المؤسسات الثلاث شركة لإنتاج اللحوم البيضاء والبيض، التي تم تحويلها إلى مجمع “أغرولوغ” للصناعات الغذائية واللوجيستيك، وشركة متخصصة في إنتاج الأجبان تم إسنادها إلى مجمع “جيبلي” للحليب ومشتقاته، بالإضافة إلى شركة لإنتاج زيت الزيتون تم تحويلها إلى شركة تطوير الزراعات الاستراتيجية “ديكاس”. تأتي هذه الخطوة كجزء من استراتيجية الحكومة لتعزيز قطاع الفلاحة والتنمية الريفية وضمان استمرارية الإنتاج.
وفي هذا السياق، فإنّ قرار تحويل ملكية المؤسسات المتورطة إلى القطاع العام بدلاً من غلقها يعكس رؤية شاملة للسلطات العليا في معالجة قضايا الفساد. هذه الرؤية لا تقتصر على معاقبة المخالفين فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى إعادة هيكلة المؤسسات، والحفاظ على مناصب الشغل وتطوير القدرات الإنتاجية الخاصة بها.
وفي ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها الجزائر، يأتي هذا الإجراء كوسيلة للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، كما يتيح الإجراء المتخذ بتحويل ملكية المؤسسات للحكومة السيطرة على القطاعات الحيوية، وضمان استمرارية الإنتاج، وتجنب الانعكاسات السلبية لإغلاق المؤسسات على العمال والمجتمع ككل لاسيما وأن بعض المؤسسات توظف آلاف العمال والغلق الفوري سوف يكون له أثر سلبي على آلاف الأسر، فالعمال في هذه المؤسسات غالبًا ما يكونون الضحية الأولى لأي قرار بالإغلاق، ولذا فإن الحكومة تعمل على ضمان استمرار هذه المؤسسات تحت إدارة جديدة، مع الحفاظ على حقوق العمال وضمان عدم تأثرهم سلبًا.
ويرى العديد من المتابعين إن الجزائر، من خلال حربها على الفساد منذ 2019، لا تستهدف فقط تطهير البلاد من الفاسدين، بل تسعى أيضًا إلى بناء اقتصاد قوي ومستدام يحافظ على حقوق العمال ويعزز القدرات الإنتاجية. كما أن تحويل ملكية المؤسسات المتورطة إلى القطاع العام هو إجراء ذكي يجمع بين معاقبة الفاسدين، والحفاظ على النسيج الاجتماعي والاقتصادي. كما إنها خطوة تؤكد التزام الجزائر بمكافحة الفساد بشكل شامل، مع الحرص على حماية مصالح العمال والالتزام بالدور الاجتماعي للدورة باعتباره مبدأ دستوريا لا يمكن المساس به.
كما يمثّل قرار الجزائر بتحويل ملكية المؤسسات المصادرة إلى القطاع العام تجربة فريدة في سياق مكافحة الفساد، وقد يكون له انعكاسات إيجابية على الاقتصاد الوطني والمجتمع. ومع ذلك، فإن نجاح هذا الإجراء يتطلب تضافر جهود كافة الأطراف، وتبني سياسات اقتصادية واجتماعية داعمة.
رفع القدرة الإنتاجية
في السياق، يؤكّد الخبير في الاقتصاد عبد الرحمان هادف، أن استرجاع 23 مؤسسة المصادرة في إطار مكافحة الفساد من المساهمة سيمكّن من رفع من القدرة الإنتاجية، خاصة وأن الجزائر تعول على القطاع الصناعي ليصبح أحد روافد التموقع الاقتصادي، كما سيكون له أثر اجتماعي كبير من خلال التوظيف، حيث يتوقع استحداث الآلاف من مناصب الشغل.
أفاد هادف في تصريح لـ “الشعب”، أن عملية استرجاع المؤسسات في مختلف القطاعات في إطار مكافحة الفساد تحمل هدف استراتيجي يتمثل في أخلقة العمل في المنظومة الاقتصادية، وبالتالي إعادة الأمور إلى نصابها، وكذا لتحقيق الشفافية للوصول إلى الامتيازات والى الدعم المقدم من طرف الدولة لإطلاق المشاريع الاستثمارية، واعتبر أن هذا الإجراء سيساهم في تغيير الأمور مستقبلا، حيث يصبح الحصول على المزايا من خلال القانون أو التنظيم.
ويشدّد الخبير هادف أنه من الضروري أن تساهم المشاريع التي ستخلق من المؤسسات المسترجعة في النشاط الاقتصادي من خلال الإنتاج، ويتطلب ذلك تجنيد كل الأدوات الموجودة لدى الاقتصاد الجزائري الذي يشهد حركية، وذلك من أجل الرفع من أدائه، وقال إنّه يجب إعادة بعثها هذه المشاريع في العديد من القطاعات والمجالات من أجل المساهمة في الرفع من القدرات الإنتاجية في القطاع الصناعي او الفلاحي او في الخدمات (السياحة).
لفت الخبير إلى أن الجزائر في مرحلة تحول اقتصادي، وبالتالي تحتاج لكل المقومات والطاقات، ويرى أن هذه المشاريع ستكون لها مساهمة حقيقية فيما يتعلق بالرفع من القدرات الإنتاجية، والرفع من أداء الاقتصاد الجزائري، مشيرا إلى أن هذه المشاريع تمّ التكفل بها في مرحلة أولى من طرف شركة مساهمات الدولة من أجل إعادة النشاط في المؤسسات المصادرة والمسترجعة في أقرب وقت، واعتبر أن ذلك مهم جدا.
أضاف هادف في السياق، أن الاقتصاد الجزائري هو حاليا في مرحلة انفتاح، وهذا يعني ـ حسبه ـ أن هناك إمكانية عقد شراكات بين القطاع العام والخاص، وكذا إقامة استثمارات مع شركات أجنبية، ممّا سيسمح للاقتصاد الجزائري بالارتقاء الى مستويات أعلى، مشيرا إلى أنه يمثل كذلك الهدف الاستراتيجي الذي تم تسطيره من قبل رئيس الجمهورية والحكومة للوصول بالجزائر الى مرتبة اقتصادية أعلى، وإلى مصاف الدول الناشئة اقتصاديا، مما يفتح المجال أكبر لخلق الثروة، والرفع من نسبة النمو، وزيادة مستوى الناتج الخام المحلي.
كما أوضح المتحدث ان الجزائر من خلال عملية الاسترجاع لهذه المؤسسات، تبعث برسائل تؤكّد من خلالها أن أخلقة العمل في المنظومة الاقتصادية أصبح من الركائز، ويعتبره إشارة إيجابية على أن الاقتصاد الجزائري يكون ضمن الأطر القانونية، وأنه لا يوجد فيه مكان للتجاوزات والممارسات التي كانت من قبل، كما يؤكد في ذات الوقت أن هناك تحسين حكمة الشأن الاقتصادي في الجزائر.
واعتبر الخبير هادف أنّ الإسراع في دخول هذه المؤسسات مرحلة الإنتاج، كما شدّد على ذلك رئيس الجمهورية، سيكون له أثر كبير اجتماعيا من خلال التوظيف، حيث سيمكّن استحداث الآلاف من مناصب الشغل، وسيكون لذلك الأثر الإيجابي على المجموعة الوطنية، وسيمكن من تحصيل الضرائب والرفع من قدرات تصدير السلع والخدمات الى الخارج، وبالتالي تحسين أداء التجارة الخارجية، وذكر في هذا الإطار أنه لا يمكن تحسين الاطار المعيشي والوضع الاجتماعي بدون اقتصاد قوي، وهو الهدف المتوخى من قبل السلطات العليا للبلاد.
بوشيخي بوحوص: جهود حثيثة لاسترداد الأموال والممتلكات المنهوبة
تواصل الجزائر جهودها نحو استرجاع عدد أكبر من الأموال المنهوبة والأملاك العقارية والمنقولة المصادرة في إطار مكافحة الفساد، وهذا لتحقيق مداخيل إضافية تدعم الخزينة العمومية من جهة، وتساهم في النهوض بالاقتصاد الوطني.
أوضح الخبير الاقتصادي بوشيخي بوحوص في تصريح لـ “الشعب”، أن استرداد الأموال المنهوبة في إطار مكافحة الفساد والتي تقدر بملايير الدولات، يعتبر من بين التزامات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون التي أكّد عليها في العديد من المرات، مشيرا إلى أن هذه المبالغ استنتجت من خلال القروض المبرمة من رجال الأعمال المفسدين مع البنوك العمومية والتي حوّلت بالطرق الملتوية.
أكّد الخبير أنّ الدولة تحرص على متابعة الأمر لاسترداد كل الأموال، وأكّدت في عدة مناسبات “أنّها لن تتنازل عن دينار واحد سرق أو اختلس أو عن شبر من العقار نهب أو حول عن وجهته على اعتبار أنّها أمانة يسهرون عليها جميعا” .
وبخصوص الأموال المسترجعة، أكّد بوحوص أن رئيس الجمهورية أعلن في نهاية ديسمبر 2023 أنّ الجزائر تمكّنت من استرجاع أكثر من 30 مليار دولار تم نهبها من المال العام وفي عمليات فساد، ما يعني أن الجزائر استرجعت نحو 40 بالمائة من هذه الأموال، أي 30 مليار دولار من ضمن 80 مليار دولار – يضيف الخبير – وكل المؤشرات تدل على أن بلادنا سوف تسترجع كل المبالغ، وخاصة مع التعاون القضائي الدولي والإنابات القضائية مع دول إسبانيا، فرنسا، ايطاليا، لبنان، وكذلك كندا سويسرا.
وصرّح في ذات الشأن، أنّ الأملاك المسترجعة أو العقارات من شأنها أن تساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية في مختلف القطاعات سياحة صناعة وفلاحة، حيث تمّ في الجانب الفلاحي استفادة القطاع من ثلاث مؤسسات في إطار عملية استرجاع الأملاك العقارية والمنقولة المصادرة في إطار مكافحة الفساد تتعلق بشركة إنتاج اللحوم البيضاء والبيض الموجه للاستهلاك، التي أسندت إلى مجمّع الصناعات الغذائية واللوجيستيك “اغرولوغ” والشركة المتخصصة في إنتاج الأجبان، تم اسنادها إلى مجمع الحليب ومشتقاته “جيبلي” وشركة إنتاج زيت الزيتون المسندة لشركة تطوير الزراعات الإستراتيجية” ديكاس”.
وأضاف المحلّل الاقتصادي، أنّ استرداد الأملاك العقارية في إطار مكافحة الفساد من شأنه توسيع النشاطات في مختلف المجالات خاصة الفلاحة، التي تعد قطاعا رئيسيا في الجزائر وعمودا أساسيا في الاقتصاد الوطني بسبب مساهمتها في التوظيف والناتج المحلي الإجمالي، كما أنّها تضمن الأمن الغذائي للبلاد.
وعن الآليات المعتمدة، أشار الخبير بوشيخي إلى تحديد مدونة إيرادات ونفقات الصندوق الخاص بالأموال والأملاك المصادرة أو المسترجعة في إطار قضايا مكافحة الفساد وكذا كيفيات متابعته وتقييمه، وهذا بموجب قرارين لوزارة المالية صدرا في الجريدة الرسمية رقم 96.
ووفقا للقرار الأول – يوضح المتحدّث – فإن إيرادات هذا الصندوق تتضمن على وجه الخصوص الأموال المصادرة بناء على أحكام قضائية نهائية، وهو ما يشمل الأرصدة الدائنة للحسابات البنكية بالدينار الجزائري، وبالعملة الصعبة مقيدة بالدينار الجزائري، كما يتضمّن الأموال المسترجعة من الخارج، مقيدة بالدينار الجزائري.
وأضاف أستاذ الاقتصاد “تتضمّن الإيرادات أيضا ناتج بيع الممتلكات المصادرة بناء على أحكام قضائية نهائية أو المسترجعة، ويشمل ذلك الأموال المقابلة لناتج بيع الممتلكات المملوكة للأشخاص الطبيعيين أو المعنويين، والأموال المقابلة لناتج بيع الممتلكات المنقولة المملوكة للأشخاص الطبيعيين والمعنويين، وناتج بيع الحصص الاجتماعية والأسهم المملوكة للأشخاص الطبيعيين والمعنويين، وكذا الأموال المقابلة لفائض القيمة الناتجة عن استغلال الممتلكات والقيم المصادرة”.أما فيما يخص النفقات، فإنّ موارد الصندوق توجّه لتسديد المصاريف المتعلقة بتنفيذ إجراءات المصادرة والاسترجاع والبيع، وهو ما يشمل المصاريف القضائية، ومستحقات المتصرفين والمصاريف والأتعاب المرتبطة بالإجراءات القضائية المتخذة أمام الجهات القضائية الأجنبية، ومصاريف إدارة وتسيير الأملاك المصادرة أو المسترجعة، ومصاريف حراسة وتقييم الأملاك العقارية والمنقولة المصادرة أو المسترجعة، ومصاريف نقل الممتلكات المنقولة المصادرة أو المسترجعة، وكذا المصاريف المترتبة عن عمليات البيع المقررة.
وسمحت عمليات استرداد الممتلكات المنهوبة باسترجاع أكثر من 23 مصنعا عبر كامل التراب الوطني مختص في الاشغال العمومية، وتم استدعاء العمال وسوف يتم اعادة بعث نشاطها لاستيعاب خريجي الجامعات والمعاهد، والتي من المتوقع أن تصل الى 50 ألف منصب عمل، وكذلك استرجاع المزارع الفلاحية وحظائر تربية الدواجن وإنتاج تغذية الأنعام وإلحاقها بالديوان الوطني لتغذية الأنعام “أوناب”، في إطار رؤية رئيس الجمهورية لإنشاء المزارع النموذجية، كما توجّه موارد الصندوق أيضا لتسديد المبالغ المستحقة بعنوان تصفية الديون المثقلة على الأملاك المصادرة أو المسترجعة، “لصالح الدائنين بحسن نية”.
وأشار الخبير إلى قرار وزارة المالية المتعلق بكيفية متابعة وتقييم هذا الصندوق، وبموجب هذا القرار يتم إنشاء لجنة تتكفل بضمان المتابعة والتقييم، وبإعداد حصيلة سنوية لسير هذا الصندوق، وبحسب القرار تخضع الالتزامات والمدفوعات المستحقة من الصندوق لرقابة هيئات الدولة المؤهلة.
تطرّق أيضا إلى مجلس مساهمات الدولة في دورته 187 التي عقدت أشغالها الإثنين 5 أوت 2024 لاستكمال الإجراءات القانونية الخاصة بالتسوية النهائية لملف الأملاك العقارية والمنقولة المصادرة بموجب أحكام قضائية نهائية في إطار قضايا مكافحة الفساد، ونقل ملكيتها بمقابل ذي قيمة إلى المؤسسات العمومية الاقتصادية.
وفي إطار تنفيذ تعليمات رئيس الجمهورية بالمعالجة النهائية لهذا الملف من خلال إيجاد الصيغ الملائمة لتوجيه الأموال المنهوبة المسترجعة لصالح المجموعة الوطنية، وضمان الاستغلال الأمثل لوحدات الإنتاج المعنية – يقول الأستاذ – تمّ رسميا اعتماد “مشروع إنشاء مجمع للأشغال البحرية -GTM” باعتباره أداة فعالة لتنفيذ الاستثمارات المزمع إطلاقها في مجال تطوير المنشآت والبنية التحتية البحرية التي من شأنها مرافقة الحركية التي يشهدها الاقتصاد الوطني، لاسيما في جانبها المتعلق بترقية الصادرات خارج المحروقات، ويكون لدينا أسطول بحري لنقل مختلف السلع والمعدات الجزائرية الموجهة للتصدير، وتحقيق على الأقل 29 مليار دولار خارج المحروقات في آفاق 2030.
وعليه، أكّد الخبير الاقتصادي بوشيخي بوحوص أنّ الدولة تعمل على استرجاع كل الأموال المنهوبة الممثلة في مبالغ مالية، عقارات ووحدات صناعية لأجل استغلالها في تطوير الاقتصاد الوطني.
أحمد مالحة: استرجاع العقار الصّناعي والفلاحي.. مكاسب بالجملة
مكّنت عملية استرجاع الأملاك المنهوبة في إطار مكافحة الفساد من استرجاع عدد معتبر من العقارات الصناعية والفلاحية والسياحية، والتي ستُحوّل إلى أملاك عمومية من شأنها إعادة بعث المؤسسات لدفع عجلة التنمية وخلق مناصب الشغل الجديدة، والمساهمة بالتالي في برنامج الانعاش الاقتصادي الذي باشرته الحكومة، بأمر من رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون.
قال الخبير الفلاحي والمستشار السابق بوزارة الفلاحة والتنمية الرّيفية الدكتور أحمد مالحة، في اتصال مع “الشعب”، إنّ استرجاع العقار الفلاحي سيعطي دفعة كبيرة وقوية للقطاع الفلاحي والصناعات الغذائية، خاصة وأننا اليوم في أمس الحاجة لتلك الهياكل، لأن بناءها من جديد سيكلف الكثير.
وأضاف أنّه لابد من إعادة النظر في الهياكل غير المستغلة، على غرار المزارع النموذجية التي تكلم عليها السيد رئيس الجمهورية كثيرا بوضع استراتيجية وتوجيهها، زيادة على العقارات الفلاحية غير المستغلة.
إعادة بعث مؤسّسات
وقال إنّه عندما نتكلم عن العقار الفلاحي سواء كانت أراض فلاحية أو هياكل فلاحية، نرجع بالذاكرة إلى قبل 1987، ومن الجيد أن تعاد هيكلة الفلاحة في مزارع نموذجية، وإعادة بعث مؤسسات مثل مؤسسة الديوان الوطني للفواكه، والخضر واللحوم، وغيرها من دواوين كثيرة ومؤسسات موجودة لمرافقة الفلاح ودعمه، حيث كان الفلاح يبيع منتوجه لتلك الدواوين وهي من تتكفل بالبيع، وليس له دخل فيه.
وقال إنّ استرجاع العقار الفلاحي لابد أن يتضمّن أيضا الأراضي التي قسّمت إلى مجموعات فلاحية وفردية، وكذا العقارات الصناعية التي بيعت بالدينار الرمزي، ومنها من حلّت ومنها من تم التنازل عليها للبعض وحولت عن طابعها، واليوم من المفيد أن يتم استرجاع تلك العقارات المنهوبة، وإعادة بعثها في مهامها الأساسية، واستغلالها من طرف أشخاص عن طريق الامتياز، ونتكلم عن المجموعات الفلاحية، حيث يملك البعض أراضي وعقودا لكنها غير مستغلة، وهذا لا يجوز ولابد من استرجاعها واستغلالها للصالح العام، وقد باشرت الدولة عملية الإحصاء الفلاحي لحصرها وإعادة توزيعها، إضافة إلى الأراضي التي وزعت على مستوى الجنوب ولم يتم استغلالها، لابد أن تسترجعها في أقرب وقت وتسلم لمستثمرين آخرين، وفق دفتر شروط صارم ومتابعة لمدى تنفيذ الشروط.
استرجاع العقار الصّناعي
وعلى الصعيد الصناعي، بلغ مجموع العقارات الصناعية المنهوبة 23 عقارا، بحسب آخر الأرقام التي أعلنت عنها وزارة الصناعة، وقدّرت مساحة ما تمّ استرجاعه بأكثر من ستة آلاف هكتار من الأراضي والفضاءات غير المستغلة، والمدرجة ضمن العقار الصناعي الشاغر عبر كامل تراب الوطن.
وسيسمح استرجاع تلك العقارات الصناعية بإعادة العمال الذين تم تسريحهم بسبب تجميد المؤسسات الصناعية التي نهبتها العصابة، وتوفير المزيد من مناصب الشغل، وتحسين الإنتاج المحلي وتعزيز النسيج الصناعي والفلاحي والسياحي، إضافة إلى تمكين أصحاب المشاريع الجديدة من إطلاق مشاريعهم، لاسيما وأنها عرفت تأخيرا بسبب نقص العقار الصناعي، بفعل النهب والاستيلاء غير المشروع على أملاك الدولة، وذلك في إطار إعادة بعثها وتوزيعها على من يستحقها ويستغلها في الاستثمار المنتج.
وكان وزير الصناعة والإنتاج الصيدلاني، علي عون، مؤخرا، قد أسدى تعليمات تقضي بإلزامية التكفل “في أقرب الآجال” بالوحدات الصناعية المصادرة بموجب أحكام نهائية قضائية، المذكورة آنفا والبالغ عددها 23 وحدة، وذلك “تنفيذا وتطبيقا لتعليمات رئيس الجمهورية المتعلقة بالأملاك والأصول المصادرة بموجب أحكام نهائية قضائية”.
وشرع رؤساء المجمعات منذ الأحد، بحسب توجيهات الوزير، علي عون، في التقرب والتنسيق مع مصالح أملاك الدولة على المستوى المحلي، للإسراع في إعداد مختلف العقود الضرورية المتعلقة بهذه العملية للانتهاء منها “، كما تم تحويل بعض الوحدات والأصول لفائدة بعض الشركات العمومية التابعة للقطاع، والتي ستسوّى جميعها وفقا للإجراءات القانونية المعمول بها.
وبالنسبة للمصانع، كشفت وزارة الصناعة أنه تم استرجاع حوالي 15 مصنعا ضمن برنامج استرجاع الأموال المنهوبة، والشروع في عملية إعادة بعث نشاطها وتشغيلها من جديد يستفيد منها الاقتصاد في خلق مناصب شغل وتحقيق العوائد، وبالتالي المساهمة في الناتج المحلي الوطني في إشارة إلى الحبوب والصناعات الغذائية.
فارس هباش: تأميم المصانع المصادرة.. دعم للبنى التّحتية
اعتبر أستاذ العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير بجامعة سطيف، البروفيسور فارس هباش، عملية استرجاع الجزائر للمؤسسات الصناعية ضمن إطار استعادة الأموال المنهوبة خطوة مهمة، سيكون لها تأثيرات واسعة على الاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة.
قال البروفيسور فارس هباش إنّ مكافحة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة لطالما كانت من أهم أهداف الحكومات السابقة لتعزيز العدالة الاقتصادية والشفافية؛ كونها اندرجت ضمن التعهدات 54 لرئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون.
وأوضح هباش في تصريح لـ “الشعب”، أن عملية استرجاع المؤسسات الصناعية في الجزائر تأتي كجزء من إستراتيجية أوسع يرجى منها استعادة الثروات الوطنية المنهوبة، وإعادة توظيفها في دعم التنمية المستدامة وتعزيز الاستقلال الاقتصادي للبلاد.
ووفقا للخبير الاقتصادي، تعدّ المؤسّسات الصناعية من الركائز الأساسية للاقتصاد الجزائري، حيث تمثّل مصدرًا رئيسيًا للإيرادات وفرص العمل والنمو الاقتصادي، إذ أنّ استرجاعها من أيدي المتورطين في قضايا الفساد يوفر للدولة فرصة لإعادة تفعيل تلك الأصول الاقتصادية الهامة، ومن خلالها يمكن للحكومة الجزائرية استعادة إيرادات كبيرة كانت مفقودة نتيجة الفساد وسوء الإدارة.
وتابع بالقول: “هذه الإيرادات يمكن استخدامها في تدعيم البنى التحتية الصناعية، وتحسين الخدمات العامة، كما أنّها تتيح للحكومة إعادة تشغيل المصانع المستردة بكامل طاقتها، مما سيؤدي إلى خلق آلاف مناصب العمل المباشرة وغير المباشرة، وبالتالي المساهمة في خفض معدلات البطالة، وزيادة الدخل الفردي، وتحسين مستوى المعيشة”.
أما على صعيد الانعكاسات الاجتماعية والسياسية، أبرز هباش أن عملية استرجاع المؤسسات الصناعية وتأميمها يعد خطوة إيجابية نحو تعزيز الثقة بين الحكومة والمواطنين، وتعتبر رسالة قوية إلى المجتمع الدولي حول التزام الجزائر بمكافحة الفساد وتحقيق العدالة.
وأردف محدثنا: “عندما يرى المواطنون أن الحكومة تأخذ خطوات فعالة لمكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، يعزّز ذلك من الثقة في قدرة الحكومة على إدارة الاقتصاد بشفافية وكفاءة، وهذه الثقة تعد أساسًا لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، ومدخلا مهما في تعزيز صورة الجزائر على الصعيد الدولي وجعلها كدولة جادة في محاربة الفساد، وهذا ما يسهم في تحسين علاقاتها الدولية، ويجذب الاستثمارات الأجنبية التي تسعى إلى بيئة اقتصادية نزيهة ومستقرة”.
وبناءً على ذلك، يمثّل استرجاع الجزائر للمؤسّسات الصناعية كجزء من عملية استعادة الأموال المنهوبة، خطوة إستراتيجية هامة على صعيد الاقتصاد والتنمية، فمن خلالها تستطيع رفع النمو الاقتصادي، وتحقيق تنمية متوازنة ومستدامة، وتعزيز ثقة المواطنين والمجتمع الدولي في سياساتها، وبالإرادة القوية لرئيس الجمهورية والتزامه بتحقيق الأهداف التنموية يمكن قيادة الجزائر نحو مستقبل أكثر ازدهارًا واستقرارًا، يُضيف الخبير الاقتصادي فارس هباش.
هواري تيغرسي: مؤسّسات وأملاك تدعم قطاع الصّناعة التّحويلية
تدعّم قطاع الفلاحة والتنمية الريفية بثلاث مؤسسات كانت مجمّدة في وقت سابق بقرار قضائي، واليوم وبعد أن تمّ الإمضاء على عقود تحويلها مع مصالح أملاك الدولة، سيتم مباشرة الاستغلال الفعلي لها واستعادة آلاف الموظفين لمناصب عملهم في مؤسسات محترمة تدعم الاقتصاد الوطني، وتسهم في إنشاء الثروة وتقليص فاتورة الاستيراد.
أوضح بيان وزارة الفلاحة، أنّ القرار جاء تنفيذا لمخرجات مجلس مساهمات الدولة في اجتماعه الأخير بتاريخ 05 أوت 2024، المتعلق “باسترجاع الأملاك العقارية والمنقولة المصادرة بموجب أحكام قضائية نهائية في إطار مكافحة الفساد، ونقل ملكيتها إلى المؤسسات العمومية”.
أوضح الخبير الاقتصادي والنائب السابق بالمجلس الشعبي الوطني، الدكتور هواري تيغرسي، أنّ هناك استراتيجية وطنية مهمة لاسترجاع كل الأملاك العقارية المملوكة المصادرة، وهو مهم جدا لدفعها في إطار الحركية الاقتصادية، مشيرا إلى عدة مؤسسات تم استعادتها في مرحلة سابقة بالإضافة الى عقارات ومصانع، وفنادق تم إعادة دمجها في الاقتصاد الوطني تحت وسم المؤسسات العمومية.
وحول القرار الأخير باستعادة شركة متعلقة بإنتاج اللحوم البيضاء والبيض الموجه للاستهلاك، أشار محدّثنا إلى أنّ القرار مهم جدّا، منوّها بالجهود التي تم بذلها لاستعادة الشركات والأملاك التي تمت الإشارة لها في بيان الوزارة المعنية، ذاكرا شركة متخصصة في إنتاج الأجبان والتي تم نقل ملكيتها لمجمع عمومي للحليب ومشتقاته، بالإضافة إلى شركة إنتاج زيت الزيتون والتي تمّ نقلها لشركة تطوير الزراعات الإستراتيجية، وهو حدث هام ينبغي أن نوليه الاهتمام والمتابعة، حسب الخبير الاقتصادي.
وأضاف تغرسي أنّ من شأن هذه المؤسسات أن تضفي حركية ومرافقة لإنشاء الثروة في الجزائر، بالإضافة إلى توفير مناصب عمل، كما لا ينبغي إخفاء العوائد الناجمة عن الإضافات التي ستحصّلها المداخيل الضريبية لهذه المؤسّسات، وهو ما سيوفّر إمكانيات للخزينة العمومية وسيسهم في تفعيل الحركية الاقتصادية خصوصا بالمناطق التي تضم هذه المؤسسات والأملاك المسترجعة.
وأضاف الخبير الاقتصادي أنّ هذه بداية موفّقة لانطلاق فعلي وتسريع العملية، ولاسترجاع ثقة المواطن من خلال هذه القرارات المهمّة، كما أشار تيغرسي أن سياسة الجزائر في إطار استرجاع الأموال المنهوبة أو الأملاك المنهوبة أعطت حلولا وثمارا ونتائج على أرض الواقع.
وفي ذات السياق، أشاد هواري تيغرسي بأوامر رئيس الجمهورية بتسريع كل ما يتعلق بالوثائق الإدارية وإشكالية الملكية في أيام معدودة، وهو أمر مهم للقضاء على البيروقراطية والفساد الذي كان موجودا في المراحل السابقة، وإعطاء دفعة ونفس جديد للاقتصاد المحلي.
وذكر محدّثنا بتصريحات وزير العدل التي أكّدت بلوغ هذه الأموال والأملاك إلى مستوى عشرين مليار دولار، لذا فالتساؤل هو كيف يمكن إدماجها في الاقتصاد الوطني، من خلال قطاعات متعددة كالصناعات التحويلية والفلاحة والفنادق وعقارات ومساكن وبنايات، لذا فهناك ما تم استرجاعه وهناك ما تعمل السلطات على استعادته في المراحل القادمة.
وفي نفس السياق، ذكّر تيغرسي بتوقيع الجزائر لاتفاقيات مهمّة جدّا مع دول تتواجد على ترابها هذه الأملاك لاستعادتها في وقت لاحق، وهو ما ستكشف عنه قادم الأيام وستبرز قدرة الجزائر على التفاوض مع كثير من الدول.
وثمّن الخبير الاقتصادي استعادة الجزائر لهذه الأملاك والقيمة المضافة للاقتصاد قائلا “هذه أموال الشعب التي استغلّت سابقا وعرفت فسادا سابقا ها هي اليوم محرّرة من خلال انطلاق مشاريع حقيقية، تنقسم بين القطاع الخاص وما يستغل في القطاع العام”، كما أنّها ستعطي حركية للمناطق الموجودة بها هذه الأملاك المستعادة.
وعاد تيغرسي للحديث عن إشكالية العراقيل البيروقراطية بالنسبة للعديد من المصانع وعديد المؤسسات في وقت سابق، والتي أصبحت اليوم بفضل توجهات الحكومة تتمتّع بدعم كبير من قبل أعلى الهيئات بالبلاد، خاصة وأن مهمّتها أساسية في إنشاء فرص العمل وتوفير مداخيل إضافية للخزينة المحلية، وثروة تدعم الخزينة العمومية وتقلص حتى من فاتورة الاستيراد.
ويرى محدّثنا أن المصانع المنجزة أو المسترجعة مهمتها الأساسية واضحة في كيفية دعم السوق المحلي، والقضاء على الاستيراد الفوضوي والذي عانت منه الجزائر في وقت سابق، وضبط التجارة الدولية من خلال الدفع بقيمة الاستثمار بالجزائر، وأيضا الاستثمارات والإصلاحات الموجودة بالجزائر، والتي بدأت تؤتي بثمارها اليوم.