عاشت منطقة خراطة تفاصيل وأحداث الثورة منذ اندلاعها في الفاتح من نوفمبر 1954م. كان إسهامها بشكل منظّم وفعّال وجليّ، تبلور بعد الإجراءات التنظيمية التي أقرّها مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956م، القاضية بتوسيع وتعميم سلطة ورقابة الثورة على كافة ربوع البلاد، وهذا بتقسيم البلاد إلى ولايات، والولاية إلى مناطق، والمنطقة إلى نواح، والناحية إلى ضواح، والضاحية إلى قرى..
قوافل شهداء..
تجسّدت هذه الإجراءات التنظيمية عمليا، وتم إنشاء لجان أحياء تشرف على أهم أحياء خراطة وضواحيها، ومن مهامها عقد لقاءات مع السكان وتوعيتهم بالقضية الوطنية، وتجنيد الشباب واستقبال مسؤولي الثورة وجمع الاشتراكات، وإيصال المؤونة إلى المجاهدين، وجمع المعلومات حول تحركات الجيش الاستعماري والخونة، ونشر الوعي التحرّري في أوساط الشعب.
كانت معظم لقاءات هذه اللجان تتم ليلا في المسجد أو في بيت أحد المناضلين، وتتم بمواعيد مختلفة حسب الظروف والمعطيات، إذ تجري بشكل يومي أحيانا، ويتم أثناءها التحري في الموالين والملتزمين بالاشتراكات من غيرهم، خاصة وأنّ فرنسا كان لها السبق في السيطرة على المنطقة من خلال تجنيد الشباب في الجيش الفرنسي على مستوى ثكنات الدرادرة والمايدة ومركز متقدم في تأقليعت، وثكنة خراطة لا تريشتي، ومركز متقدم آخر في بني مرعي (واد أقريون) وآخر في جرمونة (تيزي نتومليلت)، وهي المراكز التي يتفاوت فيها تعداد الجنود الفرنسيين، حيث يتراوح عددهم بين السبعين والمائة تقريبا، ناهيك عن لجان الدفاع الذاتي المنتشرة عبر كثير من قرى خراطة، وتخضع كلّ هذه الهيئات لسلطة عسكرية محلية مقرها ثكنة لا تريشتي وثكنة المايدة التي اشتهر فيها النقيب برانكي والرائد بارتي ليمي، وقد ظهرت ثمرة الإجراءات الثورية الجديدة، من خلال بروز العديد من العناصر الثورية سواء كمجاهدين أو مسبّلين، كان لهم الدور الفاعل في ثورية المنطقة.
خراطة وسط..
تقع خراطة على إحدى مقاطع جبال بابور، هي مدينة صغيرة تعجّ بالمعمّرين، فأهم المراكز الاستعمارية موجودة فيها، أهمها مقر الحاكم، المحكمة، الفندق، المحلات التجارية، ووجود كثيف للمعمّرين وجيش العدو وسجن ومركز استنطاق لا تروشتي، وبالرغم من هذه السيطرة، فرض جيش التحرير الوطني وجوده بقوّة، من خلال القيام بالعديد من العمليات أربكت المعمّرين وزرعت في أنفسهم الرعب.
وكان النشاط الثوري مؤثرا في التحاق العديد من أبناء خراطة بالثورة من أمثال عاشوري مسعود، عليك العمري، عليك مسعود، عليك السعيد، عزي لخضر، بومعزة علي يحي باشا محجوبة سعيداني محمد بونوني رابح.
ولا يمكن الحديث عن منطقة خراطة دون ذكر المجاهد محمد البشير بومعزة، فهو من مواليد عام 1927 بخراطة، درس بمسقط رأسه بخراطة، ثم بجاية، وبعدها التحق بالثانوية بقسنطينة، ليلتحق بجبهة التحرير الوطني في نوفمبر 1954م مع تفجير الثورة التحريرية.
بني مرعي وبني مسالي
تقع القريتان في إحدى سلاسل جبل بابور، الذي يتميّز بطابعه الغابي الكثيف ومنحدراته الوعرة، وتعدان من بين المناطق التي استعصت على العدو، ووقعت فيها معارك كثيرة ذاق فيها العدو هزائم عدة، ومن أهم رجالاتها بوتوني حمو، معيوش محمود، مسالي علي، حمان عبد الله، حشمان علاوة.
جرمونة
تقع على سفح إحدى مقاطع سلسلة جبال بابور (تاكوشت) وتعد من أكثر جهات خراطة كثافة من حيث السكان وأكثرها تفاعلا مع الثورة، فقد برز فيها عدد معتبر من المجاهدين من أمثال: سوماني محمود، سوماني ابراهيم، معزوز بلقاسم، مباركي محمد، سمعون أحمد، عمران عبد العزيز.
ذراع القائد
وتعد من أهم المناطق التي ساهمت في الثورة والتي احتضنتها منذ بدايتها وأهم القرى منطقة ذراع القائد نجد كلّ من الصنادلة، بوزوقلة الدرادرة الرحامين، أجيون، أزغار، أولاد السعادة، أولاد أنصر، حيث تعتبر منطقة عبور بين جبال بابور وخراطة وبوعنداس وعين الروى.
ومن أبرز رجالاتها مداني مسعود، عليوات العياشي، مهناوي سليمان، قادري السعيد رحمون الصالح، بومعزة محمد الطاهر منصوري حمود الشريف.
لحزامات أو أم المخابئ
لحزامات، منطقة تابعة للولاية الثالثة وللمنطقة الأولى والناحية الأولى، كانت تعد منطقة عبور تربط بين لعنيني وبابور ورفيج، موقعها الاستراتيجي الرابط بين مختلف النواحي جعل منها ملجأ للثوار، حيث احتضنت الثورة المجيدة وتتشرف بلقب أم المخابئ؛ لأنّها كانت تحتوي على ثلاثة عشرة مخبأ أو ما يعرف بـ«الكازما”.
رغم قربها من مركز العدو (الكا) الذي كان متواجدا في منطقة درادرة، فهي لم تكتشف إلى غاية الاثنين 12 مارس 1962م، حيث قام العدو بقصف المنطقة بكلّ وحشية، ولا تزال آثار الدمار تشهد على ذلك إلى يومنا هذا، واستشهد يومها عاشوري أحمد، وقادري عمار، بينما ألقي القبض على حطاب العمري.
وأهم هذه المخابئ هي: إسطبل جودر أسعد، المخبأ المسمى مراح الجمال، المخبأ ماقرمان، كف غراب، مخبأ القتار، مخبأ المجاهدين ببيت درويش محمد بالبياضة، مخبأ منزل حمو أحمد وحمو رضوان مخبأ بيت عائلة الإخوة حمزة بمنطقة أولاد سعادة مخبأ بمنزل المجاهد معوني الشريف، مغارة بجبل سيدي سعيد.
تأخّر انطلاق الثورة بالمنطقة
تأخّر منطقة خراطة على غرار باقي مناطق الولاية الثالثة التي شهدت نشاطا واسعا في عمليات التعبئة السياسية والعسكرية منذ أواخر 1953 ومطلع 1954م، بحيث كان مناضلوها ينتظرون بحماسة إعلان الثورة، باعتبارها منطقة محورية بحكم موقعها على حدود الولاية الثانية، وكانت محلّ اهتمام كبير من مسؤولي جبهة التحرير الوطني الذي يرغبون في بسط نفوذهم، وربط الاتصالات بين مختلف المناطق، خاصة منطقة الأوراس والشمال القسنطيني.
إنّ مثل هذه المؤشّرات وغيرها استطاعت أن تضع منطقة خراطة وضواحيها ضمن المناطق التي يكون لها شأن كبير في الثورة منذ انطلاقتها، لكن شيئا ما حدث على مستوى تلك المنطقة وأغلب مناطق القبائل الصغرى، جعلها تتأخّر عن مواكبة الحدث في أول انطلاقته.
ويرجع هذا – بصفة مباشرة – إلى انقطاع الاتصالات التي كانت تجري بين المسؤولين السياسيين في المنطقة وبين قادة الحركة السياسية على مستوى القبائل الكبرى، منهم كريم بلقاسم.
الانطلاقة الفعلية للثورة بالمنطقة
استنادا إلى شهادات كثير من المجاهدين الذين عاشوا أحداث الثورة، المنطقة لم تعرف عمليات عسكرية منظمة خلال اندلاعها في عامها الأول، بل مجرد أعمال لم يكن لها أثر كبير على الاستعمار، واستمرت على هذه الحال إلى غاية منتصف عام 1955م.
لقد عرفت العمليات العسكرية في منطقة خراطة وضواحيها نشاطا كبيرا في بداية سنة 1955م، وقد شهدت أحداثا لا يستهان بها، استهدفت مختلف المصالح الاستعمارية الفرنسية ومراكزها العسكرية.
كرونولوجيا أهم المعارك في المنطقة
وكانت أهم المعارك والاشتباكات، التي خاضها جنود جيش التحرير في مواجهة العدو ومساهمة المنطقة في الثورة التحريرية، ومن تلك المعارك والاشتباكات نذكر ما يلي:
معركة لعلام
وقعت معركة لعلام في 06 فيفري 1956م بجبال البابور بقيادة حسين الموسطاش، في بداية المعركة قام المجاهدون بتدمير جهاز الإرسال الفرنسي، حيث لم تعد لهم وسيلة للاتصال مع قيادتهم، كانت معركة قوية وسريعة، ما سمح للمجاهدين بتحييد جلّ عساكر العدو الفرنسي.
ولقد أصيب الملازم الذي كان يقود الفوج الفرنسي ولجأ إلى الدشرة التي كان يتواجد فيها المجاهدون، حيث تلقى العلاج، أما فيما يخصّ الغنائم من هذه العملية فقد تم الاستيلاء على 18 قطعة سلاح.
معركة حلية
وقعت معركة حلية في منطقة بوعنداس، يوم الخميس 15 مارس 1956م بقيادة الضابط يوسفي الحسين، حيث كان معه أكثر من 80 مجاهدا يمرون ببوعنداس، متجهين إلى جبال البابور، أين اكتشف أمرهم من طرف حراس الثكنة العسكرية المتواجدة بالمنطقة، وعندها أطلقت صفارات الإنذار.
ووصلت الإمدادات في حدود منتصف النهار، فبدأت القوات الفرنسية بإرساء جنودها على الأرض، ممّا سهل المأمورية على جنود جيش التحرير، واستمرت المعركة إلى غاية صبيحة الجمعة 16 مارس 1956م، كما امتدت المعركة إلى القرى المجاورة لحلية، وأسفرت عن تحييد أكثر من 200 جندي فرنسي، بينهم قادة كبار، واستشهاد ما يقارب 10 مجاهدين، ونتيجة لهذه الهزيمة.
أراد الاستعمار الفرنسي الانتقام من سكان هذه المنطقة، ففي يوم الجمعة جمع كلّ سكانها في مكان يسمى ثادارث أو قماط، وبدأ في تعذيب من له علاقة بالمجاهدين خاصّة نسائهم وأمّهاتهم، ثم ساقوا كلّ الرجال وكان عددهم 64 إلى مركز الجيش الفرنسي للتحقيق معهم.
وعند وصولهم إلى مركز الجيش الفرنسي، بدأ السفاح روبير لاكوست بقتل الأبرياء على شكل مجموعات تتكوّن من شخصين، ثم جاءهم أمر بضرورة الإسراع في العملية، فحوّلوا القتل من شخصين إلى أربعة رميا بالرصاص، واستشهد في هذه المجزرة 53 شهيدا من أبناء القرية، ولم يكتف الجيش الفرنسي بهذا، بل تعدّى إلى قصف القرية كلّها.
معركة ثالة نزاقة وسقلاب
وقعت المعركة في ربيع 1956م تحت قيادة المجاهد المحنّك علي زرماني، وذلك بعد الحصار الذي قامت به قوات العدو على القرية، حيث استمرت المعركة طيلة يوم وليلة.
وقد سجّل في نهايتها استشهاد مجاهد من جيش التحرير، وجريحين من سكان القرية، في حين استطاع أفراد جيش التحرير أن يفكّوا الحصار عن أنفسهم، وتمكّنوا من إسقاط مروحية للعدو، وتحييد بعض الجنود الفرنسيين.
معركة إغيل إملان تالة نتغرا جرمونة
وقعت المعركة بسبب وشاية الخونة بوجود فصيلة من حوالي خمسة وعشرين إلى ثلاثين مجاهدا بمنطقة إغيل إملان، وبمجرد وصول الخبر إلى قوات الاستعمار، أطلقت عملية كبرى للهجوم على المجاهدين، واستخدم المستعمر مختلف الأسلحة ولم يستثن الطائرات.
وقد وقع اشتباك عنيف بين مجاهدي جيش التحرير الوطني وجيش العدو الفرنسي دام حوالي أربع ساعات، وشارك في المعركة العياش بوسكورن، سي عثمان زعبوبي، الطاهر بويش، موصاور عبد الله، باركات إسماعيل، واري محمد، سمعون عبد القادر، سوالمي عمر، وسمعون شريف الذي يعتبر أول شهيد يسقط بمنطقة جرمونة.
معركة أمراح
وقعت في منتصف شهر ديسمبر سنة 1957م، حيث تم عقد اجتماع بآيت عيسى ضمّ كلّ مسؤولي قادة النواحي والأقسام، وقد كان تعداد الجيش 600 جندي، ما بين الكتيبتين والفيلق.
وقد اقتنع العدو بأنّ الخروج لمطاردة هذا الجيش مجازفة لها عواقب وخيمة، إلا أن ضابطا من الحركى خرج لملاحقتهم، لكنّه وقع في كمين نصبه بعض المجاهدين وتم تحييدهم جميعا دون إحداث أيّ خسائر في صفوف المجاهدين.
معركة مهروجة
وقعت المعركة في بداية سنة 1957م بقرية درقينة في الجهة الشرقية لخراطة بجبال البابور، جرت بين كتيبة لجيش التحرير الوطني تعدادها حوالي مائة جندي، كانوا في طريقهم إلى تونس لجلب السلاح، وقوات الجيش الفرنسي، وعند وصولهم إلى المكان المسمى مهروجة، فوجئوا بجيش كبير من قوات العدو يحاول فرض الحصار على المنطقة..
قال المجاهد بقة، حول هذه المعركة: “فجأة، لاحظنا مجموعة من الجنود الفرنسيين تتجه نحو مواقعنا، فاستنتجنا أنّ أحدهم تمكّن من إشعار العدو بوجودنا، وقد كانت القوات الفرنسية مدعّمة بثلاث طائرات تقصف القرية، ولقد استطاعت أن تلحق بصفوف جيش التحرير الوطني خسائر ثقيلة، استشهد 49 مجاهدا، ويعود سبب هذه الهزيمة إلى عدم معرفة المجاهدين للمنطقة من جهة، وعدم امتلاك أغلبية المجاهدين للسلاح من جهة أخرى.
معركة أولاد السعادة
وقعت المعركة بعد قيام أحد الخونة بالوشاية بوجود المجاهدين بوشنين البشير وعليوات العياشي، بدوار مسيوانت، وذلك بعد أن توسّط المجاهدان لحلّ نزاع بين اثنين من أبناء الدّوار، بسبب “دين مالي”، ولم يحلّ النزاع بين الطرفين، فاتصل أحد الغريمين بجيش العدو، الذي قام بتمشيط واسع للمنطقة من قرية الصنادلة إلى غاية قرية أولاد سعادة، وكان ذلك صباحا في شهر رمضان والجو ماطر، وكان المجاهدان يومها بمنزل طاهير ساعد، وبمجرد علمهما بالتمشيط خرجا من البيت، وعند وصولهما إلى تالة أو صفصاف، اشتبكا مع جيش العدو.
واستمرت المعركة حوالي ثلاثة ساعات، حيث استشهد عليوات العياشي، أما البشير بوشنين فقد أصيب برصاصتين واحدة في الكتف وأخرى في الرجل، وانسحب من مكان المعركة، ولجأ إلى منزل محند أو الطيب سناسني محمد، ثم اتجه نحو منزل اخلف مسعود واختبأ بالزريبة، وفي ذلك الوقت قامت طائرات العدو بقصف بيت محند أو الطيب وأحرقته، واعتقل صاحب البيت والعديد من المواطنين.
ختاما..
هذه عيّنة من المعارك التي خاضتها منطقة خراطة دفاعا عن الوطن، فقد تأثّر سكانها بما حلّ بهم في مجازر الثامن ماي 1945 من تقتيل وتعذيب، الأمر الذي حفّزهم – على غرار باقي مناطق الوطن – على الاستعداد للكفاح المسلّح، واقتناعهم بفكرة الثورة.
وهذا من خلال بروز عدّة شخصيات في الميدان السياسي والعسكري لعبت دورا كبيرا في تنشيط التيار بالمنطقة، وتحفيز السكان من أجل الوقوف إلى جانب هذه الفكرة ودعمها بالنفس والنفيس، ويظهر ذلك من خلال تلك العمليات الجريئة التي شهدتها المنطقة، وكذا وقوع عدّة اشتباكات ومعارك كبرى، حيث نجد أنّ كلّ هذا من أجل تحييد النظام الاستعماري والتمكين للثورة.
بقلم: هادي مراح
جامعة البويرة