في عمق جبال الأطلس الصحراوي، بين المنحدرات الخلابة والوديان الهادئة، يكمن كنز تاريخي كان بعيدا عن الأنظارـ ولكنه اليوم يبرز كوجهة سياحية مميّزة.. “حمام الشارف”، هذا الموقع التاريخي، الذي تعود جذوره إلى الحقبة الرومانية، شهد تحوّلات كبيرة جعلته أحد أبرز المقاصد السياحية في الجزائر بفضل موقعه الاستراتيجي ومياهه ذات الخصائص العلاجية الفريدة. ولاية الجلفة، التي تجمع بين عراقة التاريخ وثراء الطبيعة، تفخر بوجود الموقع كأحد كنوزها الطبيعية، ممّا يجعله وجهة بارزة تستقطب الزوار من مختلف أنحاء البلاد.
بدأت رحلتنا إلى غرب الولاية عبر منعرجات جبال سلسلة الأطلس الصحراوي على طريق الجلفة – البيض. مرورنا على الطريق المعروف “باللواي” بين أحضان جبال سن الباء، قادنا إلى حمام الصالحين المعدني ببلدية الشارف، الذي يقع على بعد 5 كلم عن مقر البلدية و45 كلم عن عاصمة الولاية الجلفة.
تحفة تاريخية تعود للحياة .. حمام الصالحين بين الأمس واليوم
يعد حمام الصالحين المعدني الأول في المنطقة، وقد اكتشف خلال الحقبة الرومانية، كما ذكر لنا الإمام المعتمد لدائرة الشارف، سي الميلود شريط. خلال فترة الاستعمار الفرنسي، قامت السلطات ببناء حجرتين تحت القنطرة، أطلق على إحداهما اسم الحمام الشمالي “حمام الكوماندا”، بينما أطلق على الأخرى اسم الحمام الجنوبي. كان الهدف من هذا البناء هو تلبية احتياجات “الكولون والباشوات” بتوفير مكان يستجمون فيه بعد إجراء تحاليل طبية أثبتت فعّالية العلاج المائي لأمراض عدّة.
مشاريع استثمارية تعيد إحياء التاريخ
ظلّ الحمام على حاله حتى استقلال الجزائر، حيث أضيفت له حمامات جديدة، بما في ذلك حمام خصّص لعلاج مرضى الكبد. في فترة لاحقة، أنشئت سكنات مزجت بين الهندسة القديمة والحديثة، وامتلكتها البلدية التي كانت تؤجّرها للمستثمرين. ومع مرور الزمن، تدهورت حالة المباني، حيث تآكلت جدرانها وكسرت الأبواب والنوافذ، حتى أصبحت في حالة من الإهمال.
لكن خلال الٱونة الأخيرة شهد حمام الشارف تحوّلا كبيرا بفضل مشاريع استثمارية الكبرى التي أعادت له الحياة، لتصبح المنطقة واحدة من أهم الوجهات السياحية في الوطن، يجد فيها الزوار فرصة للعلاج والاستجمام في موقع يتسم بالهدوء والطبيعة الخلابة.
خصائص علاجية واستشفاء طبيعي
يتمتع حمام الشارف، وفقا لما أكّده بعض السكان المحليين، بمجموعة من الخصائص الفيزيائية والكيميائية والعلاجية الفريدة. تصل حرارة المياه عند الخروج إلى 46 درجة مئوية، وتدفّقها يصل إلى 40 لترا في الثانية. يعرف الحمام بقدرته على معالجة عدّة أمراض، بما في ذلك الروماتيزم وأمراض الأعصاب والجلد والغشاوة، فضلا عن أمراض المفاصل.
في الوقت الذي يستغل فيه هذا المنبع تقليديا، تسعى الدوائر الرسمية إلى تحسين عملية استغلاله وجعله يتماشى مع معايير الحداثة. تتميز المياه المعدنية الطبيعية الساخنة بقدرتها على التخفيف من آلام المفاصل، وهي تصل إلى درجة حرارة 50 درجة مئوية عند المنبع و46 درجة مئوية عند وصولها إلى المسبح. كما تحتوي المياه على معادن هامة مثل الحديد والكبريت وكبريتات الكالسيوم، التي لها فوائد كبيرة لجسم الإنسان، وتساعد بشكل خاص كبار السنّ والمرضى المصابين بالتهاب المفاصل.
مشاريع جديدة لتعزيز السياحة في المنطقة
صرح “بن الصادق عبد القادر”، نائب رئيس بلدية الشارف لـ “ الشعب” أنّ هناك اتفاقية سارية المفعول بين البلدية والوكالة العقارية، تنصّ على أنّ إدارة منشآت الحمام ستكون مشتركة بين الولاية والوكالة العقارية. وبموجب هذه الاتفاقية، تتولى الوكالة العقارية مسؤولية تسيير منشآت الحمام، وتتضمّن الاتفاقية أيضا توفير فترة زمنية ممتدة للوكالة بهدف تطوير الاستثمار في المنطقة. كما أشار إلى أنّ الاتفاقية ما تزال قيد الدراسة وتشمل إقامة فنادق ومرافق حمامات حموية، بالإضافة إلى برمجة دار للصناعة التقليدية.
وأضاف بن الصادق أنّ هناك مشاريع مبرمجة، مثل إنشاء مركز راحة للأمن الوطني ومركز آخر تابع لخدمات التربية.
كما أشار ذات المسؤول إلى أنّه تم خلال الشهر الماضي استلام طريق يربط بين منطقة “التوازي” و«الحمام” بطول 5 كلم، والذي سيساهم في فكّ العزلة عن سكان منطقة “التوازي” وربط “الحمام” بالمناطق الشمالية للبلاد.
وذكر بن الصادق في سياق حديثه أنّ بلدية الشارف كانت قد اقترحت على الولاية حفر بئر لتزويد سكان منطقة الحمام وبلدية الشارف بالماء الصالح للشرب، وعند بدء الحفر بواسطة مديرية الري، تم اكتشاف أنّ المياه من أجود أنواع المياه الحموية في الوطن.
نجاحات وإنجازات مستثمرين
في إطار حديثنا مع المستثمرين حول تطورات حمام الشارف، أشار كرمة امحمد مدير ومسير مركب حمام بوصوار “نافورة الشفاء” إلى أنّ حمام الشارف أصبح وجهة مميزة للعائلات والمهتمين بالثقافة النائلية. ولفت إلى أنّ فصل الصيف يشهد حضور فرق ثقافية من مختلف المناطق الجزائرية، مثل الأغواط، مسعد، غليزان، تيارت، قصر الشلالة، المدية، والبليدة، والجزائر العاصمة. وأوضح أنّ جميع الغرف في المركب محجوزة حاليا، وأنّ هناك إقبالا كبيرا على هذه الوجهة.
وأضاف كرمة أنّ المركب عقد اتفاقيات مع مديريات الضمان الاجتماعي في ولايات تيزي وزو، بجاية، وتيسمسيلت، لاستقبال المعوزين وكبار السنّ من دور العجزة. كما يتضمّن المركب عيادة ومسابح وخدمات استعجالية مجانية، ممّا أسهم في خلق حركة تجارية نشطة في بلدية الشارف، حيث تبادل الثقافات بين مناطق الوطن، وساهم مركب “ نافورة الشفاء” في توفير 25 منصب عمل دائم، إلى جانب 15 منصب عمل غير مباشر، شملت وظائف مثل “الكياس” في الحمام، أصحاب النقل، وأطفال يبيعون الطعام.
وأشار كرمة إلى أنّ المنافسة بين المشاريع السياحية تحفّز على تحسين الخدمات، لافتا إلى أنّ الزوار، بمن فيهم المسنّون الذين يصل عمر بعضهم إلى 100 سنة، يحقّقون تحسّنا ملحوظا في حالتهم الصحية ويعتبرون تجربة الحمام أفضل من الذهاب إلى البحر. ويعتقد أنّ الحمام يستقبل حوالي 30 إلى 40 ألف زائر شهريا عبر المركبات السياحية المتواجدة في المنطقة.
من جهته، المستثمر بن علي الميلود، المعروف بـ “ بن عزوز” هو أحد سكان المنطقة الذي استثمر في مجال الحمامات المعدنية بعد أن لاحظ جمال المنطقة وخصائصها الطبيعية الفريدة. بحكم تخصّصه الأكاديمي في الري من جامعة الجلفة وممارسته لمهنة المقاولات في مجال الآبار الارتوازية منذ عام 2000، قام بن علي الميلود بتقديم أول ملف استثمار في مجال الحمامات الحموية إلى ولاية الجلفة.
تحدّث بن علي عن تجربته قائلا إنّه حصل على رخصة حفر المياه الجوفية بفضل تخصّصه وخبرته في الري، وأطلق مشروع “الفوراج” الخاص به بعد الحصول على الكمية الكافية من المياه الحموية. بفضل التسهيلات التي تلقاها، تمكّن من إنجاز المشروع بنجاح وتوفير رخصة مطابقة للاستغلال.
وأكّد بن على أنّ المشروع يستقطب الزبائن من كافة أنحاء الوطن، ويقدّم خدماته بأعلى معايير الجودة. يوفر المشروع 50 وظيفة في مجالات متنوّعة، ويشتمل على عيادة للإسعافات الأولية. كما أشار إلى أنّ الأسعار معقولة، حيث يمكن للعائلات الاستفادة من حمام ومسبح بسعر 5000 دينار جزائري، وهو ما يمكن أن يستوعب عائلة كاملة. كما يتوفر المركب على خدمات متنوّعة، بما في ذلك الغاز وماء الشرب، ويعكف حاليا “ بن علي “ على فتح محلات جديدة لبيع الخضر والفواكه واللحوم.
أوضح مسير مركب النوي، أنّ المؤسّسة تعمل على توسيع خدماتها بإضافة شقق جديدة وأحواض سباحة، بالإضافة إلى خدمات أخرى، كما يتمتع الزوار بتجربة شاملة حيث يتم توفير النقل إلى المستشفى في حال حدوث حالات طارئة. وأضاف أنّ المؤسّسة هي الأخرى توفر العديد من فرص العمل لفئات مختلفة، كما تدعم الباعة المحليين للخضر والفواكه بتقديم تحفيزات لهم، ممّا يعزّز من تنوّع المنتجات الطازجة المتوفرة في المركب.
وفي إطار تقديم تجربة سياحية متكاملة، تنظم المؤسّسة رحلات ترفيهية إلى غابة “ڨطية” ومناطق أخرى لاستنشاق الهواء النقي، ممّا يساعد على تعريف الزوار بالمنطقة. وأشار أحد زوار المركب إلى أنّ الأسعار تعتبر معقولة مقارنة بالخدمات المقدّمة، حيث أشاد بتوفر جميع المرافق الأساسية.
سياحة وتبرك .. بين الأسطورة والاستثمار السياحي
على مقربة من وادي الحمام، تتربّع صخرتان كبيرتان على قمة جبل صغير، تحيط بهما صخور كبيرة متشابكة. يطلق على هاتين الصخرتين اسم “المقرونات”، ويعتبرها البعض مكانا مباركًا. يقول بعض الزوار إنّ أولياء صالحين مرّوا من هنا وتركوا بركتهم بين الصخرتين، ممّا جعلها وجهة للزوار بحثا عن الشفاء.
تروى عن هاتين الصخرتين العديد من القصص الغريبة، من بينها قصة سيدة من ولاية مجاورة كانت ابنتها تعاني من شلل كلّي. بعد خمس سنوات من زيارة الأطباء وإنفاق كلّ ما تملك دون جدوى، رأت في منامها هاتفا يوجّهها إلى زيارة “المقرونات”. وبعد بحث استمرّ سنة، عثرت على الصخرتين وطلبت الشفاء لابنتها، التي شفيت بالفعل. منذ ذلك الحين، أصبحت السيدة وابنتها تزوران المنطقة بانتظام.
كما يقال أيضا إنّ الصخرتين كانتا تعرفان بـ “حجرة العاقر”، حيث كانت النساء اللواتي يعانين من العقم يعتقدن أنّهن سيحملن إذا زرن هذا المكان وأدّين بعض الطقوس بين الصخرتين. لكن مع مرور الوقت، تراجعت هذه الاعتقادات وتغيّرت.
الصخرتان “ المقرونتان” اليوم، لم تقتصر قيمتهما على الجانب التاريخي فقط، بل أصبحتا جزءا من استثمار سياحي مبتكر. أحد المستثمرين قام بتحويل الموقع إلى مدخل جميل لمشروع سياحي يعزّز من جاذبية المنطقة ويشجّع على السياحة.
حمام الصالحين .. حكاية أسطورة ومقاومة
تروي المصادر المحلية، نقلا عن الإمام المعتمد في دائرة الشارف سي الميلود شريط، أنّه في أواخر القرن التاسع عشر، زار الولي الصالح “سي محاد بلقاسم” منطقة حمام الشارف قادما من منطقة الهامل. وقد وجد الشيخين الصالحين “عبو السلامي” وأخاه “دهينة”، اللذان كانا يشرفان على استقبال زوار الحمام ويقدّمان لهم وجبة “الروينة” وهي أكلة تقليدية شعبية عبارة عن قمح يحمّص على النار ثم يطحن، وتعد جزءا من العادات والتقاليد في المنطقة.
أراد “سي محاد بلقاسم” أن يخصّص للشيخ “دهينة” حماما خاصا، فذهب به إلى حافة الوادي، هناك، ضرب بيده على الأرض، فانفجر ماء ساخن، وفرض شرطا ألا يبنى فوق الحمام، وأن يضع الزوار أعمدة وفوقها غطاء للستر عند دخولهم الحمام. وقد عرف الحمام بفعّاليته في علاج الأمراض، وكان يقصده الناس من كلّ مكان حتى سنة 1990، عندما جفّت العين وانقطعت المياه.
بالقرب من الموقع، توجد مقبرة تاريخية تعود إلى عام 1700 ميلادية، حيث يُدفن موتى سكان المنطقة.
الراية وذاكرة التاريخ
يروي سي الميلود شريط أنّ الشيخ “سي التواتي” التقى بالأمير عبد القادر خلال المقاومة التي انطلقت من الشارف بقيادة موسى بن الحسن الدرقاوي، وذلك في إطار مبايعة سي الشريف بلحرش للأمير عبد القادر. قام الأمير عبد القادر بتقديم الراية والسيف للشيخ “سي التواتي”، ممّا جعل الحمام يسمى “حمام الصالحين” تكريما لهذا الشيخ الصالح.
ويضيف أنّ الشيخ “سي التواتي” كان يستخدم الراية في تنظيم “الطعم” أو “الوعدة”، وهو احتفال تقليدي كبير يتضمّن ألعاب الخيول وتقديم الأطعمة وذبح الأغنام. كان هذا الطعم يعقد بشكل دوري، حيث يجتمع الناس من جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك من خارج الولاية، للاحتفال وإبرام الصلح بين العروش المتنازعة.
بدأت عادة “الطعم” بعد صلح بين عرشين كانا على خلاف طويل، وهو ما رسّخ تقليد رفع الراية في المناسبات الكبرى والإصلاح بين العروش في ولاية الجلفة. كما كانت الراية ترفع في الأعراس نظرا لما لها من بركة. الراية التاريخية لا تزال محفوظة عند أحفاد “سي التواتي”، وتوجد حاليا لدى حفيده “سي أحمد”.
مستقبل سياحي واعد
في ختام جولتنا في حمام الشارف، وجدنا أنفسنا أمام نموذج حيّ لتلاقح التاريخ مع الحداثة. هذا الموقع، الذي كان يعتبر مخبأ لذكريات ماض بعيد، قد أصبح الآن في صدارة الوجهات السياحية بفضل جهود التحسين والتطوير التي شهدها. المشاريع الحديثة والتحديثات التي أدخلت على الحمام لم تقتصر على إعادة إحياء مكان تاريخي فحسب، بل أسهمت أيضا في تعزيز الاقتصاد المحلي وتوفير فرص عمل جديدة. كما أنّ الاهتمام بتطوير المنطقة يعكس رؤية واضحة نحو مستقبل مشرق، يجمع بين الاستفادة من التراث العريق والاستثمار في البنية التحتية الحديثة.
من خلال النهوض بموقع حمام الشارف، فإنّ ذلك يعتبر بداية فصل جديد من الاستفادة من الثروات الطبيعية والتاريخية بطرق مبتكرة. وبالطبع، فإنّ هذا التطوّر يفتح المجال أمام المزيد من الاستثمارات، ممّا سيساهم في تعزيز موقع الجزائر كوجهة سياحية عالمية. وحمام الشارف ليس مجرد محطة استشفاء بل هو رمز لقدرة المنطقة على تحويل التحديات إلى فرص، وتجسيد للأمل في بناء مستقبل مزدهر يرتكز على جذور الماضي.