ترك الوجود العثماني في الجزائر تأثيرا مس مختلف الجوانب السياسية، الإجتماعية، الإقتصادية والثقافية، بحكم احتكاك المجتمع الجزائري بالعثمانيين الوافدين إلى الجزائر في إطار الحماية.
تشير الكثير من المصادر والوثائق العثمانية، إلى جانب مهم يتمثل في المعاملات اليومية التي كانت تتم بين العثمانيين وشرائح المجتمع الجزائري من خلال عقود البيع والشراء بين الجنود الانكشارية والسكان، عقود الزواج والمصاهرة وتوزيعهم الجغرافي من حيث مناطق سكناهم بين السكان.
ونجد أيضا تأثير الأندلسيين، الذين استقدمهم البحارة خير الدين برباروس الى الجزائر، بعد انقاذهم من محاكم التفتيش الإسبانية، التي كانت تقتل المسلمين وتطاردهم في ديانتهم، هؤلاء الأندلسيين جلبوا ثقافة ومهنا وحرفا تاركين بصمة واضحة خاصة في مدينة الجزائر، من حيث طريقة استغلال السدود، وبناء السواقي واستحداثهم لمشاتل قصب السكر، التي نافست الإنتاج الأوربي، وتوسيع مزارع التوت الأندلسي، وزراعة الزعفران.. إلخ..
وتطرقت دراسة، هي عبارة عن أطروحة لنيل شهادة دكتوراه العلوم في التاريخ الحديث، بعنوان ” تأثير الوجود العثماني في مدينة الجزائر خلال عهد الدايات 1082-1830، للباحث عبد الرحمان نواصر، إلى مدى اسهام العثمانيين في إدخال عناصر جديدة إلى مدينة الجزائر، والتأثيرات العثمانية في الجانب العمراني، العادات والتقاليد ودور المرأة في مجتمع مدينة الجزائر، والجانب الصحي والمعيشي.
واعتمد الباحث في دراسته على رصيد من الوثائق العثمانية، متمثلة في سجلات المحاكم الشرعية، سجلات المال، المتعلقة بالتركات والمواريث، ودفاتر البايلك التي تقدم مداخيل مرسى مدينة الجزائر، وأسماء بعض رياس البحر، والسفن التي كانت تنشط، والأملاك العقارية الموقوفة في مدينة الجزائر، وغيرها من السجلات، التي تعكس الكثير من مظاهر الحياة الاجتماعية، والتأثير العثماني البارز في اللباس، والأكل، والتأثير في الجانب اللغوي، حيث رصدت الدراسة الكثير من الكلمات العثمانية المتداولة.
الإحتفال بشهر رمضان
امتاز الإحتفال بشهر رمضان في العهد العثماني بإطلاق 100 مائة طلقة من مدفع كبير أقيم في الميناء، وهذا ليلة حلول هلال رمضان، وتوقد مصابيح كثيرة فوق منارات المساجد تبرز الهلال الموجود عليها ويرفع العلم الأبيض، وإقامة صلاة التراويج، والتهجد، وكان فطور الصائمين الكسكس بالزيت واللحم المقلي والفواكه، حيث ينصرف الصائمون بعد الإفطار للإستماع الى الموسيقى طيلة شهر رمضان ويستمتعون بمشاهدة الرقص وعروض القراقوز.
عندما تقام صلاة العيد تذبح الأضاحي وعادة ما يكون مكان الذبح عند جامع الحواتين بالقصبة، وتطلق البنادق مصحوبة بالموسيقى العسكرية، وكان يسمح للأسرى بالخروج بمناسبة عيد الأضحى.
عادة يختن الأطفال في سن الرابعة والرجل الذي يقوم بالختانة يسمى “البثار”، ويتلقى من الأغنياء هدية، أما الفقراء يختن أبنائهم مجانا.
عادات الزواج
كان المكان المناسب لإختيار الزوجات هو الحمام، وقد يكون الإختيار عن طريق الوساطات من طرف نساء مسنات لهم دراية كبيرة في أمور الأحياء، لذلك كانت لهن مكانة مرموقة في مجتمع مدينة الجزائر، وتتلقى مكافأة كبيرة في حالة ما نجحت مهمتها المتمثلة في الوساطة من طرف الخاطب,
يدوم احتفال الزواج أسبوعا كاملا، وعند عقد القران تنقل الزوجة الى دار زوجها على الهودج في موكب بهيج على أنغام الموسيقى أو الغايطة.
من المأكولات، التي جلبها العثمانيون معهم خاصة الحلويات البقلاوة والشوربا والبشماط والخبز المجفف، والبرغل، والدولمة، والشربات، والزلابية ومن العجائن نجد الرشتة.
القفطان رمز الفخامة
ومن الألبسة، الشربوش أو الطربوش، المنديل (المحرمة)، التقاشير أصلها من الكلمة التركية قليشن أي الجوارب، وزدام من كلمة جزدان أي محفظة النقود، القفطان والذي يعتبر من ملابس الفخامة في المجتمع الجزائري انتشر ارتداءه عن طريق العثمانيين، يلبسه الجنسان. يصنع من القطن والساتان الدمشقي وأنواع أخرى مطرز بالذهب والفضة يقفل بقفلين عند البطن، وتوجد ملابس اخرى مثل الفريملة والكراكو والغليلة وغيرها من الملابس.
وتأثرت النساء الجزائريات بالملابس التي توضع على رأس التركية، وتأثرن بفن التطريز بالخيوط الحريرية والقطنية والذهبية، والحلي مثل الخواتم، الخلخال من الذهب والفضة، وأقراص الذهب والأساور، والمعدن الشائع في الطبقات الغنية هو الذهب,
في هذا الشأن يقول الباحث نواصر: ” تظهر بصمة العثمانيين في الحلي الجزائرية فيما يعرف “بالعصابة”، التي كانت تصنع من الفضة، ونادرا ما تكون بالذهب مكونة من سبع قطع مستطيلة الشكل مزخرفة بزخرفة نباتية”.
ويذكر المصدر ذاته، قصة هذه العصابة، والتي وردت في دراسة للباحث عائشة حنفي، وهي أنه عند قدوم العثمانيين الى مدينة الجزائر قدم لهم سكان منطقة بوزريعة الكسكس، في حين كانوا يدبرون لهم مكيدة، فحذرت إحدى النساء الجزائريات زوجها التركي ففشلت المكيدة، وذلك بوضع المرأة عصابة من الفضة على جبينها كإشارة تحذيرية على وجود مكيدة، وبعدها بدأت نساء مدينة الجزائر يتزين بها.
ومن التأثيرات العثمانية في الحلي الجزائري نجد “العقد السلطاني”، أو الشنوف السلطاني، نسبة إلى سكة النقود الذهبية المعروفة بالسلطاني، مثلما يؤكده المصدر ذاته، حيث تأثر الجزائريون في صناعة الحلي بالزخرفة العثمانية مثل رسم زهرة القرنفل وزهرة اللالة.
تأثير الهجرات الأندلسية على مدينة الجزائر
كان للأندلسيين تأثير بارز ابتداء من القرن 16م، ولكن مع مطلع القرن 18 بدأ ينكمش هذا الدور إلى أن ينتهي باندماجهم في فئات المجتمع.
أدخل الأندلسيون صناعات عديدة، ففي مدينة الجزائر كانت ورشاتهم منتشرة بحسب توزيع الأسواق كسوق الغزل والشواشي والنجارين والفخارين والعطارين والصياغة، وغيرهم .
وأهم الصناعات، التي عرف بها الأندلسيين في مدينة الجزائر هي صناعة الأقمشة خاصة الحريرية، حيث اشتهرت بها عائلات مورسكية مثل عائلة “بوناطيرو” وكذلك اختص الأندلسيون بصناعة الشاشية الأندلسية، التي حظيت برواج كبير في أسواق تونس واسطنبول. واشتهروا أيضا بصناعة التطريز بخيوط الذهب والفضة ولم ينافسهم فيها سوى اليهود بمدينة الجزائر، إضافة إلى صناعة الأسلحة وتحضير البارود لتعزيز دفاعات المدنية في القرن 17م، وكان لهم دور كبير في بناء السفن بترسانة مدينة الجزائر.
ظهرت هذه التأثيرات في اللباس والمأكل والمشرب، وأثر الأندلسيون في لغة الجزائريين، حيث ظهرت كلمات لها صلة بلهجة أهل الأندلس، التي كانت شائعة أنداك وعملوا على نشر الموسيقى الأندلسية .
كانت الأندلسيات يتميزن بذوق رفيع من حيث أزياء اللباس، ومن التأثيرات الأندلسية في اللباس عند قدومهن الجزائر السروال الأبيض الذي يستر أسفل الجسم والحايك، والنقاب، وجبة الصوف، والقبعة والقبقاب الخشبي والخف المنحني، والقندورة، وسروال الزنقة.
وساهم الأندلسيون في إنشاء زاوية لهم “زاوية” أهل الأندلس” في 1639، التي ساهمت في نشر العلم وحسب سجلات البايلك أن هذه الزاوية لها الكثير من الأوقاف قدرت في 1809م/1224هـ بـ 142 وقفا.
ويشير الباحث “إلى دور الأندلسيين في أوقاف مدينة الجزائر، عن طريق مؤسسة تشرف على تسييرها مؤسسة أوقاف الأندلسيين، التي أنشأت في 1609، ويعود السبب إلى تخصيص أوقاف خاصة الجالية الأندلسية تبعا للظروف القاسية التي كان يعيشونها، والتي كانت صعبة مما دفعهم إلى النكتل والتكفل فيما بينهم,”
ويضيف نواصر: ” تمثلت أوقاف الأندلسيين في شراء حوانيت وعقارات والتي يعود منها إلى القرن الـ16 مثل شراء حانوت في مدينة الجزائر، مؤرخ عقدها في 1568، ومن أهم هذه أعمال الأوقاف إنشاء مدرسة ومسجد خاص بالأندلسيين، عرف فيما بعد بزاوية الأندلسيين في نوفمبر 1639″.
وبحسب الدراسة نفسها، النساء الأندلسيات ساهمن في الوقف ومنها إمرأة تركية توصي بـ1/3 ثرواتها لفائدة فقراء الأندلس بالجزائر تعود لسنة 1681، وتضمنت أوقاف الأندلسيين، بحسب سجلات البايلك 1809-1810، 35 حانوتا، و18 دارا، وسبع جناين، و29 حانوت مشتركة مع الحرمين الشريفين وستة مع عامة الناس.
وساهم الأندلسيون في التعليم كمدرسين في مدرسة الأندلسيين ومدرسة القشاش، وكان لهم أثر في الجانب الفني، حيث عرفوا بالموشحات والمالوف.
ومن بين التأثيرات الأندلسية في مجتمع مدينة الجزائر، حسب الدراسة ذاتها وجود كلمات من لغة الفرنكا، وهي خليط من المفردات الإسبانية، التركية والإيطالية، يغلب عليها الكلمات الإسبانية يتداولها الموريسكيون في معاملاتهم، ومن بين هذه الألفاظ بابور، أي باخرة، برافو(ممتاز)، دورو وهي عملة اسبانية، الكوشة (الفرن).
استفادت الجزائر من الهجرات الأندلسية في الجانب العمراني، في استعمال القرميد بدل السطوح المستوية واستعمال الزخارف والنقوش، ومساهمتهعم الفعالة في بناء الشبكة المائية بفحص بمدينة الجزائر رغم البعد الكبير بين المنبع ونقطة مصب الساقية.
أشهر البنائين الأندلسين “الأسطه موسى”، الذي كان له الفضل في الإشراف على بناء العديد من المنشأت من بينها انجاز قناة الحامة ما بين سنتي 1610-1611، والتي يبلغ طولها 4300م.