افتتح مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الاثنين في جنيف، أعمال دورته السابعة والخمسين العادية التي تبحث إلى غاية 11 من شهر أكتوبر المقبل كل ما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان في مختلف مناطق العالم.. ورغم أهمية هذه الدورة التي ستناقش على مدار خمسة أسابيع عدداً كبيرا من القضايا الحقوقية الطارئة في ظل الحروب والنزاعات والانتهاكات التي تتعرّض لها شعوب كثيرة وفي مقدّمتها الشعب الفلسطيني، فإنّ ما يلفت الانتباه ويثير الاشمئزاز، هو أن هذه الدورة يرأسها المغرب الذي يعتبر واحدا من أكبر منتهكي حقوق الإنسان في العالم.
المفارقة بالفعل عجيبة، فالمغرب الذي تُدينه مختلف التقارير الحقوقية، المحلية والدولية، بانتهاك حقوق الإنسان ضدّ مواطنيه في الداخل وضد الصحراويين في الأراضي المحتلة، وتصنّفه الأمم المتحدة كـ«قوّة استعمارية”، هو – للأسف الشديد – الذي يشرف على الدورة الحالية لمجلس حقوق الإنسان، ما يطرح أكثر من علامة استفهام عن الإضافة التي يمكن أن يقدّمها للملف الحقوقي في العالم، وهو في الأساس ملفّ معقّد وصعب، يتطلّب أن تتولى إدارته جهات تحظى بالمصداقية، وتتمتع بالإنسانية والنزاهة، الأمر الذي تفتقده المملكة المغربية التي لم تترك انتهاكا إلا ارتكبته حتى بات سجلها الحقوقي حافلا بالسواد.
فاقد الشيء لا يُعطيه..
كثيرون يعتقدون أن الملف الحقوقي في العالم، لا يوجد اليوم بين أيد أمينة، ويتخوفّون كثيرا من إخفاق الدورة الـ57 العادية لمجلس حقوق الإنسان الأممي في معالجة القضايا والأزمات الحقوقية المطروحة، والمخاوف هذه مشروعة ولها ما يبرّرها على اعتبار أن المغرب الذي يرأس مجلس حقوق الإنسان، لا يلبي شروط هذا المنصب الهام والحسّاس الذي يشكّك كثيرون في طريقة حصوله عليه، فهو يعتبر من أكبر منتهكي حقوق الإنسان في العالم، سواء تعلّق الأمر بخروقاته الداخلية ضد المعارضة والمدافعين عن حرّية الرأي والتعبير، أو اعتداءاته ضد الصحراويين بالإقليم المحتل.
كم من تقارير مكتوبة ومصوّرة لجمعيات ومنظمات حقوقية محلية وعالمية ولدول وهيئات رسمية، كشفت النقاب عن الفظائع التي يرتكبها البوليس المخزني لقمع الأصوات المعارضة والحراكات والاحتجاجات السلمية داخل المملكة، وكم من تسجيلات أظهرت قوّات المخزن الاستعمارية وهي تعتدي على الصحراويين وتضرب نساءهم بعنف ووحشية وتهدم مساكنهم وتستولي على أراضيهم وثرواتهم.. بل كم من بيانات ندّدت بمعاملة المخزن الفظة لمنظمات حقوق الإنسان، حيث ظل الاحتلال المغربي – ولا يزال – يسدّ أبواب الإقليم الصحراوي المحتل أمام المراقبين الحقوقيين الدوليين حتى يمنعهم من كشف جرائمه هناك، وهنا يصبح السؤال ملحًا.. كيف لنظام يرفض تسهيل عمل منظمات حقوقية، ويطرد مراقبين دوليين ويحتل شعبا ويغتصب حقوقه، أن يرأس مجلس حقوق الإنسان الأممي ويساهم في رفع الظلم الذي تتجرّعه الكثير من الشعوب؟.
تقارير إدانة
رئاسة الدورة الحالية لمجلس حقوق الإنسان الأممي من طرف المغرب تحظى باستغراب، إذا لم نقل باستنكار كبير، لأن العالم أجمع يدرك بأن احترام حقوق الإنسان هو آخر همّ للمخزن الذي يمضي في قمع حرية التعبير وسجن الصحفيين والنشطاء وقادة الاحتجاجات، في انتقام مفترض لانتقادهم النظام الملكي الحاكم. كما تُقيّد سلطات الاحتلال نشطاء حقوق الإنسان والاستقلال بالصحراء الغربية من خلال المضايقات والمراقبة، والسِّجن لفترات طويلة بعد محاكمات صورية جائرة.
الحديث عن خروقات المغرب الحقوقية ليس كلاما عابرا أو ملفّقا، بل هي حقائق تؤكدها تقارير صدرت عن مؤسسات رسمية كالخارجية الأمريكية والبرلمان الأوروبي ومنظمات دولية وازنة، ولا يمكن – في هذه الوقفة – أن ننسى وقع التقرير الذي أصدره البرلمان الأوروبي العام الماضي حول المغرب، والذي أدان من خلاله تدهور حرية الصحافة في المملكة والانتهاكات الحاصلة ضد حرية التعبير والقمع المسلّط على المعارضة التي ينتهي بها المطاف في غياهب السجون تحت سوط القمع والتعذيب.
في 19 جانفي 2023، تبّنى البرلمان الأوروبي قرارًا لم يصدر مثله منذ سنة 1994، زلزل كيان المخزن بعد أن أدان انتهاكاته لحقوق الإنسان، ولاسيما حرّية الرأي والتعبير وحرّية الصحافة، وقد تبّنى البرلمان الأوروبي القرار بأغلبية كبيرة – 356 صوتًا مؤيِّدًا مقابل 32 اعتراضًا و42 امتناعًا من أصل 430 حضروا الاجتماع – وبالرغم من أن القرار غير ملزم، إلا أن تأييده من لدن أغلبية البرلمانيين الأوروبيين – بما يعني من تأييد ضمني للحكومات الأوروبية كذلك – وضع المغرب تحت الصدمة والحرج، خاصة وأنه صدر في الوقت الذي تلطخت فيه صورته بفعل فضائح الجوسسة والفساد التي حاصرته من كل جهة، حيث أطلق القضاء البلجيكي في 15 ديسمبر 2022، تحقيقا حول تلقي برلمانيين أوروبيين رشاوى من طرف المخزن قصد شراء ذممهم ومواقفهم بخصوص قضية الصحراء الغربية العادلة.
لقد صوَّت البرلمان الأوروبي على قرار إدانة صريح ضد المغرب، منتقدًا “استخدامه ادعاءات الاعتداء الجنسي لمنع الصحافيين من أداء واجباتهم”، ومطالبًا بـ«الإفراج المؤقت عن الصحافيين المعتقلين، والكفّ عن المضايقات ضد جميع الإعلاميين ودفاعهم وعائلاتهم”، مشيرًا بالاسم إلى ثلاثة صحافيين، هم: عمر الراضي، وسليمان الريسوني، وتوفيق بوعشرين، الذين أُدينوا من قبل القضاء المغربي بالسجن النافذ، على خلفية اتهامات بالاستغلال الجنسي، لكن القرار الأوروبي أشار إلى أن تلك الاتهامات هي مجرد ادعاءات استعملت ذريعة لردع الصحافيين الثلاثة وإخراس أصواتهم.
كما شدّد التقرير الأوروبي على الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع معتقلي “حراك الريف” يتقدّمهم ناصر الزفزافي، وإطلاق سراح كل السجناء السياسيين، مدينا أيضا انتهاكات حقوق المتظاهرين السلميين، وكذا المحاكمات والإدانات المعيبة، فضلا عن تعذيب السجناء.
وبالعودة إلى مضمون تقرير البرلمان الأوروبي، يُلاحظ أنه أثار قضيتين، الأولى: تتعلق بتجاوزات المغرب في مجال حقوق الإنسان، خصوصًا حرّية الرأي والتعبير والصحافة، باستعمال ادعاءات الاستغلال الجنسي ذريعة لردع الصحافيين. أما القضية الثانية فهي تتعلق بالتجسس، وذلك باستعمال برمجيات تكنولوجية صهيونية لمراقبة المعارضين للنظام السياسي، واستعمال ذلك في إدانتهم قضائيًّا بأحكام مشدّدة. وكلتا التهمتين سبق أن أثارتهما منظمات حقوقية مغربية ودولية مثل “مراسلون بلا حدود” التي ورد اسمها في القرار الأوروبي، علاوة على إثارتهما من قبل وزارة الخارجية الأمريكية في تقريرها حول حقوق الإنسان لسنة 2023.
أما فريق الأمم المتحدة المعني بالاعتقال التعسفي، فقد سبق له أن طالب في تقرير رسمي بالإفراج الفوري عن الصحافي توفيق بوعشرين، في فيفري 2019، كما طالب في تقرير آخر بالإفراج الفوري عن سليمان الريسوني في أكتوبر 2022، معتبرًا أن اعتقالهما، أي بوعشرين والريسوني، تم بشكل تعسفي ومخالف للقانون، ودعا إلى تمكينهما من الحق في جبر الضرر والتعويض وفقًا للقانون الدولي.
نظام حقوقي مشوّه
بالموازاة مع تقرير الإدانة الذي أصدره البرلمان الأوروبي، أوردت وزارة الخارجية الأمريكية في مارس 2023، تقريرا حول وضعية حقوق الإنسان في المغرب تضمن انتقادات قوّية بشأن خروقات حقوق الإنسان والفساد المتغلغل في كلّ مفاصل الدولة المخزنية.
وأكدت الخارجية الأمريكية أن الدستور المغربي ينص على ضمان حرية التعبير، غير أن المعطيات تكشف عن واقع مرّ يتميز بملاحقة من يتطرق إلى بعض المواضيع مثل الملكية، ثم عمليات اعتقال ومحاكمة الصحافيين والنشطاء الذين يعبّرون عن آرائهم في شبكات التواصل الاجتماعي. وأشار التقرير إلى أن السلطات عرضت بعض الصحافيين للمضايقة والترهيب، بما في ذلك محاولات تشويه سمعتهم من خلال الإشاعات المؤذية عن حياتهم الشخصية، وقد أفاد صحافيون أن الملاحقات القضائية الانتقائية كانت بمثابة آلية للتخويف. وتطرق التقرير إلى عدد من أسماء الصحافيين المعتقلين مثل سليمان الريسوني، وسياسيين مثل وزير حقوق الإنسان السابق محمد زيان.
المفارقة، أنّه عكس ردود الفعل الغاضبة التي صدرت عن الأحزاب السياسية والبرلمان المغربي ضد قرار البرلمان الأوروبي الصادر يوم 19 جانفي 2023، التزمت كل الأطراف الصمت أمام التقرير الأمريكي، وهو سلوك يدين المخزن ويؤكد التهم الموجهة إليه.
مجرّد عملية تجميل
من خلال ما ورد، يمكننا الجزم بأنه لا مجال للوم الذين يعارضون تولي المغرب رئاسة المجلس الحقوقي الأممي، ولا مجال أيضا للتشكيك في من يعتبر العفو الملكي الذي صدر مؤخرا بحق الصحافيين الذين دافعت عنهم التقارير السابقة، مجرد حركة مكشوفة من المخزن لتلميع صورته؛ فالواقع يؤكد بأن قرار العفو الذي شمل توفيق بوعشرين وسليمان الريسوني وعمر الراضي، بعد سنوات اعتقال طويلة بتهم ملفقة، هو مجرد عملية تجميل فاشلة لنظام حقوقي مشوّه.
الجميع مقتنعون اليوم بأن الإفراج عن هؤلاء الصحافيين الذين زجّ بهم ظلما في سجون المملكة، كان مجرد صفقة من أجل تحقيق بعض المكاسب الآنية، أمّا تصحيح التشوّهات الحقوقية التي حوّلت المملكة إلى بؤرة للقمع والفساد والاضطهاد، فهو حلم بعيد المنال مادامت المخابرات المخزنية والأمن السرّي يواصلان قمعهما لكل من يحاول إشعال شمعة لكسر ظلام ليل الاستبداد الطويل.
السّجون مليئة بالأبرياء
وتعزّز تصريحات عزيز غالي، رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان هذا الطرح، وتؤكد بأن لا شيء تغيّر، فالسّجون المغربية لازالت مليئة بمعتقلي الرأي، والمعتقلين السياسيين وضحايا الأحكام الجائرة.
وسجّل غالي في آخر تحديث للائحة السجناء السياسيين من قبل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وجود ما لا يقل عن 104 من المعتقلين، بينهم ما تبقى من حراك الريف، ومعتقلو الرأي والتعبير من الصحفيين والمدونين ونشطاء الفضاء الاجتماعي، والمدافعين عن حقوق الإنسان، والمعتقلين الصحراويين، خاصّة معتقلي “اكديم ازيك”، إضافة إلى مجموعة من المتابعين والمحكومين بسبب مناهضتهم للتطبيع ودعمهم للمقاومة الفلسطينية.
وتحدّث غالي أيضا عن المختطفين مجهولي المصير، والذين لازالت لائحتهم لدى الجمعية تضمّ 75 اسما، إلى جانب المتابعين في حالة سراح مؤقت والنشطاء الذين تم استدعاؤهم والاستماع إليهم من قبل الشرطة القضائية، دون أن يتم تحديد مآلهم بعد.
ولفت إلى أن الظرفية الإقليمية والدولية متسمّة بالتغوّل، وصعود حركات وحكومات عنصرية في الغرب، تشجع الدولة المخزنية على التنكّر لالتزاماتها والعودة بشكل واضح إلى ممارساتها السلطوية، وتشديد قبضتها على المجتمع والانتقام بالتعبيرات المختلفة والمنتقدة لاختياراتها وسياساتها في مختلف المجالات.
في الأخير، يمكن القول إن التقارير والبيانات والتصريحات التي تدين استبداد الدولة المخزنية، وتنكيلها بأصحاب المواقف والأفكار الذين يناضلون من أجل دولة الحقّ والحرّيات لا حصر لها، لكن للأسف الشديد، عجزت هذه التقارير ليس فقط عن كبح الانتهاكات الحقوقية في المملكة، بل ولم تحل دون وصول المغرب إلى رئاسة مجلس حقوق الإنسان الأممي، ما يؤكد بالفعل أن خللا كبيرا تعيشه المنظومة الدولية التي أضاعت بوصلة الحق والقانون والشرعية.