قال الدكتور طارق ليساوي، وهو كاتب وأستاذ جامعي مغربي يسخّر قلمه الحاد لنقد انتهاكات وإخفاقات النظام المخزني الذي حوّل المملكة إلى بؤرة للفقر والفساد والتراجع الحقوقي، بأنّه «بات يجد حرجا شديدا في الكتابة عن بعض الأحداث في بلده المغرب، ليس خوفا من أحد، ولكن؛ لأنها أحداث فيها مساس بشرف وكرامة أغلب المغاربة».
كلام الدكتور طارق ليساوي أدلى به وهو يتناول واقعة محاولة الهروب الجماعي للشباب المغربي نحو سبتة الاسبانية، حيث اعتبرها حدثا مهينا ومؤلما يدعو للبكاء، «فالبلد الذي يحلم شبابه وقاصروه ومراهقوه بالهروب – كما قال – هو بلد يعاني مشكلا عويصا جدا مهما قيل ويقال عن الانجازات والفتوحات»، ويواصل: «إن المشاهد التي تناقلتها وسائل الاتصال الاجتماعي فجر الأحد الماضي من مدينة الفنيدق لآلاف الراغبين في الهجرة إلى الضفة الأخرى، تعطي صورة واقعية وبدون مكياج أو تطبيل أو تزييف للحقائق عن الواقع الحقيقي للوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه قطاعات واسعة من الشعب المغربي والتي أرهقها الغلاء والبطالة والفقر».في الواقع، الحرج الكبير الذي أحسّ به الدكتور ليساوي وهو يشاهد قوافل أطفال وشباب المغرب يرتمون في عرض البحر، وتسيل دماؤهم على أسلاك الحواجز وتحت ضربات هراوات وأسواط شرطة الحدود المخزنية، لم يكن إحساسا فرديا لكاتب كلّ همّه أن يكون الانتماء للمملكة أمرا مشرفا لا مخجلا، بل كان إحساسا جماعيا اشترك فيه كل المغاربة الذين انفجروا غضبا ضد سياسات دولتهم الضالة والفاشلة التي تنشغل بهدر المال في بناء الملاعب الضخمة، وتنظيم الحفلات الباذخة، واستضافة المهرجانات المكلّفة، وشراء الذمم ونشر الفساد وتهريب الثروة إلى الملاذات «الآمنة»، بينما يواجه شبابها البطالة والتهميش والفقر والقهر، لتنسدّ أمامهم كل منافذ الحياة الكريمة، ما يدفعهم للبحث عن آفاق أخرى تضمن لهم – على الأقل – لقمة العيش، مع العلم أن غالبية هؤلاء الشباب – كما يقول الدكتور ليساوي – «ليسوا من فئة المزعجين للنظام المخزني أو المطالبين بالديمقراطية والحكم الصالح وتفعيل مبدأ المساءلة والمحاسبة، بل هم مجرّد شباب مغلوب على أمره كل همّه التخلّص من براثن الفقر والعوز».
نظام طارد لشعبه
مأساة «الفنيدق» أو محاولة الهجرة الجماعية لشباب المغرب نحو إسبانيا – كما خلص إليه الدكتور طارق ليساوي – «يوجز قصة وطن ينخره الفساد ونهب الثروات الوطنية وتهريبها، بلد تقوم فيه السياسات العمومية على قاعدة تفقير الفقراء وإغناء الأغنياء، وإغراق البلاد في مديونية داخلية وخارجية بغرض الإنفاق على مشاريع طفيلية غير منتجة للثروة وغير نافعة لعموم الناس، وهذا الواقع المرير لا يدفع فئة قليلة للتفكير في الهجرة، بل لو فتحت الحدود باتجاه إسبانيا لرحل غالبية المغاربة»..هذه هي المأساة الكبيرة التي يعمى المخزن عن الإقرار بها أو حتى ملاحظتها ما يجعل السقوط في هاوية الإفلاس والثورة الشعبية أمرا حتميا غير بعيد.
لقد فجّرت مشاهد «الهروب الكبير» للشباب المغربي فجر الأحد الماضي، وما صاحب ذلك من تدخلات أمنية قمعية لقوات الحدود، ثورة غضب عارمة ضد النظام المخزني، حيث حمّلته مختلف الهيئات الحقوقية والأحزاب السياسية، ليس فقط مسؤولية محاولة آلاف المغاربة الفرار من البلاد والمخاطرة بأرواحهم للوصول إلى الضفة الأخرى، بل لقد استنكر الجميع ما تعرّض له الشباب الهارب من قمع وتعنيف وضرب، حيث تداولت مواقع التواصل الاجتماعي صورا مروّعة من الفنيدق لا تختلف في شيء عن صور الأسرى الفلسطينيين وهم في قبضة الدمويين الصهاينة، حيث أظهرت الصور شبابا عراة يرفعون أيديهم فوق رؤوسهم وآثار العنف بادية على ظهورهم.
وكعادتها، شكّكت السلطات المخزنية في صحة الصور وارتباطها بواقعة «الفرار الجماعي»، وأوردت مصادر محلية بالفنيدق، «أن الصور المتداولة قديمة وتتعلق – كما قالت – بتمكن القوات العمومية من إحباط عملية هجرة غير مشروعة سباحة نحو سبتة، حيث تم إنقاذ أولئك الشباب وانتشالهم من مياه البحر، وهو ما يفسر ظهور هؤلاء الأشخاص شبه عراة إلا من ملابس السباحة التي كانوا يرتدونها حين ضبطهم القوات العمومية»، على حدّ زعمها.
قمع وسياط لردع الشّباب
واجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي تعليقات وتدوينات غاضبة، استنكرت ما تعرّض له الشباب المغربي من قمع وتعنيف، وأدانت تملّص السلطات من تحمّل المسؤولية واللجوء – بدل ذلك – إلى التستّر على من أعطوا الأوامر باستعمال القوة لإجهاض محاولة الهجرة الجماعية.
وفي السياق، كتبت الناشطة الحقوقية سارة سوجار على حسابها بفيسبوك، «الصورة قديمة أو حديثة، هي صورة حقيقية تثبت تعنيف أطفال وإهانة كرامتهم وآدميتهم، وتستدعي وقفة إدانة حقيقية للطريقة التي يعامل بها المغاربة وأطفالهم فوق ترابهم الوطني، كما لا يمكن أن تبرر هذه الكارثة الحقوقية بأي شيء كان؛ ذلك يجب التعبير بشدة والدفاع بشراسة عن كرامتنا وكرامة أطفالنا جميعا».
سوجار التي تحدثت في تدوينتها عن الخروقات الممارسة منذ سنوات في حق المهاجرين من طرف السلطات المغربية أكدت أنه «لا يجب أن نصمت على ما وقع في الفنيدق.. ليس فقط بالقول وبتحليل أسباب الهجرة، ولكن بإدانة حقوقية صارمة، قولا وفعلا…تعتبر أنه كيفما كانت الأسباب والظروف والسياقات، ليس من حق رجل سلطة، كيفما كانت رتبته، مرتبته، أو مبرراته أن ينتهك حق مواطن، وخصوصا إن كان طفلا وضحية لسياسات هدفها زيادة التفقير والتهميش والضحك على الذقون».
بدوره، علّق الصحافي عبد الله الترابي قائلا: «مثل هذه الصور هي التي تسيء فعلا للمغرب!! ليس هذا هو المغرب الذي نريده لأطفالنا ولأنفسنا».من جهته، كتب الناشط الحقوقي خالد البكاري قائلا: «إن من في الصورة في وضع ينتهك الكرامة، كان قد تم انتشالهم من البحر بعد محاولتهم الهجرة سباحة..إن صح الأمر، فهو لا يقلل من الصدمة، إذ المفروض هو تغطيتهم بغطاء دافئ بمجرد إخراجهم من الماء، وليس تركهم شبه عراة وبالليل، في ذلك الوضع إذلال للكرامة الإنسانية».وأضاف البكاري في تدوينة له: «بعد رواج هذه الصور، فإن المسؤولية تقتضي توضيحات عاجلة من الجهات المسؤولة، فإما نفي بقرائن مقنعة، وإما فتح تحقيق في الملابسات وترتيب الجزاءات».
وكتب رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، عزيز غالي: «إن الحديث عن أن الصور قديمة من أجل تبرير ما جرى يحيلنا على ثلاث نقاط أساسية: أولا أن الذين في الصور أطفال مغاربة تم تعنيفهم من قبل السلطات المغربية. وثانيا؛ أين هي المواثيق التي صادق عليها المغرب؟ إننا أمام حالة تعذيب موثقة بالصور. وثالثا؛ جرائم التعذيب لا تتقادم، أي أيّا كان زمن هذه الممارسات، يجب فتح تحقيق جاد من طرف النيابة العامة لترتيب الجزاءات».
هذا، وقد حلّ وفد عن فيدرالية اليسار الديمقراطي، لتقصي الحقائق بالفنيدق، وقال في بيان إن «المشهد على أرض الواقع كان صادمًا، فقد تجمع آلاف الأشخاص، بينهم نساء ورجال وشباب وحتى أطفال دون سن الخامسة عشرة، على طول الشريط الساحلي الممتد من مدينة مارتيل إلى حدود سبتة، في مشهد يعكس حجم اليأس والإحباط الذي يعيشه هؤلاء».وأضاف البيان أنه «في مواجهة هذا التدفق البشري، انتشرت القوات الأمنية بكثافة في جميع أنحاء مدن الشمال، والفنيدق، مستخدمة العنف لمنع المواطنين من الاقتراب من مدخل سبتة الاسبانية. هذا الأسلوب القمعي أدى إلى سقوط ضحايا»، مشيرا إلى تسجيل العشرات من المفقودين، وتداول معلومات عن أكثر من 8 حالات وفاة، بالإضافة إلى إصابات متفاوتة الخطورة نتيجة التدخلات الأمنية وحوادث السير.
ليست حالة نادرة
إنّ فضيحة الهروب الجماعي وما تعرّض له الشباب المغربي في الفنيدق من عنف وقمع ليس حالة شاذة، فأحداث دامية كثيرة سجلها المغرب في السنوات الأخيرة بفعل خياراته الاجتماعية الفاشلة وسياسته الأمنية القاسية، ونذكر جميعا حادثة طحن المواطن «محسن فكري» في شاحنة لنقل النفايات المنزلية بالحسيمة، وما نجم عن ذلك من احتجاجات واسعة شملت الريف ومدن مغربية أخرى، كان من نتائجها اعتقال مجموعة من شباب «حراك الريف» وتوزيع عقود من الأحكام السجنية عليهم لا لذنب إلا لأنهم انتفضوا ضد الظلم والتهميش، ثم واقعة سحق نساء في تدافع بالصويرة من أجل الحصول على كيس طحين، كما ارتكبت القوات المخزنية مجزرة مروعة يوم 24 جوان 2022 بقمعها الدموي للمهاجرين الأفارقة الذين كانوا يحاولون دخول مدينة مليلية الإسبانية، والتي أسفرت عن مقتل العشرات منهم بوحشية لا توصف.
المخزن في ورطة
من انتكاسة إلى أخرى ومن فضيحة إلى وجع أشدّ وأقسى، هذا هو حال النظام المغربي الذي يعيش هذه الأيام في وضع لا يحسد عليه، حيث تتصاعد حدّة الانتقادات الداخلية الموجهة إليه بفعل إخفاقاته التي جعلت الشعب المغربي يعيش واقعا مريرا ومؤلما، ولا يتردد في ركوب مخاطر البحر بحثا عن حياة أفضل في الضفة الأخرى. المخزن الذي انشغل بتلميع صورته الخارجية على حساب أبنائه، وأمضى السنوات الأخيرة في نسج المؤامرات عبر التطبيع والابتزاز والتجسس، أصيب بصدمة كبيرة وبإهانة قاسية وهو يرى صور أبنائه، بمن فيهم أطفال في عمر تسع وعشر سنوات، يلقون بأنفسهم في مياه المتوسط هربا من واقعهم البائس.لقد استنكر الجميع في المملكة، المشاهد الصادمة الآتية من شمال المغرب، ولفتوا إلى أن «هذه المشاهد المؤلمة كانت في وقت سابق لشباب من إفريقيا جنوب الصحراء وهم يحاولون الهجرة إلى مدينتي سبتة ومليلية الاسبانيتين، لكنها اليوم أصبحت لآلاف المغاربة الذين يعرضون أنفسهم لكل المخاطر بما فيها الموت غرقا حتى يغادروا المغرب الذي بات كل شيء فيه يدفع إلى المغادرة والنفور. المأزق المخزني الكبير، أن دعوات جديدة انتشرت على نطاق واسع بمواقع التواصل الاجتماعي، تحث على التجمع بالسياج الحدودي الفاصل بين المغرب وإسبانيا يوم 30 سبتمبر الجاري في محاولة متكررة للهجرة الجماعية.