انتقلت إلى رحاب رحمة الله، صحفية “الشعب” والتلفزيون الوطني، خديجة طاهر عباس، عن عمر ناهز تسعا وخمسين سنة، بعد صراع مع مرض عضال.
عرفت الفقيدة، التي انتسبت إلى جريدة “الشعب” في مطلع التسعينيات، بأخلاقها العالية وتفانيها الكبير في أداء الرسالة الإعلامية، وقد اشتهرت بحرصها على مصلحة القارئ، ودفاعها المستميت عن القضايا الوطنية.انتقلت الزّميلة خديجة طاهر عباس إلى التلفزيون الوطني، وعرفت كيف تقدّم أعمالا جليلة بالسمعي البصري، فقد احتفظت بشغف الكتابة، وتدرّجت في السلم الإعلامي إلى أن ختمت مسيرتها المنيرة بمنصب مشرفة بالتلفزيون الوطني.وبالمناسبة الأليمة، تقدّمت المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية بأخلص تعازيها وعميق مواساتها إلى عائلة الصحفية بالمؤسسة العمومية للتلفزيون الجزائري، خديجة طاهر عباس، كما قدّم وزير الإتصال، محمد لعقاب، تعازيه لعائلة الفقيدة الصحفية خديجة طاهر عباس.
خديجة.. القلب الأبيض.. لن ننساك
فضيلة بودريش
ألقت الزّميلة خديجة طاهر عباس متاعب الحياة وراء ظهرها بعد أشهر ثقال من المرض والوجع، مخلّفة قلما ذهبيا على رفوف أرشيف جريدة “الشعب” والتلفزيون الجزائري، فكل من خالط خديجة يعرف أنّها عشقت مهنة الصحافة، وعاشت في خدمة الناس. واجهت أعتى المخاطر في مهنة المتاعب، وعرفت كيف تنتصر للحق، وتتحرّى الحقيقة وتقول كلمتها جهورية قوية..
رحلت الزّميلة خديجة طاهر عباس الصّحافية القديرة والإعلامية المحترفة إلى دار البقاء، تاركة حزنا عميقا في قلوب زملائها، مخلّفة مسارا طويلا ثريا من العطاء وساطعا بالتميز، تنوع بين رحلتي الصحافة المكتوبة والمرئية، فكانت تحظى بحب واحترام كل من عرفها وعمل معها من الزملاء الصحافيين، علما أنّه تتلمذ على يدها العشرات من الصحافيين الشباب بجريدة “الشعب”، وقد تقلّدت منصب رئيسة قسم التحقيقات، قبل التحاقها بالتلفزيون الجزائري عام 2005 وتعيينها فيما بعد رئيسة تحرير بالقناة التلفزيونية الثالثة.
تجربة حافلة
خديجة طاهر عباس..مدرسة إعلامية قائمة، بخبرتها ورؤيتها الثاقبة، وثراء تجربتها الطويلة التي تعود إلى أواخر الثمانينات، فكل أحكامها حول القضايا والشخصيات صائبة ودقيقة ومثيرة، وكثيرا ما كنّا نستفيد خلال النقاشات السياسية والاقتصادية التي يفتحها الزملاء القدامى في أمّ الجرائد من قراءتها الاستشرافية للأحداث، ومن الطبيعي أن نأخذ كل ما تقوله على محمل الجد، فنضع ألف حساب لتوجّسها وقلقها حتى وإن كان يبدو صغيرا وجزئيا.
بداية لقائي مع المرحومة خديجة كان في بداية 2001، كنّا نتبادل النظرات دون تبادل أطراف الحديث عند مدخل الجريدة القديم بشارع باستور، قريبا من البريد المركزي. أنهي دوامي في القسم الثقافي في حدود الساعة الواحدة والنصف بعد الزوال، وتبدأ خديجة عملها بالقسم السياسي، فتتقاطع خطواتنا في هذا اللقاء ليكون تمهيدا لعملي معها بعد أشهر في قسم التحقيقات، قسم كان ينتج بإشراف الفقيدة مادة إعلامية مهمة أحدثت الفارق في الساحة الإعلامية، وتلقّت خديجة من خلاله عرضا – كان وقتها مغريا – للالتحاق بجريدة “الخبر” لكي تشرف على قسم التحقيقات، غير أنّها فضّلت بعد تفكير – ليس بالطويل – مواصلة مغامرتها الإعلامية بجريدة “الشعب” التي كانت تراها منزلها الثاني، وفريق قاعة التحرير جزء لا يتجزأ من عائلتها الكبيرة.
قصص وأحداث مشوّقة
الرّحلة مع خديجة الصحافية توقّفت، لكن مع خديجة الإنسانة والصديقة استمرت بعد سنوات عقب التحاقها بالتلفزيون؛ لأنها شعرت أنه لابد أن تقدم أكثر لهذه المهنة النبيلة التي نعشقها بجنون في بداياتنا كما في نهاية مسارنا.
بقيت المرحومة خديجة تتابع أخبار الجريدة ونجاحات زملائها، تفرح معهم وتحزن لحزنهم، وتزورهم إذ لم تقطع حبال المودّة، فقد كانت دوما ترّدد عبارة “ترعرعت في الجريدة”، وكانت خزّانا يحمل قصصا وأحداثا مشوقة عن الماضي منذ عهد الحزب الواحد، إلى رحلة ومعاناة الصحافيين في الأزمة الأمنية، وأيضا عن رحلة مطاردة الموت لهم في كل مكان بمقر جريدة “الشعب” في حسين داي، وقامت خديجة بسلسلة من الربورتاجات حول شبكات إرهابية ببروكسل، وواصلت مهمتها بشجاعة وصمود خلال الحرب على الإرهاب، تغطي الأخبار وتنقل في خرجاتها مع أعوان الجيش كثيرا من الرؤى المهمة للرأي العام والقارئ الجزائري على وجه الخصوص حسب ما روته لنا فيما بعد.
عرفنا خديجة – رحمها الله – صحافية مثابرة ومحاورة متمرّسة، لا تخشى في كلمة الحق لومة لائم، سواء في كتاباتها النقدية الجريئة، أو في اصطفافها مع الحق مع الآخرين في الحياة اليومية، تنحاز بشجاعة وشهامة إلى المظلومين وتدافع عنهم بشراسة، ولا يمكن نسيان العديد من القصص التي ما زال أغلب الزملاء يحتفظون بها مبهورين بشخصية خديجة القوية الصادقة، وعبق روحها النقي، وقلبها الطيب. سياسيون محنكون كانوا يردّون على مقالاتها التحليلية في ندواتهم الصحافية، دون أن تأبه بردود؛ لأنها كانت تقول الحق دون تزويق.
المرض أنهك جسدها
الجلوس إلى خديجة والحديث معها ممتع، لذيذ ومفيد؛ فهي تتمتّع بخفّة دم عالية، وتمتلك قدرة عالية على جعل من يخاطبها لأول مرة، يشعر كأنه يعرفها من أول الصبا، ويمكنها أن تنقل البهجة إلى أي مكان تتواجد به، وتجعل من يخاطبها يضحك بقلب ممتلئ سعادة. خديجة يمكن أن تزيل ارتباك من يحدثها أو قلقه بكلمة مرحة، وتيسّر له اختيار أفضل السبل في أعقد المسائل وأعوصها.
آخر لقاء لي بخديجة كان عندما زرتها بالمستشفى، وكان المرض اللعين قد أنهك جسدها، وأذبل نظراتها وجعلها تكابد معاناة أخرى أمر من معاناة مهنة المتاعب، كانت تردّد: “اُدعوا لي بالشفاء والرحمة..اُدعوا لي أن يخفّف الله عنّي الألم”..
كانت إرادة الله وقضاؤه أن تغادرنا خديجة..
وداعا خديجة الزّميلة.. وداعا خديجة الإنسانة، وشكرا لك فقد تعلّمنا منك كثيرا، وسنبقى نذكرك ونترحّم على روحك..لن ننساك أبدا يا الأغلى.
كم كنتِ شجاعة خديجة
أمين بلعمري
كان آخر لقاء لي مع الزميلة خديجة طاهر عباس، رحمها الله، في مقر التلفزيون الجزائري، وكانت يومها دعتني للمشاركة في أحد البرامج التلفزيونية التي كانت تشرف عليها حين كانت تشغل منصب رئيسة تحرير مكلفة بالحصص الخاصة، على ما أعتقد.
اتّصلت بي خديجة كعادتها هاتفيا لتتأكّد من وصولي إلى مقر التلفزيون، قبل البرنامج بنصف ساعة أو أكثر قليلا، قائلة بهدوئها المعتاد “أمين خويا رانا نستناو فيك”. أجبتها بأنّني في قاعة الضيوف فجاءت إلى هناك مباشرة، وبعد التحية سألتني عن حالتي الصحية، وكنت يومها لا أزال أعاني من آثار الوعكة التي ألمّت بي، فأجبتها بأنّني أحسن، لكن أعاني من صعوبة في المشي والجلوس بسبب آلام أسفل الظهر، فقالت: “ربي يشافيك أمين خويا”، وأضافت: “أنا ثاني ظهري راه داير فيا حالة”، فقاطعتها قائلا: “غير الخير أختي خديجة؟”، فأجابت: “خلّيها لربّي، الحمد لله وخلاص”.
كانت هذه العبارات آخر ما سمعته من الأخت الطيبة البشوشة خديجة، ولم أكن أعلم حينها أن هذه الجملة التي كانت تحمل كثيرا من معاني الصبر والشجاعة المشفوعة بابتسامة رضى بقضاء الله، تخفي ورائها سرطانا خبيثا. لم آخذ علما بذلك إلا بعد أشهر من الزملاء في التلفزيون الجزائري، الذين أخبروني بأن خديجة مصابة بالسرطان، فرفعت مباشرة هاتفي واتصلت بها للاطمئنان عليها ومواساتها، ولكن كان رنينا دون رد وكذلك الحال بعد محاولات متكررة للاتصال، لأتفاجأ بخبر وفاتها ليلة المولد النبوي، وهو الخبر الذي انتشر كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي.
رحم الله الأخت والزّميلة خديجة طاهر عباس..
إلى جنّات الخلد والرّضوان إن شاء الله
وجزاك الله بما صبرت جنّة وحريرا
إنّا لله وإنّا إليه راجعون
وداعا خديجة طاهر عباس..
السعيد قرايت
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والصّلاة والسّلام على رسولنا وسيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
رحمك الله أختي خديجة
كان المؤذّن يؤذّن لصلاة العصر من يوم السبت 14 سبتمبر 2024، عندما رنّ هاتفي، إنّه الأستاذ الدكتور زميلي السابق في مهنة الصحافة بجريدة “الشعب” الغرّاء حكيم بوغرارة.
للوهلة الأولى شعرت أنّ الرّجل يحمل شيئا غير عادي..
استفسر الرجل عن أحوالي بسرعة فائقة، ثم بدأ يتلكأ في كلامه، ثم قالها صراحة: يا عمي السعيد..خديجة طاهر عباس انتقلت إلى الرفيق الأعلى..
أحسستُ بألم يعصرني، لكن لساني لم يتوقّف عن ترديد الله أكبر..الله أكبر..الله أكبر..ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..شعرتُ بأنّ حكيم بوغرارة تأثر كثيرا لهذا المصاب الجلل..فقال لي: عمي السعيد..سأخبرك بالتفاصيل لاحقا.
هنا وبسرعة البرق عادت بي ذاكرتي إلى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، عندما التحقت الزميلة خديجة طاهر عباس بجريدة “الشعب” في حسين داي، وهي لم تتجاوز الـ 23 عاما.
كانت خديجة رحمها الله طموحة جدا، عملت في كل أقسام الجريدة، وحتى في الأيام الصعبة التي عاشتها الجريدة خلال سنوات 1991 و1992 و1993 و1994، بقيت مع الإخوة الصحافيين الذين فضلوا البقاء بجريدة “الشعب” على الذهاب إلى الجرائد الخاصة حديثة النشأة. ويعلم الله الصعوبات التي واجهتنا وقتئذ، حيث لم يكن عدد الصحفيين الذين بقوا في الجريدة يتعدى أصابع اليد الواحدة.
المرحومة خديجة طاهر عباس عانت – شأنها شأن الزملاء – من نقص وسائل العمل بعدما تمّ تحويل جريدة “الشعب” إلى جبهة التحرير الوطني، كما عانت كثيرا مثل كل الصحفيين وقتئذ من أزمة السكن الخانقة، وربما كنت من الأوائل الذين أخبرتهم يوم حصولها على مسكن تستقر فيه مع عائلتها الكريمة وذلك سنة 1995 على ما أعتقد.
ورغم هذا، صمدت خديجة وبقيت تكافح بجانب القلة القليلة من زملائها، ولا أبالغ إذا قلت إنّها كانت الصحفية الوحيدة التي لا تشكو من الصعاب التي واجهتنا في تلك السنوات السالف ذكرها.
في سنة 1992 على ما أعتقد، ذهبت في عطلة سنوية، ولأسباب قاهرة حسب روايتها، تأخّرت عن استئناف عملها في التاريخ المحدد، فواجهتها بعض المشاكل مع الإدارة، وكنت يومئذ رئيس القسم الوطني، فقصدتني وقالت لي: السعيد قرايت عليك أن تقول كلمتك وتوظّف سمعتك الطيبة ومنصبك، وتتدخّل لفض هذا النزاع المفبرك.
كنت شخصيا أكره النّزاعات وأمقت الظلم، وضعت القلم والأوراق وفورا فوق المكتب، وتوجّهت إلى المدير العام كمال عياش رحمه الله وطيّب ثراه. وطرحت عليه هذا المشكل المصطنع الذي واجهته الزميلة خديجة طاهر عباس، وقبل أن أنتهي من كلامي عن المشكل المصطنع تمّ حلّه على الفور، فقد كان المرحوم كمال عياش جادا وصارما. وبهذا استأنفت عملها والتحقت بالقسم الوطني إلى جانب زملائها وزميلاتها.
كان القسم الوطني في جريدة “الشعب” في حسين داي، يعمل كخلية نحل بأتم معنى الكلمة، كما كان يضم نخبة الجريدة في مقدمتهم الصحفي السعيد بن عياد، عبد الكريم مخالفة، محمد مقلاتي، خديجة طاهر عباس وسلوى روابحية.
عملت خديجة طاهر عباس رحمها الله، وطيّب ثراها، إلى جانبنا عندما انتقلت الجريدة إلى شارع باستور بالقرب من البريد المركزي سنة 1996، وفي مطلع الألفية الثالثة انتقلت بمحض إرادتها إلى التلفزيون العمومي في شارع الشهداء، وواصلت عملها بكل جد وتفان، وكان آخر منصب شغلته هو رئيسة تحرير.رحمك الله أختي خديجة وطيّب ثراك وأسكنك جنة الفردوس بجوار رسولنا وسيّدنا وحبيبنا وشفيعنا وقائدنا ومعلّمنا، وقرّة أعيننا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
إنّا لله وإنّا إليه راجعون
الإنسانية تودّع خديجة..
عبد الحكيم بوغرارة
ودّعت الإنسانية الزميلة الإعلامية خديجة طاهر عباس…أنزل الله عليها شآبيب رحماته وأكرم نزلها ودثر ترابها، وجعل قبرها روضة من رياض الجنة. كانت معرفتي بها في جريدة “الشعب” في عام 2000، كانت رحمها الله تمر على القسم الرياضي الذي بدأت فيه تجربتي الإعلامية الأولى.. تلقي السّلام وتتفقّد الزّملاء.
كانت لا تنقطع عن السؤال عن أحوال الأم. بمرور الوقت، اكتشفت سرّ تعلّقها بأمّها التي توفيت رحمها الله قبلها بسنوات، وكانت إحدى الملمّات التي تركت في نفسها صدمة قاسية. الزّميلة الراحلة كانت دائمة التنقل بين مسقط رأسها في بوقادير بالشلف وبين العاصمة، فلا تفوّت أي فرصة لزيارة العائلة وتفقد أحوالها، دون كلل ولا ملل.
خديجة في قاعة التحرير بشارع باستور كانت تكتب دائما عن الواقع الذي يعيشه المواطن، وخاصة المتاعب كغلاء الأسعار والقدرة الشرائية. الراحلة كانت معروفة بالجرأة وقول كلمة الحق.
وقفت على ذلك بعد انتقالي إلى القسم السياسي في ربيع 2004، عملنا معا في القسم الوطني، سنوات طويلة جعلتنا نقف على الوجه الآخر للراحلة التي كافحت من أجل العائلة والمهنة، خاصة في سنوات الجمر أين حاربت بقلمها، وساهمت في كشف القواعد الخلفية للإرهاب بأوروبا في عديد الربورتاجات التي ما زالت موثّقة على صفحات جريدة “الشعب”.
الأخت خديجة..كل من عرفها لا ينكر تأثّرها بأي قرح أو شيء يمس أحد الزملاء، فالقضايا الإنسانية والألم كان يؤثّر فيها بشكل رهيب.
بعد انتقالها للتلفزيون كان شارع الشهداء يجمعنا، والتقيت بها حتى في جامعة الجزائر 3 مؤخرا. كانت تنوي استكمال دراسة الماستر لتجسيد طموحاتها، لنتفأجا قبل أشهر بمرضها وسرعة التحاقها ببارئها..
خديجة رحمها الله خسارة للإنسانية قبل الإعلام في زمن النّسيان والزهايمر والنكران..
وداعا خديجة..رحمك الله
إنّا لله إنا إليه راجعون
وداعا خديجة..
حامد حمور
رحلت عنّا وإلى الأبد الإعلامية خديجة طاهر عباس، التي كانت لها مسيرة مميّزة بفضل مهنيتها واحترافيتها، والتي جعلتها تقدم الكثير للإعلام الوطني. فقد ساهمت بشكل كبير في إثراء محتوى صفحات جريدة “الشعب” لسنوات طويلة، خاصة وأنها كانت تفضّل العمل الميداني الذي أبدعت فيه من خلال المواضيع العديدة التي أنجزتها خلال مسارها المهني ضمن “أم الجرائد”.
فخلال مسيرة امتدت لأكثر من 3 عقود في الميدان الإعلامي، قدمت حجما كبيرا من إنتاج من مستوى معتبر كونها تتقن بشكل كبير اللغة الإعلامية بأسلوب جذاب، كما أن خلال عملها بجريدة “الشعب” ضمن القسم الوطني، كانت تقترح العديد من المواضيع للتطرق إليها ضمن جل الأنواع الصحفية. من تغطيات مستمرة للأحداث، حوارات، وكتابة التعليق والعمود، فتحكّمها الكبير في كل الأنواع الصحفية، وامتلاكها لروح المبادرة، جعلها حاضرة بشكل مكثّف على صفحات الجريدة.
وبعد مسيرة طويلة امتدت لحوالي 17 سنة بجريدة “الشعب”، انتقلت المرحومة خديجة طاهر عباس لخوض تجربة جديدة في مجال السمعي البصري، عندما التحقت بالتلفزيون الجزائري ومن حين لأخر كانت تزور جريدة “الشعب” في شارع الشهداء، وتسأل عن الزملاء الذين عملت معهم لسنوات طويلة. فقد كانت خديجة طاهر عباس راقية في تعاملها مع زملائها، وتقدّم النصيحة للوافدين الجدد للميدان الإعلامي في صياغة الأخبار، وكذا تزويدهم بأية معلومة قد يحتاجونها لإثراء مواضيعهم، حيث نحتفظ دائما بطريقتها المميّزة وتعاملها مع الجميع في قاعة التحرير.
وخاضت المرحومة تجربة أخرى في مسارها المهني بانتقالها من الصحافة المكتوبة الى مجال السمعي البصري، كونها كانت دائما طموحة، وبالفعل تألقت في عملها.
كان التواضع دائما عنوان المرحومة خديجة طاهر عباس، التي تركت أشياء جميلة في تعاملاتها مع زملاء المهنة، حيث يكنّ لها الجميع الاحترام الكبير بفضل أخلاقها ومهنيتها الكبيرة.
أحتفظ دائما بصورة جد مميّزة عن المرحومة خديجة طاهر عباس، سواء من ناحية تعاملها اليومي مع زملائها أو من الناحية الإعلامية التي تميّزت خلال مسيرتها بكتاباتها المستمرّة والغزيرة.
رحم الله الفقيدة وأسكنها فسيح جناته.
خديجة.. بسمة لا تموت
فتيحة كلواز
خديجة طاهر عباس..إعلامية روّضت القلم ليستوعب طموحاتها وأحلامها. خطت الكلمات برُقيٍّ وشجاعة بعيدا عن الحسابات الضيقة وأنانية المصالح الشخصية. إعلامية نقلت على صفحات جريدة “الشعب” منذ التحاقها بها مطلع التسعينيات، الحقيقة بلا مزايدات ولا تحريف، فكان تفانيها وإتقانها وأسلوبها السّهل الممتنع، سببا في تحوّلها إلى قلم مؤثّر وبصمة متفرّدة، وبعد أربعة عقود خاضت فيها المعترك الإعلامي، تترجّل خديجة تسلّم الروح إلى بارئها راضية مرضية.
كانت خديجة واحدة من القامات الإعلامية التي بهرتني – عند التحاقي بالجريدة – بقوّة حضورها، والكاريزما التي تملكها. عرفتها قلما يطوع الكلمات ليصوغها في جمل تصنع الفارق في صناعة الخبر، ما جعلها – بالنسبة لصحفية مبتدئة مثلي في تلك الفترة – مثالا يحتذى، وقدوة لكل من يبحث عن المعادلة الصعبة في تحقيق الذات والتفرد في الإعلام.
تفاني خديجة وصدقها وتميّزها، فرض على الجميع احترامها، وتقديري لها واحترامي الشديد لقلمها، جعلني أتمنى دائما التعرف عليها عن قرب، لأعايش الإنسان داخلها، فكونها تنتمي إلى جيل الصحفيات اللواتي التحقن بالجريدة بعد جيل زهور ونيسي وزينب الميلي، أعطاها وسلوى روابحية مكانة خاصة بالجريدة، فكانتا رمزا للمرأة القوية المؤمنة بقدراتها في كسر محدودية نظرة المجتمع “القاصرة” للمرأة.
في 2017 وبمناسبة اليوم الوطني للصحافة الموافق لـ 22 أكتوبر، اخترت أن أكتب “بورتريه” للإعلامية خديجة طاهر عباس في صفحة “القوّة النّاعمة” التي كنت أعدّها، اتّصلت بها فلم ترفض طلبي بل دعتني إلى منزلها لإجراء المقابلة، فقد ارتأت أن نلتقي كأخوات لا كزميلات، وبالفعل التقيت بها بعد سنوات من التحاقها بالتلفزيون الجزائري. المدهش أنها لم تتغير، فـ “خديجة” التي عرفتها قبل ما يقارب عقدين من الزمن، هي نفسها أمامي مبتسمة، رائعة ومتواضعة.
هذا اللقاء حقّق حلمي في التعرف على خديجة الإنسان، وجعلني أعجب بها أكثر؛ لأنها فتحت قلبها لي وقلّبت أمامي صفحات كتاب عنوانه “خديجة طاهر عباس”، ومن فصل إلى آخر من فصول حياتها، تعرّفت إلى خديجة الطفلة ثم المراهقة ثم الإعلامية، تشرفت بلمس تفاصيل ذكرياتها التي جعلت منها القدوة والمثال الذي تمنيت في يوم من الأيام أن أكون مثله.
ومن صفحة إلى أخرى، تكشّفت أمامي تفاصيل رحلتها الإنسانية عبر مراحل حياتها المختلفة، لأتأكّد أنّها امرأة من معدن أصيل آمنت بالجزائر أمّا ووطنا، فكما لم يهزمها زلزال الأصنام في 1980 عن المضي في تحقيق حلمها بالرغم من انتقالها إلى العاصمة وهي في عمر الـ 15 سنة، لاستكمال دراستها الثانوية، لم يفلح الإرهاب الهمجي في التسعينيات من لجم قلمها عن الكتابة أو كسر إرادتها في أن تكون إعلامية، فكانت قلما جريئا قويا وحادا، وبصمة مؤثرة في مرحلة صعبة من تاريخ الجزائر.
خديجة طاهر عباس..الطاهرة..كينونة إعلامية استطاعت أن تتجاوز عقدة “تاء التأنيث”، وتثبت أن القلم بين أنامل ناعمة لامرأة قوية أشد وطأة من سلاح الترهيب والموت، استطاعت أن تعطي صورة واضحة عن الجيل الأول للجزائر المستقلة، فلم يثن عزيمتها الخراب الذي تركه الاستعمار بعد طرده ذليلا من أرض الأحرار، بل رسخت وبنات جيلها من النساء حقيقة أنهن حرائر من ظهر الأحرار.
ترحل اليوم خديجة لتلتحق بأخيها المتوفي في 2008، والذي طالما اعتبرت وفاته منعرجا مهما في حياتها، بل غيّر رحيله بصورة جذرية نظرتها إلى الحياة، فكانت محنة فقد الأخ نقطة تحول مهمة في مسيرتها، وكانت تجربة فارقة بالنسبة لها، خاصة وأنه توفي بعد صراع مع المرض، هذه “المحنة” – كما وصفتها – أعطتني صورة واضحة عن إنسانيتها وحبها وإخلاصها، ما زاد إعجابي بها وترسيخ احترامي لها.
نودع اليوم خديجة بعد أن وصل قطار حياتها إلى محطته الأخيرة، نزلت خديجة الجسد لتبقى روحها بيننا وأثرها الطيب وكتاباتها حاضرة بين صفحات جريدة لا تتنكّر لأبنائها، وبعد أن ودّعنا فنيدس بن بلة السنة الماضية، نعزّي أنفسنا في فقد خديجة اليوم..لتتجسّد أمامنا دورة حياة تتعاقب فيها الأجيال لصناعة غد أفضل.