يتم الاحتفال باليوم الدولي للترجمة في الثلاثين سبتمبر سنويا، للإشادة بالدور المهم الذي يلعبه المترجمون والمترجمون الفوريون في تسهيل التواصل بين المتحدّثين بلغات مختلفة. ويأتي هذا اليوم للتذكير بأهمية اللغة والتبادل الثقافي في عالم اليوم المترابط. واختار الاتحاد الدولي للمترجمين، هذا العام، موضوع «الترجمة فنّ يستحقّ الحماية»، اعترافا بالترجمات باعتبارها أعمالًا إبداعية أصلية، تستحقّ الاستفادة من حماية حقوق التأليف.
ملف: أسامة إفراح وفاطمة الوحش وأمينة جابالله ورابح سلطاني ومحمد الصالح بن حود
يحتفل العالم، في الثلاثين سبتمبر من كلّ سنة، باليوم الدولي للترجمة. ووفقا لمنظمة الأمم المتحدة، فإنّ المراد به «إتاحة الفرصة للإشادة بعمل المتخصّصين في اللغة، الذين يلعبون دورًا مهمًا في التقريب بين الدول، وتسهيل الحوار والتفاهم والتعاون، والمساهمة في التنمية وتعزيز السلام والأمن العالميين».
وتضيف المنظمة الأممية: «إنّ نقل العمل الأدبي أو العلمي، بما في ذلك العمل الفني، من لغة إلى لغة أخرى، والترجمة المهنية، بما في ذلك الترجمة المناسبة والتفسير والمصطلحات، أمر لا غنى عنه للحفاظ على الوضوح والمناخ الإيجابي والإنتاجية في الخطاب العام الدولي والتواصل بين الأشخاص». وهكذا، في 24 ماي 2017، اعتمدت الجمعية العامة القرار 71/288 بشأن دور المتخصّصين في اللغة في ربط الدول وتعزيز السلام والتفاهم والتنمية، وأعلنت يوم 30 سبتمبر يومًا دوليًا للترجمة (مع الإشارة إلى احتفال الاتحاد الدولي للمترجمين بهذا اليوم لأكثر من 35 عامًا).
حقوق التأليف.. في الواجهة
وبعد موضوع «الترجمة والتنوّع» (2017)، و»تعزيز التراث الثقافي في الأوقات المتغيرة» (2018)، و»الترجمة واللغات الأصلية» (2019)، و»إيجاد الكلمات المناسبة لعالم في أزمة» (2020)، و»متحدون في الترجمة» (2021)، و»عالم بلا حواجز» (2022)، و»الترجمة تكشف عن الوجوه المتعدّدة للإنسانية» (2023)، اختار الاتحاد الدولي للمترجمين هذا العام 2024 موضوع «الترجمة فنّ يستحقّ الحماية».
وحسب الاتحاد الدولي للمترجمين، فإنّ موضوع هذا العام يتبنّى الاعتراف بالترجمات باعتبارها أعمالًا إبداعية أصلية في حدّ ذاتها، تستحقّ الاستفادة من الحماية بموجب اتفاقية برن لحماية المصنّفات الأدبية والفنية. وباعتبارهم منشئي أعمال مشتقة، ناضل المترجمون لحماية حقوقهم المعنوية في الحصول على الفضل عن أعمالهم الترجمية، والتحكّم في أيّ تغييرات تطرأ على هذا العمل، والحصول على أجر مناسب. «إنّ حماية هذه الأشياء البسيطة من شأنها أن تضمن مستقبلًا مستدامًا لمحترفي الترجمة والفنّ التاريخي للترجمة نفسه»، يؤكّد الاتحاد، مضيفا أنّ القضايا المتعلقة بحقوق التأليف والنشر تمتد إلى جميع مجالات المهنة، بما في ذلك استخدام الترجمات في القطاع الثقافي والترجمة الأدبية والنشر والترجمة القانونية.
ومع تطوّر الذكاء الاصطناعي وتوسّع المجال الرقمي، زادت آثار حقوق المؤلف على المترجمين والمترجمين الفوريين وعلماء المصطلحات بشكل كبير. ويعدّ إسناد الترجمة في المجال الرقمي أمرًا بالغ الأهمية، بالإضافة إلى السماح للمترجمين بتلقي التقدير لجهودهم، فإنّه يشير بوضوح إلى مصدر النص، وتحديده كمحتوى بشري وليس من إنتاج الذكاء الاصطناعي.
أصناف وأغراض متعدّدة
الترجمة هي «قول الشيء نفسه تقريبا» حسب تعبير أومبرتو إيكو.. وكلمة «تقريبا» هذه تحوي عالما كاملا، تقول اليونسكو.
ليست الترجمة مجرد عملية ميكانيكية لتحويل الكلمات من لغة إلى أخرى؛ بل إنّها تتضمّن أيضًا فهم السياق الثقافي ودقائق النص الأصلي لنقل رسالته بدقّة، ما يتطلّب الكفاءة اللغوية في لغة المصدر واللغة المستهدفة معا، والقدرة على تكييف نبرة وأسلوب النص الأصلي مع الجمهور المستهدف.
وتسهّل الترجمة تواصل الثقافات، وتلعب دورًا حاسمًا في الحفاظ على المعرفة والثقافة ونشرها، وإتاحتها لجمهور أوسع. وتعزّز تنوّع اللغة والحفاظ عليها، وتساعد في حفظ التراث اللغوي وضمان تمثيل لغات وثقافات الأقليات.
وتتعدّد أنماط الترجمة وأغراضها، لتشمل مجموعة واسعة من الفئات والمعايير. كمثال على ذلك، يمكن تصنيف الترجمات على أساس التكافؤ اللغوي بين المصدر والهدف، وهكذا قد نجد ترجمة حرفية literal translation تلتزم بالنص الأصلي، وترجمة حرة free translation تركّز على نقل معنى ورسالة النص.
والسياق الثقافي من أوجه التصنيف، بناءً على الدرجة التي تتكيّف بها أو تحافظ على العناصر الثقافية والفروق الدقيقة للنص المصدر. مثلا، يتضمّن التوطين domestication جعل النص أكثر ألفة وسهولة في الفهم للجمهور المستهدف، بينما يسعى التغريب foreignization إلى الاحتفاظ بالعناصر الأجنبية والمراجع الثقافية للنص المصدر.
ويمكن التصنيف اعتمادا على نوع النص. مثلا، تختصّ الترجمة الأدبية بالروايات والقصائد والمسرحيات، في حين تتعامل الترجمة التقنية مع الوثائق المتخصّصة مثل الأوراق العلمية أو العقود القانونية. كما قد يكون التصنيف على أساس الغرض أو الوظيفة، مثل الترجمة الإعلامية informative translation، وهدفها الرئيسي نقل المعلومات بدقّة، والترجمة التعبيرية expressive translation، وتركّز على التقاط أسلوب وعواطف النص المصدر، ويخدم كلّ منهما غرضًا تواصليًا مختلفًا.
وقد نجد أنواعا أكثر تحديدًا من الترجمة، بناءً على عوامل لغوية مثل الزوج اللغوي الذي تتم ترجمته، وتعقيد النص المصدر، ووجود عناصر ثقافية أو أسلوبية.
سوق الترجمة العالمية
أصبحت خدمات الترجمة ذات أهمية متزايدة في عصر العولمة، مع الحاجة إلى التواصل عبر الحواجز اللغوية. وسوق الترجمة الدولية هي صناعة سريعة النمو، حيث بلغت الإيرادات العالمية أكثر من 33 مليار دولار عام 2012، ثم 43 مليار دولار في 2017، ثمّ أكثر من 46 مليار دولار في 2018، ثم 46.9 مليار دولار في عام 2019، ثم ما يفوق 56 مليار دولار عام 2021. وهذا النمو مدفوع بالحاجة المتزايدة لخدمات الترجمة في قطاعات عديدة، مثل الأعمال والسياحة والرعاية الصحية والوكالات الحكومية.
ويدفع توسّع العمليات التجارية العالمية نمو سوق الترجمة الدولي، وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أجرتها Common Sense Advisory أن 68٪ من العملاء الدوليين يفضّلون شراء المنتجات بلغتهم الأم، ما دفع العديد من الشركات إلى الاستثمار في خدمات الترجمة المهنية لضمان ترجمة موادها التسويقية ومواقعها الإلكترونية واتصالاتها مع العملاء بدقّة.
محرك آخر لسوق الترجمة الدولية هو صعود السياحة العالمية. وفقًا لمنظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، وصل عدد الوافدين من السياح الدوليين إلى 1.5 مليار في عام 2019، ما زاد الطلب على خدمات الترجمة لمساعدة السياح على تجاوز الحواجز اللغوية والاختلافات الثقافية.
وفي قطاع الرعاية الصحية، تتزايد الحاجة إلى خدمات الترجمة الدقيقة أيضًا. وقد وجدت دراسة نُشرت في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية أنّ الحواجز اللغوية يمكن أن تؤدّي إلى أخطاء طبية ونتائج صحية أسوأ للمرضى. كما تعدّ الوكالات الحكومية من المستهلكين الرئيسيين لخدمات الترجمة، مثلا، يستخدم الاتحاد الأوروبي 24 لغة رسمية، ناهيك عن المنظمات الدولية المختلفة.
من حيث اتجاهات السوق، تلعب تقنية الترجمة الآلية دورًا متزايد الأهمية في صناعة الترجمة، مع التأكيد على افتقارها إلى الفوارق الدقيقة والفهم الثقافي الذي يمكن أن يوفره المترجم البشري. كما تشهد الترجمة تحوّلًا نحو التخصّص في صناعات أو مجالات محدّدة (الترجمات القانونية، الطبية، المستندات التقنية، النصوص الإبداعية). ونتيجة لذلك، يتمتع المترجمون المتخصّصون ذوو الخبرة بميزة تنافسية في السوق.
بالمقابل، نجد من التحدّيات التي تواجه سوق الترجمة الدولية «تسليع خدمات الترجمة» (commoditization of translation) بسبب زيادة المنافسة وضغوط الأسعار، خاصة مع ظهور المنصات عبر الإنترنت التي تربط العملاء بالمترجمين المستقلين من جميع أنحاء العالم، وبأسعار أقلّ، ما وضع ضغوطًا على المترجمين المحترفين لتبرير رسومهم المرتفعة وإظهار القيمة التي يمكنهم تقديمها من حيث الجودة والدقّة والحساسية الثقافية.
مستقبل الترجمة
يكمن مستقبل الترجمة في دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي، والتي لديها القدرة على إحداث ثورة في طريقة ترجمة اللغات.
أحد الاتجاهات الرئيسية الاعتماد المتزايد على أدوات الترجمة الآلية machine translation tools. وتستخدم هذه الأدوات الخوارزميات والذكاء الاصطناعي لترجمة النص بسرعة أكبر وتكلفة أقلّ، وكميات كبيرة من المحتوى، مع التأكيد على أهمية الخبرة البشرية، على الأقلّ حتى الآن.
تطوّر مهم آخر هو ظهور الترجمة الآلية العصبية neural machine translation، والتي تستخدم تقنيات التعلّم العميق لتحسين جودة الترجمات. وبتحليل كميات هائلة من البيانات والأنماط، يمكن للترجمة الآلية العصبية إنتاج ترجمات أكثر دقّة تشبه الترجمات البشرية.
كما نشير إلى دمج منصات الترجمة المستندة إلى السحابة cloud-based translation platforms، والتي تمكّن المترجمين من التعاون والعمل عن بُعد في مشاريع الترجمة، ما من شأنه تحسين الإنتاجية.
وهناك اتجاه مهم آخر هو الحاجة إلى أن يتكيّف المترجمون مع التكنولوجيات المتطوّرة وأشكال الاتصال الجديدة. ويفرض ظهور محتوى الوسائط المتعدّدة (مثل مقاطع الفيديو والبودكاست) تحديات جديدة على المترجمين من حيث ترجمة اللغة المنطوقة والمراجع الثقافية.
ومن المرجّح أن يتأثر مستقبل الترجمة بالتقدّم في معالجة اللغة الطبيعية natural language processing وتقنيات التعرّف على الكلام speech recognition technologies. ويمكن لهذه التقنيات تحسين دقّة وكفاءة الترجمات من خلال تحليل ومعالجة مدخلات اللغة الطبيعية بشكل أكثر فعّالية.
بشكل عام، تفرض هذه الديناميكية البقاء على اطّلاع بأحدث الاتجاهات في مجال الترجمة، وتطوير المهارات المتخصّصة، والتكيّف مع التقنيات الجديدة.
الترجمة بالجزائر
يفترض أن تحتل الترجمة مكانة هامة في الجزائر، وذلك بحكم تاريخ البلاد وجغرافيتها، فهي قريبة من مراكز إشعاع حضاري كثيرة، وتواصلها طبيعي وممتد في التاريخ مع أنظمة لغوية مختلفة، ناهيك عن تنوّعها الثقافي واللغوي، حيث نجد كتّابا جزائريين يكتبون بالعربية، والأمازيغية، وآخرين بالفرنسية، ولغات أخرى كالإنكَليزية والإسبانية والإيطالية، ما يجعلنا في حاجة إلى «ترجمة داخلية» تمكّننا من القراءة لمؤلفينا.
مع ذلك، يبقى واقع الترجمة أقلّ من المأمول.. وفي هذا السياق، تقول د.وسام تواتي (جامعة الجزائر 2) إنّ الإشكال لا يكمن في الكفاءات البشرية والعلمية، بقدر ما هو متعلّق باستراتيجية مستعجلة لاستغلال الأدوات اللازمة لمواكبة التطورات الكبرى بما يوائم الواقع المعيشي، ومدّ جسور المعرفة بين مختلف التخصّصات مع الترجمة، التي من شأنها أن تقوم بدور مصيري في تحرير الطاقات الوطنية وتحفيزها.
فيما ترى د.هاجر ذيب (جامعة عنابة) أنّ الترجمة تعرّف عموما بأنّها عملية نقل من لغة إلى لغة أخرى، غير أنّ هذا التعريف من الناحية النظرية لم يقف عند حدود النص، بل تعداه إلى نقل نص أو ثقافة أو خطاب أو فكرة أو رسالة أو أثر أو غيرها من المفاهيم التي لم تتعدّد فحسب، بل طرحت مسائل جوهرية في حقل الترجمة بوصفها علما وفنا ومهارة، حتى أصبح المهتمون بها في المجال من مترجمين وتراجمة وأكاديميين وطلبة يخلطون بين المدرسة والنظرية والمقاربة والاستراتيجية والتقنية.
من أجل ذلك، ترافع د.ذيب لصالح تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة الشائعة في مجالي الترجمة النظري والتطبيقي، في إطار مواءمة التكوين في شعبة الترجمة على المستوى الوطني، وهو بالمناسبة هدف الملتقى الوطني الأول للترجميات (ديسمبر المقبل)، الذي ترأسه د.ذيب، والذي تدعو من خلاله إلى «التفكير الإيجابي لإيجاد سبل وحلول ترقى بمجال الترجمة التعليمية إلى مصفّ المهنية في سوق العمل، بما يخدم الاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة، ويجعل من طالب الترجمة مستقبلا رياديا وعنصرا فاعلا في بناء وطنه».
من جهته، اقترح د.محمد شوشاني عبيدي (جامعة الوادي) توحيد الجهود في جمعية وطنية لأساتذة الترجمة، تكون ساحة للنقاش وتبادل الآراء، وطالب بالتفكير في تحسين وضع سوق العمل في مجال الترجمة، مع ضرورة انخراط الجميع في هذا النقاش بما يخدم التخصّص ويرفع من شأنه.
وسبق لشوشاني عبيدي الدعوة إلى «مشروع الجائزة الجزائرية للترجمة»، ويأتي في شطرين: شطر أول هو الجائزة العامة، وتكون في مجالات كالعلوم والتكنولوجيا، والأدب والفنون والإبداع، وشطر ثانٍ هو جائزة المترجمين الشباب، موجّهة تحديدا لطلبة معاهد الترجمة والمتخرّجين حديثا منها.
ولأهمية الترجمة الإبداعية، وباعتبارها مختصّة في ترجمة المسرح، حثّت د.ذيب المترجمين والأكاديميين والمبدعين في مختلف المجالات إلى بناء شبكة علاقات عمل مثمرة في ترجمة النص الإبداعي.
الدكتـور العيد جلولي: الجهود الفردية لا تكفي لإقامة صرح ترجمي..
أكّد البروفيسور العيد جلولي أنّه، من الصعب معرفة واقع الترجمة في الجزائر في غياب المعطيات والأرقام وفي ظلّ عدم وجود بيبليوغرافيا متخصّصة، وأشار إلى أنّ أكبر تحدّ تواجهه الترجمة، هو الانتقال من الترجمة الورقية التقليدية أو الكلاسيكية المعتمدة على الجهد البشري، إلى الترجمة الآلية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي.
انطلق الأستاذ الدكتور العيد جلولي في حديث مع «الشعب» من مقولة «يصنع الكتّاب أدبًا قوميًا، بينما يصنع المترجمون أدبًا عالميًا»، قائلا: «لعلّ هذه المقولة تعبّر بصدق عن الجانب الإنساني للترجمة، فالترجمة تساهم محليا وعربيا ودوليا في إرساء قيم التعايش الإنساني والعمل على دعمها ونشرها، وهذا ما كان من شأن الحضارة العربية الإسلامية حين لم تغفل الترجمة منذ البداية، حيث اهتم خالد بن يزيد بن معاوية بنقل الكتب اليونانية إلى اللغة العربية، وهو ما سار عليه جميع الخلفاء في العصور الإسلامية.»
ولفت جلولي، إلى أنّ هذه الأيام يكثر الحديث حول أهمية وضرورة الترجمة بالنسبة لكافة الحقول المعرفية العلمية والإنسانية على حدّ سواء، مشيرا إلى أنّ الجزائر هي واحدة من الدول التي عرفت الترجمة منذ زمن بعيد، «غير أنّه من الصعب معرفة واقع الترجمة في الجزائر في غياب المعطيات والأرقام وفي ظلّ عدم وجود بيبليوغرافيا متخصّصة، فنحن حتى الآن وفي مجالات كثيرة لا نملك مرصدا يوثق تاريخ الترجمة والمنجز الذي تم في هذا الميدان، وبالتالي لا يمكن الحديث بدقّة حول واقع الترجمة ببلادنا»، يقول المتحدّث.
ويرى العيد جلولي، أنّ المتتبع للترجمة خاصة الترجمة العلمية، يلاحظ ارتباطها بحركة تعريب التعليم خصوصا في المجالات العلمية، وهو ما يتوافق وسياسة الدولة بداية من الستينيات وحتى التسعينيات من القرن الماضي، مشيرا إلى أنّه يغلب على هذه الترجمات الجهد الفردي وغير المتخصّص.
كما أكّد المتحدّث أنّ الحال كذلك في ترجمة الآداب والعلوم الإنسانية الأخرى، فهي أيضا تعتمد على الجهد الفردي يقوم بها أفراد من مزدوجي اللغة (العربية والفرنسية) أمثال عبد الحميد بورايو وأحمد منور ومحمد ساري ومحمد يحياتن ومحمد داوود وحنفي بن عيسى وبوداود عمير وسعيد بوطاجين وبوزيدة عبد القادر وغيرهم.
وقال جلولي: «لا شكّ أنّنا دخلنا عصرا جديدا يتميّز بغلبة الجانب التكنولوجي وهيمنته على جميع المجالات، ولعلّ أكبر تحدّ تواجهه الترجمة هو الانتقال من الترجمة الورقية التقليدية أو الكلاسيكية المعتمدة على الجهد البشري إلى الترجمة الألية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، وهو موضوع يحتاج إلى تفصيل ويحتاج إلى ندوات متخصّصة تبين إيجابياته وسلبياته، وقد تعدّدت مواقعه ومنصّاته مثل ترجمة جوجل Google ومترجم مايكروسوفت (بينج)، ترجمة أمازون، يضاف إلى ذلك التحدّيات القديمة والمتعلقة بطبيعة اللغة العربية في حدّ ذاتها وهو موضوع يطول ويتشعّب ويعرفه المختصّون.»
وللنهوض بهذا القطاع، يؤكّد العيد جلولي قائلا: «يجب تشجيع دور النشر الجزائرية ودعمها، خصوصا تلك التي تضع الترجمة في سلّم أولوياتها، وكذلك تحفيز المترجمين وضمان حقوقهم المادية والمعنوية، وأيضا التفكير في إنشاء مراكز ومؤسّسات عمومية للترجمة على شاكلة ما هو موجود في بعض الدول العربية وغير العربية، تتكفّل بالترجمة الجيدة والمتخصّصة، وأيضا تأسيس جائزة للترجمة لتثمين جهود المترجمين الكبار، وإبراز أعمالهم، وتحفيز طاقتهم الإنتاجية ورفع مستوى الترجمة في الجزائر، ونشر الكتب والمجلات والرسائل الجامعية وغيرها، ممّا يضيف رصيدا متميزا في عالم الترجمة. وما لم نصل إلى تحقيق هذه الغايات ستبقى حالة الترجمة عندنا ضعيفة لا تخرج من دائرة الاجتهادات الفردية.»
وأوضح المتحدّث أنّه، تماشيا مع الإرادة السياسية الجديدة التي تنتهجها الجامعة الجزائرية في عهدها الجديد، فتحت أقسام جديدة للترجمة منها قسم الترجمة بكلية الآداب واللغات بجامعة قصدي مرباح بورقلة هذا الموسم 2024/2025، والذي تبدأ فيه الترجمة من السنة الأولى ليسانس وقد كانت الترجمة قبل هذا تخصّصا في مرحلة الماستر فقط، علما أنّ هذا القسم كان موجودا في جامعة ورقلة في مرحلة النظام الكلاسيكي ثم أغلق دون مبرر، والآن يعود هذا القسم ليكون انطلاقة جديدة في عالم التكوين في الترجمة» يقول الأستاذ جلولي، ويضيف: «ما يعاب على كثير من المتخرجين، هو اشتغالهم في مجال الترجمة القانونية دون المساهمة في الترجمة العلمية والأدبية التي يحتاجها التعليم الجامعي، باعتبار الترجمة وسيلة لنقل المعارف والعلوم.»
المترجم محمد بوطغان: إنشاء مركز وطني للترجمة ضرورة
يرى الأديب والمترجم محمد بوطغان، أنّ واقع الترجمة في الجزائر يحتاج إلى تحسينات وتصليحات على مستوى آليات الترجمة للنهوض بها، مبرزا أنّه من شأن التعديلات أن تعزّز جهود المترجمين وتشجّعهم على تحسين مستوى أعمالهم، لتكون على شاكلة نتاج فكري يغري المتلقي ويحمّسه على الاطّلاع.
وقال بوطغان لـ»الشعب» إنّ ما يُترجم في الجزائر من أعمال في مختلف اللغات لا يكاد يذكر ولا يعد.. أما ما ينشر ويصدر من ترجمات فهو ضئيل جدا ونزر يسير لا يلبّي أبدا حاجة المعرفة، مشيرا إلى أنّ عموم الأعمال المترجمة في شتى المجالات والتخصّصات يخضع – في غالب الأحيان – إلى رغبة المترجم ومزاجه وحاجته الشخصية وميوله الثقافي، وفي معظم الحالات ينجز المترجمون أعمالهم حبا في الترجمة ورغبة في مشاركة الآخرين بعضًا من هواجسها وقدرًا ممّا يرون أنّه جدير بأن ينقل إلى القارئ الجزائري لإطلاعه على أفكار وجماليات جديدة.
وقال محدّثنا إنّ «واقع الترجمة عندنا يدعو إلى القلق، نظرا لعدم الاهتمام بالترجمة وبالمترجمين، وبما يصدر على مدار العام من أعمال جديدة وجديرة بالترجمة والاطلاع عليها».
وفي حديثه عن التحدّيات التي تواجه المترجم، وتواجهه شخصيا، ذكر بوطغان أنّ أوّل تحدّ هو العائد المالي والتثمين المادي للعمل المترجم، وقال: «إنّه من النادر أن يجبر المترجم ناشرا بدفع حقوق الترجمة، ثم إنّ الهيئات الثقافية ودور النشر لم تبرم عقوداً واتفاقات لترجمة ما يصدر من أعمال تفوز وتحوز جوائز مهمة عالمية وإقليمية وتجد السبق لجهات عربية ودولية أخرى».
ومن جانب آخر، تواجه المترجم الجزائري صعوبات تقنية قد تكون شخصية، مثل غياب المراجع النظرية والتطبيقية لمجال الترجمة، إلى جانب قلّة وندرة الندوات واللقاءات المتعلقة بالترجمة ومشاركة المترجمين فيها.
ويرى بوطغان إمكانية النهوض بالترجمة وفق خطة عمل مرنة، تتضمّن ضبط مشروع وطني لمجال الترجمة ضمن الرؤية الوطنية الثقافية، مع رسم أهداف مشروع وطني للترجمة من شأنه «أن يرسم الصورة الحقيقية لما نحن عليه ولما هي عليه ثقافتنا، حتى نعطي صورة جميلة عن الطاقات الجزائرية المبدعة».
ويرى المتحدّث بضرورة نقل الأعمال العالمية إلى العربية لتشكّل صورة حقيقية عن الآخر الذي ليس إلا نحن في صورة مغايرة، ودعا إلى الإسراع في إنشاء المركز الوطني الجزائري للترجمة، وتفعيل ما يخدم النهوض بها.
المترجم عَمَّار قواسمية: لا مناص من الارتقاء بالترجمة والتعريب
شدّد المترجم والكاتب عمَّار قواسمية، في تصريح لـ»الشعب»، على ضرورة الاهتمام بالترجمة في حال ما إذا كان هناك تفكير بتحقيق النهضة أو التنمية، مؤكّدا أنّ واقع الترجمة بالجزائر اليوم يقف على أرض متشقّقة ويراوح مكانه، وجدّد قواسمية الدعوة إلى إنشاء مركز وطني للترجمة؛ يساهم في الارتقاء بالمكانة التي يستحقّها المترجم الذي سيخدم الترجمة كي تخدم الوطن.
ويؤكّد قواسمية على أهمية الترجمة في العالم العربي والغربي، انطلاقا من «جورج صليبا» الذي يقول «لا نهضة فكرية دُونَ حركة الترجمة»، و»جابر عصفور» الذي يسميها «قاطرة التقدّم»، ليتحدّث بعدها عن واقع الترجمة بالجزائر قائلا: «..أما اليوم فواقع الترجمة يقف على أرض متشقّقة، أو إنّه يراوح مكانه، أو فلنقُل إنّه (واقع)، وهذا اسم فاعل من الفعل (وقع) بمعنى سقط، وإنّه لسقوط مُقيم إذا لم ننتبه ونتدارك..!»، ليتساءل المتحدّث: «أين الترجمة اليوم في بلادنا إذَا لم توجد مؤسّسة وطنية حقيقية ترعاها وتضبط الجهود الفردية المتناثرة المشتّتة؟
وفي سياق حديثه، جدّد قواسمية الدَّعوَةَ إلى المسارعة بإنشاء «المركز الوطني للترجمة»؛ مضيفا أنّه بمناسبة اليوم الدَّولي للترجمة 30 سبتمبر، لا يَسَعُني إلا أن أُؤَكِّدَ – وهذا دأبي وأدبي في كلّ مرة – أهمية الترجمة وأدوار المترجِمِين فحسب، بل من واجبي أن أعَدِّدَ التحدّيات والصعوبات التي تواجههم أيضا، ومنها: تشتت الجهود، وعدم ضبط تسعيرة حقيقية موحّدة للترجمة، وكابوس الحصول على حقوق الترجمة للكتب، وضعف سوق الكتاب المترجم، لا سيما الكتب العلمية، وعزوف دُور النشر على دعم هذه المشاريع أو دعمها بمقابل مالي ضخم.
وتابع: «كلّ هذه الشؤون والشجون غيض من فيض ممّا نعاني، وهي فيض من غيظ يشعر به المترجم الحقيقي المستعد لتقديم خدمة متقنة وأمينة، لو أنّ مؤسّسة وطنية حقيقية تدعمه وتوفر له الأدوات والإمكانات اللازمة، فلا يُمكِن النهوض بالترجمة دون نية حقيقية».
ويرى الكاتب عمار قواسمية ضرورة أن تولي الدولة الجزائرية اهتماما أوسع بالترجمة وما يلحقها، فمن منظوره، تعجّ بلادنا بالمترجمِين الأكْفاء وبالمدقّقين اللغويين، ليس بأقلّ بما تزخر به من مؤلِّفين وكُتَّاب ومبدِعِين ونُقَّاد، قائلا بأنّ هذا الزخم يعدّ رأس مال فكري عظيم.
ويقترح قواسمية أن ننظر إلى النهوض بالترجمة من جوانبه المتعدّدة: بداية بالتكوين النوعي لطلبة الترجمة، وأشدّد هنا على ضرورة ربط تكوينهم بسوق العمل، ثم ضمان فرص العمل في تخصّصهم مستقبلا؛ لأنّ جُلَّهُم -إن لم نقل كُلَّهم- يتجهون إلى التعليم، إلى جانب إنشاء «المركز الوطني للترجمة» الذي من شأنه تحقيق وتنظيم سوق المهنة في البلاد، وتأثيثه بلجان قراءة ترشّح لنا المؤلَّفات الحديثة في شتى العلوم، والحصول على حقوق ترجمتها، والمباشرة فيها.
واختتم قائلا: «..وفي ما قَلَّ ودَلَّ أقول: نَعَم للاعتِزاز اللغوي باللُّغَتَين الوطنيَّتَن، ولا للاستِلاب اللغوي، ونَعَم للترجمة والتعريب واللَّحاق بِالرَّكب العالَمي وتجاوزه».
الدكتور توفيق معيوف: الحاجة ماسّة إلى ترجمـة الأعمال العلمية..
أكّد الأستاذ الجامعي توفيق معيوف، أنّ قلة معاهد الترجمة بالجزائر أثّر على واقع الترجمة بها، ممّا جعلها تعاني من نقص وغياب كبيرين في كلّ المجالات، رغم وجود عدد قليل من الجامعات المختصّة بها، والتي تدرّس فيها الترجمة من العربية إلى لغات محدودة جدّا (الفرنسية، الانجليزية، الألمانية، الاسبانية)، بحكم أنّ هذه اللغات تدرّس في أقسام الآداب واللغات الأجنبية في بعض الثانويات.
واعتبر الدكتور توفيق معيوف أستاذ اللسانيات، الصوتيات، الترجمة واللغة الروسية بجامعة الحاج موسى أخاموك بعاصمة الأهقار، في حديث لـ»الشعب» أنّ الترجمة بالجزائر والعالم العربي تعاني وضعا متدنّيا للغاية، حيث لا تتجاوز نسبة الكتب والأعمال المترجمة 1 بالمائة من المنتج العالمي.
ويؤكّد مسؤول التعليم المكثف للغات بجامعة عاصمة الأهقار، أنّ هذه الترجمات تقتصر على الأعمال الأدبية من وإلى اللغة العربية، ولا وجود لأيّ عمل ترجمي خاص بالعلوم التجريبية والتطبيقية، ممّا يجعل الجزائر والدول العربية في مراتب متأخرة من حيث الأعمال المترجمة المحصورة فقط في بعض الدول العربية، بمعدل 60 كتابا في السنة، في حين نجد ألمانيا وسويسرا والنمسا وفرنسا وأمريكا واليابان والصين تتجاوز الألفي كتاب مترجم سنويا في مختلف المجالات.
ويضيف المتحدّث أنه نظرا لضعف المتكوّنين في اللغات الأجنبية وفي مقاييس الترجمة أنشأت الوزارة المعهد العالي للترجمة التحريرية والفورية التابع لجامعة الدول العربية، والتي تشترط إدارة المعهد شهادة في لغتين مختلفتين لمتابعة التكوين في مجال الترجمة، ليتابع الطلبة تدريبات في مجال الترجمة في هيئات الأمم المتحدة في كلّ من سويسرا والنمسا لتحسين المهارات اللغوية في عدّة لغات.
ويضيف توفيق معيوف قائلا: إنّ مقياس الترجمة يدرّس في أقسام اللغات بالجامعات الجزائرية بطريقة سطحية وبحجم ساعي لا يفوق 30 ساعة في السداسي، مدرج في الوحدات التعليمية الاستكشافية بمعامل واحد، ما يجعل الطالب والباحث غير مهتم بهذا المقياس، يقابله بروز مواقع الترجمة الخاصة بمحركات البحث تغزو مجال الترجمة، وذلك بنقل النص حرفيا من لغة إلى أخرى دون جهد يذكر، وقال: «يكفي أن نطلب من الأستاذ الباحث والطالب المقبل على التخرج بملخص البحث مترجم بلغة أخرى بأيّ طريقة، لكي يقبل بحثه أو عمله، وإدراج مراجع بلغات أجنبية لم يطّلع عليها ولم يتصفّح أيّ منها.
وفي سياق آخر، لخّص الدكتور معيوف التحدّيات التي تواجه الترجمة في الجزائر، في ضرورة إنشاء مراكز ترجمة في كلّ جامعة للمتحصّلين على شهادات عليا في لغتين مختلفتين، وأن لا تكون مقتصرة على اللغة الفرنسية والانجليزية، وإنّما من وإلى العربية على غرار الألمانية والإسبانية والإيطالية والروسية والتركية والصينية، بحكم أنّ هذه اللغات تدرّس في الجامعات الجزائرية.
ليخلص في الأخير أنّه من أجل النهوض بالترجمة في الجزائر لابدّ من إعطاء أهمية قصوى لمقياس الترجمة في كلّ التخصّصات بحجم ساعي مقبول وبمعامل المواد الأساسية، وتحفيز المترجمين لنشر الأعمال المترجمة وتخصيص جوائز ومكافآت حماية لحقوق المؤلف والمترجم، وكذا الاستفادة من تدريبات لغوية في عدّة بلدان بالخارج.