تدخل حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزّة، اليوم، عامها الثاني، ويرسّم العدوان الغاشم أصالته في الجرائم ضد الإنسانية دون أي بارقة أمل في توقف آلة القتل والدّمار عن سفك دماء الفلسطينيّين، وتحويل مدنهم وقراهم إلى أكوام من الركام، يرقد تحتها آلاف الشهداء الذين تعذّر دفنهم بسبب القصف المستمر، وفوقها ترتسم كل صور المعاناة والمآسي التي يتكبّدها النازحون في هذه المنطقة الصغيرة التي باتت توصف بأنها أكثر منطقة غير صالحة للحياة على وجه الأرض.
أمام عيون العالم، وبدعم مكشوف من كبريات الدول، حوّل الكيان الصهيوني مدن وشوارع ومدارس وجامعات ومستشفيات ومساجد ومصانع قطاع غزة – في في ظرف عام واحد – إلى أنقاض تنبعث منها رائحة الموت التي سكنت كلّ مكان، وأصابت بوجعها كل العائلات بعد أن بلغ عدد الشهداء 42 ألفا وعدد المصابين نحو 96 ألفا، يواجه عدد كبير منهم إصابات دائمة، وعدد المدفونين تحت الأنقاض نحو 15 ألفا، فيما يتجاوز عدد الأسرى المعتقلين في ظروف كارثية 11 ألف
كلفة بشرية عالية
لم يتردّد الكيان الصّهيوني وهو يخوض أطول وأبشع حرب منذ قيامه المشؤوم على أرض فلسطين، في استعمال كل وسائل القتل والدّمار في قطاع غزة دون أن يميّز بين مقاتل ومدني، بين رجل أو امرأة أو طفل أو حتى جنين في بطن أمّه، فالجميع أصبحوا بالنسبة إليه أهدافا مستباحة .
ولأنّه خطّط للإبادة الجماعية، فقد استعمل كل أنواع الأسلحة الفتاكة وحتى المحرّمة منها التي تسلّمها من الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، مثل قنابل “جيبو 28”، والقنابل الموجّهة بنظام “جي بي اس” بهدف تدمير البنية التحتية، وقنابل الفوسفور الأبيض، والقنابل الغبية أو غير الموجهة، وقنابل “جدام” الذكية، كما ألقى على رؤوس المدنيين في مختلف مناطق القطاع، أكثر من 85 ألف طن من المتفجرات و45 ألف صاروخ، ما تسبب في ارتقاء 42 ألف شهيد، بينهم نحو 17 ألف طفل، ونحو 12 ألف سيدة، و986 من الطواقم الطبية، و174 صحفيا، و85 عنصرا من الدفاع المدني.
وأدّى عدد الضّحايا الكبير إلى تيتيم نحو 25 ألف و973 طفلا في القطاع، حيث باتوا يعيشون بدون والديهم أو بدون أحدهما، ما يرفع عدد الأيتام في القطاع إلى 52 ألفا و322 طفل بعدما كان عددهم 26 ألفا و349 حتى عام 2020، وفق جهاز الإحصاء الفلسطيني.
أما عدد المصابين، فقد وصل إلى 96 ألفا و844 آخرين، بينهم أكثر من 22 ألفا و500 فلسطيني يعانون إصابات تغير حياتهم، بحسب بيان لمنظمة الصحة العالمية في 12 سبتمبر الماضي.
وتشمل تلك الحالات “إصابات خطيرة في الأطراف، وبتر أطراف، وأضرارا في النخاع الشوكي، وإصابات دماغية، وحروقا بالغة، تتطلب خدمات إعادة التأهيل الآن، وفي السنوات القادمة”، وفق المصدر.
وطبعا، تأتي هذه المتطلبات وسط ظروف صحية صعبة يعاني منها القطاع جراء نقص الأدوية والمستلزمات الطبية والتدمير الممنهج للمستشفيات المركزية والصغيرة في القطاع، حيث أورد المكتب الإعلامي الحكومي الفلسطيني، أن الجيش الصهيوني أخرج 34 مستشفى و80 مركزا صحيا عن الخدمة، كما استهدف 162 مؤسسة صحية و131 سيارة إسعاف.
كما قام الاحتلال بالقضاء على القطاع التعليمي في القطاع بشكل كامل, وشلّ الدراسة للعام الثاني على التوالي، وذلك بعد تدمير أكثر من 125 جامعة ومدرسة بشكل كلي، و337 جامعة ومدرسة بشكل جزئي وباتت غير صالحة للتعليم، واستشهد 11.500 طالب وطالبة من المدارس والجامعات، فضلا عن إعدام 750 معلما ومعلمة من مختلف الهيئات التدريسية.
خسائر مادية رهيبة
بحسب تقييمات الأضرار التي أجراها باحثون في مركز الدراسات العليا في جامعة مدينة نيويورك وجامعة ولاية أوريغون، ونشرتها مواقع أجنبية، فإن أكثر من نصف المباني في جميع أنحاء قطاع غزة الذي تبلغ مساحته 365 كيلومترا مربعا ويعيش فيه نحو 2.3 مليون نسمة، تعرضت للدمار الكلي أو الجزئي، وارتفعت النسبة إلى ما يقرب من 80 بالمائة في مدينة غزة.
ومن أصل 400 ألف وحدة سكنية في القطاع، دمّر الجيش الصهيوني نحو 150 ألف وحدة بشكل كلي، و200 ألف وحدة جزئيا، بينما تسبّب بتحول 80 ألف وحدة لأماكن غير صالحة للسكن.
كما تسبّب القصف المستمر في تدمير 3 كنائس، و611 مسجدا بشكل كلي و214 بشكل جزئي، و206 مواقع أثرية وتراثية، و36 منشأة وملعبا وصالة رياضية.
القتل بالتّعطيش والتّجويع
هذا، ولم يتردّد الاحتلال الغاشم في استعمال التعطيش كوسيلة لتحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم بقصد إجبارهم على الهجرة القسرية أو الموت. وبحسب تقرير لمنظمة “أوكسفام”، فإنّ الحرب أدت إلى إتلاف أو تدمير 5 مواقع للبنية التحتية للمياه والصرف الصحي كل ثلاثة أيام منذ بداية العدوان.
هذا الأمر أدّى إلى تراجع حصة الفرد الفلسطيني في القطاع من المياه بنسبة 94 بالمائة، حيث بالكاد يستطيع المواطن في قطاع غزة الوصول إلى 4.74 لترات من المياه يومياً، مقارنة بحصوله على نحو 26.8 لتر يوميا عام 2022، وفق تقرير سابق للجهاز.
وتبقى حصّة الفرد الفلسطيني في غزة ضئيلة بموجب ما أقرته منظمة الصحة العالمية من حق كل فرد الحصول على 120 لترا يوميا، بما يشمل الاستخدام الشخصي والمنزلي.
إلى جانب التعطيش، يستخدم الجيش الصهيوني التجويع كسلاح لقتل الفلسطينيين في حرب الإبادة الجماعية التي يمارسها ضدهم في غزة. وبالفعل لقد ارتقى نحو 36 طفلا بسبب سوء التغذية وإصرار الاحتلال على منع وعرقلة دخول المساعدات الغذائية، وإن دخلت، فبكميات شحيحة، إضافة إلى استهدافه المخازن الغذائية التي كانت تتواجد في القطاع والمخابز وشاحنات المساعدات والجوعى الذين ينتظرون دورهم للحصول على مساعدات.
وبحسب تقرير نشرته “اوكسفام” في 6 سبتمبر الماضي، فإن 1 من كل 5 أشخاص يعيشون في غزة يواجهون “مستويات كارثية” من الجوع.
أوبئة منقرضة.. تعود
منذ الحرب، بلغت نسبة ما دمرته القوات الصهيونية من مضخات الصرف الصحي نحو 70 بالمائة، فضلا عن تدمير 100 بالمائة من جميع محطات معالجة مياه الصرف الصحي ومراكز اختبار جودة المياه.
وتسبّب هذا التدمير الواسع في تسرب مياه العادمة إلى الشوارع وخيام النازحين، حيث تتفاقم هذه المأساة في فصل الشتاء، ما يتسبب بانتشار الأمراض في صفوف النازحين، وهذه تهمة وجهها الرئيس الفلسطيني محمود عباس للكيان، بتعمد “نشر الأوبئة بغزة”.
وقد وصل عدد من أصيبوا بالأمراض المعدية إلى أكثر من مليون و730 ألفا من أصل 2 مليون نازح، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي بغزة.
كما ظهر مرض شلل الأطفال في القطاع لأول مرة منذ 25 عاما في أوت الماضي، ما دق ناقوس الخطر ودفع المؤسسات الصحية الدولية لتوفير التطعيمات، وإطلاق حملة تطعيم في القطاع بالتعاون مع وزارة الصحة.
الفقر يتمدّد..
هذا، ودمّرت القوات الصهيونية بشكل ممنهج القطاع الاقتصادي الفلسطيني بما فيه المنشآت والمصانع والمزارع وأسواق الأسماك، ما تسبب بخسائر مالية أولية مباشرة قدرها المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بحوالي 33 مليار دولار أمريكي.
كما ارتفعت البطالة إلى أعلى مستوياتها وبات معظم الفلسطينيين بلا عمل ولا أجر، وبذلك تكون نسبة الفقر في القطاع قد ارتفعت إلى 100 بالمائة، بينما كانت 50 بالمائة قبل الحرب وفق أرقام المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
قتل الشّهود لطمس الحقيقة
من ناحية ثانية، ورغم الحماية التي يجب أن يتمتعوا بها، لم يتوانَ جيش الاحتلال الصهيوني عن استهداف الصحافيين الفلسطينيين على مدار عام من حرب الإبادة التي يشنها على قطاع غزة على مرأى ومسمع من العالم.
ومنذ اندلاع الحرب الدموية، ونتيجة للمذابح الصهيونية، استشهد 174 صحافيا فلسطينيا في القطاع، وأصيب 396 آخرين، واعتقل 36، فيما دُمرت 87 مؤسسة إعلامية، بحسب إسماعيل الثوابتة، المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، الذي قال بأن “الاحتلال يضع الصحافيين والإعلاميين في دائرة الاستهداف منذ بدء حرب الإبادة الجماعية في غزة، حيث يتعمد قتلهم وتصفيتهم”.
وعن أسباب استهداف الصحافيين، أوضح الثوابتة بأن “الاحتلال يهدف إلى ترهيبهم، وطمس الحقيقة، ومنعهم من التغطية الإعلامية لجرائمه ضد الأطفال والنساء والمدنيين، في إطار حرب الإبادة الجماعية على جميع أطياف شعبنا”.
سجون الكيان..”أهلا بكم في جهنّم”
خلال عام الإبادة الجماعية، اعتقل الجيش الصهيوني آلاف المدنيين الفلسطينيين من القطاع الذي يحاصره للعام الثامن عشر على التوالي، وبين الأسرى، أطفال ونساء وعاملون بالطواقم الطبية والدفاع المدني ورجال مدنيون ولا سيما الأسرى المحررون الذين استهدفهم الاحتلال بشكل خاص. وقليل من هؤلاء الأسرى أُطلق سراحهم، والبقية يقبعون في الأسر حيث يتعرضون للتعذيب بأبشع صوره ووسائله، وقد استشهد كثير منهم.
لقد تضمّنت الممارسات العدوانية للاحتلال الصهيوني على غزة، حملات واسعة ومكثفة من الاعتقالات، طالت نحو 11 ألف و100 حالة تم توثيقها لدى نادي الأسير الفلسطيني، في الضفة الغربية المحتلة وحدها، في حين لم يتم تحديد العدد في القطاع، إذ يتعمد الاحتلال إخفاء المعلومات حول المعتقلين أو أماكن احتجازهم.
وقد حوّلت السلطات الصهيونية حياة المعتقلين والأسرى إلى جحيم، في ظل ما يتعرضون له من ضرب مستمر وتقييد الأيدي في أوضاع مؤلمة، وتركهم معصوبي الأعين لفترات طويلة والتجويع والإهمال الطبي الشديد وحرمانهم من زيارة ذويهم، ووضع عراقيل أمام المحامين الذين يشكلون حلقة الوصل الوحيدة بينهم وذويهم، وحتى الاعتداء عليهم جنسيا كما وثقته عدّة فيديوهات، ففي 29 جويلية الماضي، تم توقيف 10 عساكر صهاينة بشبهة الاعتداء الجنسي على أسير فلسطيني من غزة في معتقل “سدي تيمان” سيء السمعة، مما أثار انتقادات حادة للكيان إقليميا ودوليا، لكن للأسف، لم تتم محاكمة الجناة ولا معاقبتهم، كما رفضت المحكمة العليا الصهيونية في 18 سبتمبر الماضي، طلب منظمات أهلية إغلاق هذا المعتقل رغم سجل انتهاكاته.
غزّة..مقبرة المبادئ الغربية
في الواقع، ما تمّ سرده من خسائر بشرية ومادية للعدوان الصهيوني المتواصل على قطاع غزة، هو غيض من فيض، لأنّ ما ألحقه جيش الاحتلال بالفلسطينيين خلال سنة، هو باختصار إبادة حقيقة تتمّ أمام مرأى ومسمع العالم الذي فضّل بعضه التزام الصمت، فيما تحرّكت قلّة قليلة بحزم لوقف إراقة دماء الفلسطينيين، مثل جنوب إفريقيا التي رفعت دعوى قضائية ضد الكيان الغاصب لدى محكمة العدل الدولية، والجزائر التي سخّرت عضويتها في مجلس الأمن ومكانتها الدولية للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، لكن كانت الولايات المتحدة الأمريكية تواجه أي قرار يدعو لوقف المذبحة بالفيتو. لتكشف الأيام والأشهر بأن الموقف الأمريكي والغربي ومواقف كثير من المنظمات والهيئات الدولية التي تدّعي حقوق الإنسان والحريات، اختارت الاصطفاف إلى جانب الصّهاينة، ودعمت حربهم الظالمة عسكريا وسياسيا وقانونيا ودبلوماسيا، وهو الأمر الذي جعل مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل يقول: “إنّ غزّة مقبرة للعديد من أهم مبادئ القانون الإنساني”، ويرى كثيرون أنّها مقبرة لمبادئ الغرب كذلك.