تعدّدت تجلّيات تضامن الجزائر مع فلسطين، ووقوفها في وجه العدوان الجائر ضدّها. ومن أهمّ هذه التجلّيات الحركية التي عرفها المشهد الثقافي الجزائري في هذا الصدد، والتي تجسّدت في اتّجاهين رئيسيين عبّرت عنهما وزارة الثقافة والفنون: الأول، تعليق كلّ النشاطات الإحتفالية بالموازاة مع المأساة التي يعيشها الفلسطينيون، والثاني، مواصلة المهرجانات والتظاهرات الثقافية، على أن يتم تكييفها مع الموقف التضامني المناصر للقضية الفلسطينية.
شهد المشهد الثقافي الجزائري مظهرين للتضامن مع الشعب الفلسطيني (والآن اللبناني) الأول بتعليق النشاطات، والثاني بجعل القضية في قلب التظاهرات الثقافية.
التضامن بتعليق النشاطات
تجلّى المظهر الأول أياما قليلة بعد “طوفان الأقصى”، وبدء العدوان الهمجي على غزّة، حين قرّرت وزارة الثقافة والفنون تعليق كلّ النشاطات الإحتفالية التي كانت مبرمجة وتأجيلها إلى وقت لاحق، تعبيرا عن التضامن الكامل مع الإخوة الفلسطينيين وعائلات الشهداء، بالنظر إلى الوضع المأساوي في غزّة.
وفي جويلية الماضي، قرّرت الوزارة تأجيل كلّ المهرجانات الفنية الكبرى المبرمجة في الصائفة، “مع تكييف النشاطات الثقافية والفكرية الأخرى مع الموقف التضامني المناصر للقضية الفلسطينية، وتعزيز التظاهرات الثقافية الرامية إلى ترسيخ الثقافات الشعبية المحلية ومقوّمات الهوية الوطنية”.
وجاء هذا القرار “انطلاقا من موقف الجزائر الريادي والثابت المناصر والداعم للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني في مقاومته الشرعية الباسلة والصامدة في وجه الوحشية الصهيونية، وانسجاما مع جهود الدولة الجزائرية وفي مقدّمتها رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبّون لنصرة الشعب الفلسطيني المضطهد في أرضه، وأمام تصاعد فظاعة المجازر التي ترتكبها قوّات الإجرام الصهيوني وحرب الإبادة الجماعية المفتوحة ضدّ الشعب الفلسطيني المحاصر”.
الأدب والفكر في خدمة القضية
خلال اجتماع تنسيقي، سبتمبر الماضي، تحضيرا لتنظيم معرض الجزائر الدولي للكتاب 2024، أسدت وزيرة الثقافة والفنون صورية مولوجي توجيهاتها بخصوص الطبعة الـ27 نوفمبر المقبل، حيث ستكون القضية الفلسطينية حاضرة، وذلك من خلال الندوات التي ستقام، على غرار أدب المقاومة في فلسطين، أقلام في وجه النار فلسطين في الشعر الجزائري.. ومن الندوات أيضا ندوة قضية تصفية الاستعمار، الصحراء الغربية آخر المستعمرات في إفريقيا.
قبل ذلك، كانت الدورة 26 من معرض الجزائر الدولي للكتاب، وهو الحدث الثقافي الأكثر جماهيرية في البلاد، موعدا لتجديد العهد مع القضية الفلسطينية. وفي حين كانت إفريقيا ضيف شرف الدورة، فقد تفاعلت هذه الأخيرة مع الأحداث، حين كانت غزّة تواجه بداية العدوان الهمجي.
وحمل لواء المشاركة الفلسطينية كلّ من الكاتبين إبراهيم نصر الله ويحيى يخلف. واحتفى المعرض بدولة فلسطين، من خلال تنظيم العديد من الفعّاليات الثقافية الهامة، من عرض للكتب وندوات ولقاءات حول الأدب والتاريخ والنضال الفلسطيني، وأمسيات شعرية تضامنية. وقدّم روائيون تجاربهم المختلفة في سرد القضية الفلسطينية روائيا.
وأكّد الروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله أنّ المثقّف العربي “ما يزال يدافع عن القضية الفلسطينية عبر الرواية والشعر” وأنّ الأدب الفلسطيني “واكب نضال وكفاح شعبه”.
وكان من أجنحة المعرض الرئيسية “فضاء غزّة”، الذي احتضن أماسي شعرية عنوانها التضامن مع القضية الفلسطينية والتنديد باعتداءات الكيان الصهيوني.
ودائما على وتر المقاومة، احتفى المعرض بشاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا، وأحيى الذكرى العاشرة لرحيل الزعيم نيلسون مانديلا، الذي سترافع بلاده جنوب إفريقيا عن حقوق الفلسطينيين أمام محكمة العدل الدولية.
وفي اختتام “منتدى الفكر الثقافي الإسلامي”، شهر رمضان الماضي بجامع الجزائر، أشارت مولوجي إلى أنّ الجزائر كانت دوماً متمسّكة بمبادئ نصرة الضعيف وتحرير الشعوب، ومنها القضية الوجودية بالنسبة للجزائريين، تحرير فلسطين وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.
وفي إشرافها على افتتاح “ملتقى أدب المقاومة العربي”، أكّدت وزيرة الثقافة موقف الجزائر من القضية الفلسطينية التي هي “أمُّ القضايا”، وأنّ الجزائر ظلّت على عهدها إزاء نصرة الشعب الفلسطيني، مذكّرة بأنّ رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبّون، أكّد أكثر من مرة، ومنذ العدوان السافر للكيان الصهيوني على غزّة، أنّ نضال الشعب الفلسطيني وثورته لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يوصف بالإرهاب، وأنّ الجزائر لن تتوانى أبدا عن نصرة القضية الفلسطينية. وعرف الملتقى (من تنظيم الاتحادية الجزائرية للثقافة والفنون) ديسمبر من العام الماضي، مشاركة ثلّة من الشعراء والشخصيات الأدبية العربية، وتنظيم جائزة الكاتبة والشاعرة الفلسطينية الشهيدة “هبة أبو ندى”.
المسرح والسينما في الموعد
بعد مرور أسبوع على “طوفان الأقصى”، وبمناسبة المهرجان الثقافي الدولي للمسرح ببجاية في طبعته الـ12، رافع العرض الافتتاحي الكوبي “تويو” من أجل العدالة، وقدّم صورة عن الظلم المنتشر في العالم، وهو ما عبّر عنه السفير الكوبي حين أكّد أنّ المسرحية تمثّل ما يحدث للفلسطينيين والصحراويين وأطفالهم من ظلم وحجب لألوان الحياة.
كما فتحت الجزائر قاعاتها السينمائية للفن السابع الفلسطيني.. مثلا، بعد إلغاء الدورة العاشرة من “أيام فلسطين السينمائية”، التي كان مقررا إقامتها في خمس مدن في غزّة والضفة الغربية، عرض المركز الجزائري للسينما بمختلف قاعاته، بالتنسيق مع مؤسّسة “تحيا السينما”، وتحت شعار “فلسطين في القلب”، الوثائقي الفلسطيني “اصطياد الأشباح” للمخرج رائد أنضوني، وذلك في الثاني من نوفمبر، تاريخ وعد بلفور. وصرح لنا عادل مخالفية، مدير المركز الجزائري للسينما، حينذاك، أنّ العدوان على غزّة حال دون إقامة مهرجان “أيام فلسطين السينمائية”، وكعربون تضامن تمّ بالإجماع على مستوى الوطن العربي اختيار فيلم “اصطياد الأشباح” ليُعرض عربيّا وفي توقيت موحّد”.
بعد ذلك بشهر، احتضنت سينماتك الجزائر الطبعة الثانية للأيام السينمائية لفيلم التراث، وكانت فلسطين ضيف شرف التظاهرة.
تضامن غير مشروط
وعلى ذكر السينما، ومع مرور عام على حرب الإبادة التي يقودها الصهاينة ضدّ الفلسطينيين، يعرض مهرجان وهران للفيلم العربي، الجارية فعّالياته هذا الأسبوع، مجموعة الأفلام الفلسطينية “غزّة من المسافة صفر”، وهي مجموعة من الأفلام القصيرة بين الروائي والوثائقي والتحريك، وتعرض 22 قصة متنوّعة لمخرجات ومخرجين من قطاع غزّة، صوّرت في ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد تحت القصف وفي مخاطرة كبيرة على حياة صنّاعها.
من جهتها، نظّمت محافظة مهرجان الجزائر الدولي للشريط المرسوم، في الطبعة 16، الذي اختتمت فعّالياته، أول أمس، مسابقات وطنية ودولية، من بينها مسابقة “كلّنا غزّة” للشريط المرسوم.
ومن التظاهرات الثقافية التي تشرف عليها وزارة الثقافة والفنون، المعارض الوطنية للكتاب، التي لم تخلُ أنشطتها من مظاهر التضامن مع الشعب الفلسطيني. على سبيل المثال لا الحصر، تضمّن المعرض الوطني للكتاب بالجلفة، ماي الماضي، أمسية شعرية في الشعر الشعبي، مرفوعة إلى أرواح شهداء غزّة، وذلك بالتنسـيق مـع الاتحاد الوطنـي للشـعراء الشعبيين.
وشهدت الطبعة 13 للمهرجان الوطني الثقافي للعيساوة بميلة، مارس الماضي، إقامة ندوتين فكريتين بإذاعة ميلة الجهوية، موضوع إحداهما “العيساوة كامتداد للمرجعية الوطنية في إسناد الامتداد العربي، القضية الفلسطينية نموذجا”.
واحتضنت ميلة أيضا الطبعة الثانية من المسابقة الوطنية الجامعية لأفلام الموبايل، ديسمبر الماضي، تحت شعار “إبداعات طلابية بعدسات عصرية”، وعرفت مشاركة 44 فيلما قصيرا، تمثل 30 مؤسّسة جامعية و21 ولاية. وكان الملفت للنظر، وفق الجهة المنظمة، معالجة 12 عملا من الأعمال المشاركة موضوع كفاح الشعب الفلسطيني، رغم عدم فرض هذه الثيمة على طلاب الجامعة المشاركين.. ولعلّ هذا يعكس الاتجاه العام للشعب الجزائري، ووقوفه العفوي واللاّمشروط مع القضية الفلسطينية.
عبد الحميـد هيمة: المقاومة الفلسطينية.. وردة تطعن الخنجر
أكّد الدكتور عبد الحميد هيمة أنّ محنة الشعب الفلسطيني وحّدت الشعوب ضدّ الاحتلال، وأعادت القضية الفلسطينية للواجهة، كما نسف الصّمود مشروع التطبيع إلى الأبد، ووحّد المقاومة بجميع طوائفها ضدّ الكيان المحتلّ.
أشار الدكتور عبد الحميد هيمة، أنّ المقاومة الفلسطينية حقّقت نصرا تاريخيا على الكيان الصهيوني، وقال في تصريح لـ«الشعب”، “تشاء الأقدار أن تأتي رياح الذكرى السنوية الأولى لعملية طوفان الأقصى، وقد توسّعت هذه المقاومة، فإذا هي طوفان حقيقي وحّد كلّ الأمّة، ووحّد تيار المقاومة من اليمن إلى العراق ضدّ الكيان، تحت عنوان “وحدة الساحات”، بعد عام من المواجهة والصّمود، استطاعت هذه المقاومة الباسلة تحقيق كثير من الإنجازات”.
وأضاف: “ولعلّ أهم هذه الإنجازات الصّمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية على الرغم من إمكاناتها العسكرية المحدودة، ونحن اليوم نقف بكلّ فخر وشموخ بهذه المقاومة الباسلة التي غيّرت الصورة النمطية للجيش الصهيوني الذي لا يغلب. هذه الصورة تحطّمت وانهارت أمام ضربات المقاومة، كما غيّرت أيضا الصورة النمطية للإنسان العربي الذي يأكل على رأسه ويذبح ولا يستطيع أن يردّ، فهذه الصورة تحطّمت إلى الأبد..”
وأشار هيمة إلى أنّ هناك تغييرا كبيرا في الرأي العام الدولي، خاصّة في أمريكا والعالم الغربي إزاء القضية الفلسطينية، حيث رأينا على طول السنة الماضية خروج المسيرات الحاشدة المدعّمة للمقاومة، في أغلب العواصم الغربية احتجاجا على العدوان الصهيوني، فضلا عن المظاهرات في عواصم الدول الإسلامية والعربية”..
وأشار المتحدّث – في السياق – إلى أنّ “الصّمود الفلسطيني نسف مشروع التطبيع إلى الأبد، ووحّد المقاومة بجميع طوائفها ضدّ الكيان المحتلّ، بل استطاع تجاوز وتخطّي كلّ مستويات الردع التي حاول المحتلّ ترسيخها خلال السنوات الماضية مع جبهة المقاومة، حيث تأكّد مجدّدا – في هذه الحرب – قدرة تيار المقاومة على الردع والانتصار على الصهاينة، وستنتصر إرادة المقاومة على همجية الاحتلال الصهيوني”.
ويضيف: “عندما نذكر الجزائر، فإنّنا نذكر المواقف المشرفة والوقوف الدائم مع القضية الفلسطينية، وكلّنا نذكر مقولة الرئيس الراحل هواري بومدين: “الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، ثم إنّ الجزائر أول من فتح إذاعة للفلسطينيين باسم صوت فلسطين”..
وسجّل الأستاذ عبد الحميد هيمة، أنّ الجزائر – بقيادة رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبّون – دعّمت المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، وجمعت شمل الفلسطينيين عام 2022، كما كان الإعلان عن قيام دولة فلسطين من الجزائر في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد عام 1988، وقال: “اليوم، الجميع يلحظ هذا الدعم الدبلوماسي الذي ما فتئت تقدّمه الجزائر في المحافل الدولية على غرار مجلس الأمن. لوقف حرب الإبادة على غزّة “.
أما على الصعيد الثقافي، فقد أكّد محدّثنا، أنّه لم تحظ قضية بالاهتمام بالقدر الذي حظيت به القضية الفلسطينية، مشيرا إلى أنّها شغلت بال الشعراء، وألهمت الروائيين والفنانين، الذين سعوا إلى إذكاء روح المقاومة والنضال والصّمود، في ظلّ ما يواجه الشعب الفلسطيني من اجتثاث ودحض لهويته، تحت وطأة الاحتلال الصهيوني.
وذكر هيمة – في السياق ذاته – أنّ المبدع الجزائري كان ومازال مع الحقّ الفلسطيني المشروع في تقرير المصير، خاصة وأنّ الجزائر عاشت ويلات الاستعمار البغيض، وخاضت مقاومة وثورة تحريرية شاملة، راح ضحيتها ملايين الشهداء، إلى أن تحقّق استرجاع الحرية والكرامة.
ولفت المتحدّث إلى أنّنا في الجزائر، نرى أنّ استقلالنا سيبقى منقوصا، إذا لم تتحرّر فلسطين، ولم يتحرّر الأقصى الشريف أولى القبلتين وثالث الحرمين، وأكّد على أنّ القضية الفلسطينية حاضرة في كلّ المحافل والتظاهرات الثقافية التي نظّمتها وزارة الثقافة، دعما وإسنادا للمقاومة الفلسطينية، بل إنّ السلطات الجزائرية أجّلت كلّ التظاهرات الفنية الكبرى المبرمجة تضامنا مع فلسطين، انطلاقا من موقف الجزائر الريادي والثابت الداعم للمقاومة الفلسطينية المشروعة.