اعتمدت الجزائر مقاربة تشاركية متعددة القطاعات لتعزيز الأمن الغذائي، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة 2030، وسط تقلبات تشهدها الأسواق العالمية منذ جائحة كورونا، ويتوقع أن تزداد حدة التقلبات في السنوات القادمة، بسبب تغير المناخ والصراعات الجيوسياسية التي أثرت على البلدان المصدرة والمستوردة من حيث توفير المدخلات الضرورية للإنتاج الزراعي والمواد الغذائية الأساسية خاصة الحبوب.
تعاقب هذه الأزمات، دفع الجزائر، منذ تولي رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، إلى وضع رؤية محكمة لتحسين قدرة البلاد على الصمود، وإيجاد حلول مبتكرة لتأمين غذاء الجزائريين، ترتكز على العلوم والتكنولوجيا، وكذا تثمين المعارف، لذلك اعتمدت الجزائر – بتوجيهات من الرئيس تبون – مقاربة تشاركية متعددة القطاعات لتعزيز الأمن الغذائي، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة 2030.
تشمل استراتيجية الجزائر لتعزيز الأمن الغذائي تجسيد المخطط الوطني لتنمية الزراعات الاستراتيجية الحبوب والبقول والبذور الزيتية ومحاصيل السكر والحليب، بهدف زيادة الإنتاج والإنتاجية، وتلبية الاحتياجات الوطنية، إضافة إلى تقليص الواردات ورفع نسبة مساهمة القطاع الفلاحي في الصادرات خارج المحروقات، وتعزيز قدرات تخزين الحبوب.
وحدّد رئيس الجمهورية، بالنسبة لشعبة الحبوب، لبلوغ هدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب عام 2025، ومن الشعير والذرة الحبية عام 2026، وذلك من خلال توسيع المساحات المخصصة لزراعة الذرة الحبية وعباد الشمس والبقوليات انطلاقا من الموسم الفلاحي الحالي.
وتنفيذا لالتزامات الرئيس، تم توقيع عقود التزام ممضاة من طرف الفاعلين المحليين مع الإدارة المركزية للقطاع، تم بموجبها تخصيص مساحة إجمالية مقدرة بـ3.069 مليون هكتار منها 1.643 مليون هكتار لزراعة القمح الصلب و1.17 مليون هكتار لزراعة الشعير وباقي المساحة ستخصص لإنتاج القمح اللين، كما تم توفير 4.2 مليون قنطار من البذور المعتمدة وزعت لأول مرة بحسب خصوصيات كل ولاية وطبيعة أراضيها الفلاحية، وأكثر من 3.5 مليون قنطار من الأسمدة.
وتسعى وزارة الفلاحة، في الموسم الجديد إلى إنتاج 1.645 مليون طن من القمح الصلب، تنفيذا لتوجيهات رئيس الجمهورية وتحقيقا لالتزامه بتحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المادة، وعدم اللجوء لاستيرادها ابتداء من 2025.
ولتجسيد هذه الأهداف ميدانيا، نظمت أربع ورشات عمل لدراسة مواضيع أساسية تتعلق بإنجاح حملة الحرث والبذر لموسم 2024-2025، خصصت الأولى للتمويل والتأمين، والثانية لتجنيد البذور والأسمدة، والثالثة للدعم التقني، والرابعة للسقي، شارك فيها كل الفاعلين المعنيين والخبراء، وسمحت مخرجات هذه الورشات بوضع ورقة طريق عملياتية تهدف إلى تجنيد كل الوسائل المادية والبشرية ورفع كل العراقيل لإنجاح الموسم الفلاحي الجديد.
ترقية الاستثمار المحلي والأجنبي
اتجهت الجزائر منذ تولى الرئيس تبون سدة الحكم، إلى تشجيع الاستثمارات المحلية والأجنبية المنتجة لرفع قدرات الإنتاج والإنتاجية للشعب الفلاحية الأكثر استهلاكا، وقد وضعت في هذا الصدد سياسة طموحة لترقية الاستثمار الفلاحي المحلي والأجنبي، عن طريق استصلاح مئات الآلاف من الهكتارات بولايات الجنوب، بهدف إنشاء أقطاب متكاملة متخصصة في إنتاج المنتجات الاستراتيجية ذات الاستهلاك الواسع (الحبوب والبذور الزيتية ومحاصيل السكر والبقوليات الغذائية والحليب والبذور)، مع ضمان الاستخدام الرشيد لموردي التربة والمياه.
وكرس قانون الاستثمار الصادر عام 2022، مبدأ رابح-رابح، مع تحديد القواعد التي تحكم الاستثمارات وحقوق والتزامات المستثمرين.
وإضافة إلى المشاريع المجسدة من طرف متعاملين وطنيين خواص وعموميين، تم في أثناء العام الجاري، إبرام اتفاقية شراكة مع الشركة القطرية “بلدنا” لإنشاء قطب متكامل لإنتاج مسحوق الحليب تتجاوز قيمته 3.5 مليار دولار، يمكن من توفير 50 بالمائة من الاحتياجات الوطنية من مسحوق الحليب محلي الإنتاج، وأخرى مع الشريك الإيطالي “BF SPA” لإنشاء قطب لإنتاج الحبوب (القمح الصلب) والبقوليات، وهو ما يسمح بالاستفادة من التجربة والتكنولوجيا الأجنبية من أجل تحسين المردود في مجال الزراعات الإستراتيجية.
وتبدي عدة دول أخرى منها الصين، السعودية والهند، اهتماما بالاستثمار في القطاع الفلاحي بالجزائر، ستتوّج قريبا بتوقيع اتفاقيات شراكة تخدم المصالح المشتركة.
وتشمل استراتيجية تنمية القطاع الفلاحي بالجزائر أيضا برنامجا لتشجيع الزراعة العائلية التي تتميز بالتنوّع البيولوجي وخبرة الفلاحين والمربين والنساء الريفيات، لا سيما من خلال التثمين عن طريق علامات الجودة مثل علامة البيانات الجغرافية (IG) وعلامة المنشأ (AO) وعلامة الجودة الزراعية.. كل هذه البرامج التنموية تندرج في إطار التكيف مع تغير المناخ ومكافحة التصحّر والانجراف.
دعم الفـلاحين
نجاح قطاع الفلاحة في تغطية الاحتياجات الغذائية للجزائريين بنسبة 75 بالمائة، لم يكن وليد صدفة، بل كان ثمرة مجهودات بذلتها السلطات العليا للبلاد لدعم الفلاحين، عن طريق عدة آليات وبرامج، منها القروض الميسرة، العقار، الموارد المائية ومنح دعم الإنتاج والتخزين المحاصيل والتحويل.
ولقد أقر رئيس الجمهورية عدة تحفيزات للفلاحين خاصة منتجي الحبوب والبقول الجافة لتشجيع الإنتاج وتحقيق الأمن الغذائي للبلاد بسواعد محلية، حيث تمت إعادة النظر في سعر شراء البقول الجافة من الفلاحين ورفعه إلى 20 ألف دينار للقنطار بدل 15 ألف دينار للقنطار، كما تم – في وقت سابق – رفع سعر شراء القمح والشعير إلى 6000 دينار جزائري للقنطار بالنسبة للقمح الصلب، و5000 دينار للقنطار من القمح اللين، و3400 دينار للقنطار من الشعير.
الجزائر الغنية بالموارد الطبيعية والبشرية وذات أقاليم مناخية مختلفة وأنماط وأنظمة إنتاجية متعددة، فتحت الباب على مصراعيه للاستثمارات الكبرى في البنى التحتية من طرقات، وسكك حديدية، وصوامع التخزين، ومنشآت التبريد، وإنتاج الأسمدة، لتحسين أداء النظم الزراعية وضمان استدامتها، وتعزيز قدرتها على التكيف مع التغيرات العالمية.
وفي هذا الصدد، تم إطلاق برنامج واسع لرفع طاقات تخزين الحبوب إلى 9 مليون طن، بهدف تكوين مخزون استراتيجي أمني، وضبط طويل المدى، من أجل تغطية الاحتياجات الوطنية من القمح الصلب واللّين، يشمل بناء 350 مركزا جواريا للتخزين، و30 صومعة استراتيجية جديدة، و16 صومعة معدنية، موزعة عبر 52 ولاية.
السياسة الجزائرية الرامية إلى تحقيق الأمن الغذائي الذي يشكل واحدا من المحاور الرئيسية في برنامج رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، مكنت، في السنوات الأربع الأخيرة، من تحقيق “الاستقرار الغذائي” وفق مختصين، كما صنفت تقارير أممية الجزائر ضمن البلدان المتقدمة التي تقل فيها نسبة الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية عن 2.5 بالمائة من العدد الإجمالي للسكان، وتساهم الجزائر كعضو في المنظومة الدولية بقدر هام في محاربة كافة أشكال الفقر وسوء التغذية من خلال السياسات الفلاحية والريفية التي تنتهجها، حرصا على تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة لعام 2030.
عضو اتحاد المهندسين الزراعيين عبد المجيد صغيري: الجزائر المنتصرة آمنة في قوّتها
أكد عضو المكتب التنفيذي لاتحاد المهندسين الزراعيين، عبد المجيد صغيري، أن الجزائر تشهد في السنوات الأخير، تركيزا غير مسبوق على قطاع الفلاحة للحد من التبعية للأسواق الدولية وضمان الأمن الغذائي للبلاد، معتبرا الفلاحة “قطاعا استراتيجيا وسياديا” مثلما وصفه رئيس الجمهورية.
وثمن صغيري، في تصريح لـ«الشعب”، المجهودات التي تبذلها السلطات العمومية لتحقيق الأمن الغذائي للبلاد، وقال “إنه هدف لا رجعة فيه”، مشيرا إلى سنّ عدة إجراءات وقوانين تصبّ في هذا الاتجاه، بينها استحداث الديوان الوطني للزراعة الصحراوية ليسمح بالحصول على أراض شاسعة لمستثمرين وفق أجندة محددة ودفتر شروط متعارف عليه، إضافة إلى وضع خارطة أو مخطط زراعي محدّد، ولقد ساهم الديوان الوطني للأراضي الفلاحية المستحدث – يقول محدثنا – في حصول كثير من المستثمرين على أراض فلاحية بمساحات معتبرة للاستثمار في القطاع الفلاحي، موضحا أن هذه الجهود كلها تضمن تطهير العقار الفلاحي، وتوسيع المساحات المزروعة، خاصة وأن الهدف المسطر على مستوى الجنوب يقدر بأكثر من نصف مليون هكتار، وهو قرار سيادي وشجاع يسمح برفع الإنتاج والمردودية.
وذكر صغير أن السلطات العمومية حدّدت، لهذا العام، هدف تحقيق الأمن الغذائي في القمح الصلب، وهو ما يتحقق للذرة والشعير عام 2026، وقد تم تخصيص مساحة زراعة تقدر بأكثر من 3 ملايين هكتار، لبلوغ هذا الهدف، وخصص 1.6 مليون هكتار لزراعة القمح الصلب على أن يكون مردود الهكتار بـ30 قنطار في الهكتار، ما يسمح بتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب العام المقبل.. “هذه أهداف دقيقة تم توفير ما تقتضي من إمكانات” يقول صغيري.
وعدد صغيري مجموعة من عوامل الإنتاج التي تسمح بتحقيق هذه الأهداف، منها توفير المياه، البذور والمدخلات في وقتها وبالنوعية والأصناف المرجوة والمطلوبة، توسيع استخدام المكننة الحديثة، وأشار – في السياق – إلى صدور مرسوم تنفيذي يسمح بجمركة واستيراد العتاد الفلاحي الأقل من سبع سنوات، حتى يتم الرفع من الانتاجية والمردود.
وأوضح محدثنا أن استعمال العتاد المختص سيسمح باستغلال أمثل للأرض، وربح الوقت وخفض التكاليف ورفع المردود، مشيرا إلى أن هذه الإجراءات التحفيزية بحاجة إلى دعم أكبر بالجنوب، والهضاب العليا المعروفة بزراعة الحبوب، خاصة في المحيطات المسقية حتى يكون هناك تكاملا بين كل المناطق.
ويرى المهندس الزراعي، صغيري، أن تشجيع الزراعات الاستراتيجية كالحبوب والذرة، الزراعات التحويلية الزيتية، سيسمح ببلوغ الاكتفاء الذاتي في ظرف زمني وجيز، قد لا يتجاوز عام 2030، لأن الإمكانات متوفرة والإرادة السياسية موجودة – يقول صغيري – إضافة إلى توفر المعرفة التقنية، حيث تجند المهندسون الزراعيون ومختلف الكفاءات العلمية في الميدان، وكذا اليد العاملة التي تكونت وفق سياسة منتهجة من قبل وزارة التنمية الريفية بمرافقة الشركاء الاجتماعيين ومن بينهم اتحاد المهندسين الزراعيين.
وعدد صغيري مزايا التوجه إلى الاستثمار الخارجي، كالشراكة الجزائرية-القطرية في ولاية أدرار، والشراكة مع إيطاليا في ولاية تيميمون، وشراكة أخرى مع تركيا والهند، وقال: “هذه الشراكات ستساهم في نقل التكنولوجيا، وفي تكوين إطارات بالمجال الفلاحي بالتقنيات الحديثة، خاصة تقنيات الذكاء الاصطناعي والزراعة الدقيقة التي تنتهجها كثير من الدول، وحققت مردودا كبيرا ونتائج مبهرة، وبالتالي – يقول المتحدث – نقل التكنولوجيا ورسكلة الاطارات الجزائرية، وحتى المستثمرين الفلاحيين، ومنح المستثمر أسباب اكتساب الكفاءة التي تمكنه من رفع المردود إلى نسب عالية”.
وتساهم هذه الشراكات في تشجيع الاستثمارات في شعب فلاحية مطلوبة بكثرة، كشعبة الحليب، الأعلاف، الصناعة التحويلية، (إنتاج مسحوق الحليب، الزيوت) وهذا مهم جدا – يؤكد المتحدث – ويتيح تغطية الاحتياجات الوطنية في بداية الأمر بنسبة 50 بالمائة.
ولم يستبعد صغيري تحقيق هدف رفع قدرات التخزين الوطنية، وتوسيع شبكات التخزين، عن طريق إنجاز عدد معتبر من الصوامع والمخازن الخاصة بتخزين الحبوب لتكون مواكبة للتطورات والمردود المنتظر، وقال: “بلوغ 9 مليون طن ممكن تحقيقه قبل 2030 بالنظر الى المجهودات المبذولة والإمكانات المتوفرة”.
وأكد عضو اتحاد المهندسين الزراعيين، أن توفير المواد الغذائية المنتجة محليا بنسبة 100 بالمائة للمستهلك الجزائري، يمكن تحقيقه بفضل تضافر كل الجهود وهيكلة المستثمرين والفلاحين، في تعاونيات فلاحية تهتم بالإنتاج فقط، مع وجود سلسلة تسويق مباشرة إلى المستهلك، خاصة وأننا حققنا الاكتفاء الذاتي في بعض الزراعات الاستراتيجية، لكن كثرة الوسطاء كان لهم تأثيرهم على الوفرة والأسعار، لهذا نحتاج إلى تنظيم السوق، وهيكلة الفلاح أو المستثمر الفلاحي في أقرب الآجال، حتى يهتم كل طرف بمجاله، وتتحقق نهضة القطاع الفلاحي في أقرب الآجال.
وأشار صغيري إلى مجموعة من الاقتراحات رفعها اتحاد المهندسين الزراعيين إلى رئيس الجمهورية، لإدماج المهندس الزراعي المختص في الاستثمار وتسهيل عملية حصوله على العقار الفلاحي للاستثمار بالتقنيات الحديثة، بما أنه متخصص في مجال الفلاحي.
ومن بين القرارات المتخذة في 2024 لصالح القطاع الفلاحي التي وصفها صغيري بـ«المهمة” إعادة هيكلة المستثمرات أو المزارع النموذجية وجعلها وحدات انتاجية فلاحية مختصة، محصيا وجود أكثر من 174 مزرعة نموذجية، تم هيكلتها لضمان استمرارية الإنتاج وتحسين المردود، وكذلك إنشاء بنك البذور للحفاظ على الموروث الفلاحي للجزائر.
وقال: “ما يثلج الصدر أن الجزائر لم تعد تستورد البذور من الخارج، خاصة بذور الحبوب، بالنظر إلى تحقيقنا الاكتفاء الذاتي في هذا النوع من البذور بفضل المجهودات المبذولة”، كذلك توفير بذور البطاطا، والعمل على توفير البقوليات الجافة، وبذور الزراعات الزيتية وكذلك الطماطم الصناعية” وأشار محدثنا إلى أن الرهان المستقبلي سيكون حول البذور، والجزائر تستطيع رفع هذا الرهان بالنظر إلى الإمكانات التي تتوفر عليها.
الباحث في الأمن الغذائي رشيد عنان: الإنجازات تعكس قرار تعزيز السيادة الغذائية
يعتبر الأمن الغذائي أحد المحاور الرئيسية للأمن القومي في الجزائر، حيث شهد تطورا ملحوظا منذ تولي الرئيس عبد المجيد تبون سدة الحكم، في ظل أزمات عالمية عاصفة، أرخت بظلالها على اقتصاديات الدول..
ولقد وضع الرئيس عبد المجيد تبون ملف الأمن الغذائي على رأس أولويات برنامجه، وركز على تحقيق الاكتفاء الذاتي وتعزيز القدرات المحلية في الإنتاج الزراعي والصيد البحري، وشمل ذلك – بحسب الدكتور عنان رشيد- إصلاحات هيكلية عميقة، مثل رقمنة نظام منح الأراضي، دعم الفلاحين، وتطوير الشراكات الدولية في المجال الزراعي، وأوضح أن هذه الجهود انعكست على مساهمة قطاعي الفلاحة والصيد البحري في الاقتصاد الوطني، حيث شهدت ارتفاعا يمثل خطوة غير مسبوقة إلى تحقيق السيادة الغذائية المستدامة.
رؤية استراتيجية..
ويرى الباحث عنان رشيد، أن الأمن الغذائي يمثل ركيزة من الركائز الأساسية لضمان استقرار البلاد وتحقيق تنميتها المستدامة، خاصة في ظل التحوّلات العالمية الأخيرة والأزمات المتلاحقة، ما اقتضى وضع رؤية استراتيجية طموحة أطلقها الرئيس عبد المجيد تبون، شملت تفعيل برامج جديدة تهدف إلى تعزيز الإنتاج المحلي، تحديث البنية التحتية، واستغلال الفرص الاستثمارية الدولية.
وعدد الدكتور عنان أبرز الإنجازات التي حققتها الجزائر خلال السنوات الأخيرة على صعيد الأمن الغذائي، ودور هذه السياسات في بناء مستقبل غذائي مستدام وآمن، لافتا إلى التطورات الملموسة التي شهدتها الجزائر في المجال بالاستناد إلى رؤية استراتيجية شاملة، كانت بدايتها من إعداد الكتاب الأبيض للأمن الغذائي الذي يمثل مرجعا شاملا للسياسات العمومية في مجالات الفلاحة والصيد البحري، وقد تم إعداده بمشاركة خبراء جزائريين دوليين عام 2020، في خطوة محورية نحو تحديد الأولويات الوطنية وتعزيز البحث والابتكار في هذا المجال، زيادة إلى إعادة هيكلة قطاع الفلاحة والصيد البحري وفصلهما، ليصبح الثاني قطاعاً مستقلاً، ما ساهم في تعزيز تربية المائيات وإطلاق مشاريع جديدة تهدف إلى رفع إنتاج الثروة السمكية وتطوير هذا القطاع الاستراتيجي.
اجراءات جادّة وجريئة
وتحدث الدكتور عنان عن إصلاح نظام منح الأراضي الفلاحية ورقمنته، كواحد من الانجازات المحققة، من خلال توفير آلاف الهكتارات للاستثمار الفلاحي في الجنوب الجزائري، وإلغاء الامتيازات غير المستغلة، إلى جانب إنشاء “ديوان تطوير الزراعات الصناعية في الأراضي الصحراوية” الذي يوفر شباكاً وحيداً لتسهيل العمليات الإدارية وتقييم ملفات المرشحين، دون أن يغفل استمرار الإنتاج الفلاحي على الرغم من تداعيات الجائحة الصحية العالمية، حيث حافظت الجزائر على استقرار الإنتاج الزراعي وسلاسل الإمداد، بفضل التدابير المبكرة التي اتخذتها الدولة لضمان استمرارية الأنشطة الفلاحية وتوفير المنتجات الأساسية في الأسواق.
ويقول الباحث إن “الجزائر اتخذت إجراءات جادة وجريئة، تشجع على استمرار العطاء في القطاع الفلاحي، بتعويض خسائر الفلاحين والصيادين المتضررين من الكوارث الطبيعية، بما في ذلك الحرائق والفيضانات وسوء الأحوال الجوية، ما ساهم في استقرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لهذه الفئات، فضلا عن توجهها إلى تعزيز القدرات التخزينية وتطوير البنية التحتية، بإطلاق مشاريع كبرى لتعزيز قدرات تخزين الحبوب واسترجاع المزارع النموذجية، بالإضافة إلى إعادة إحياء مشروع “السد الأخضر” لتحسين استدامة الموارد المائية والزراعية.”
تحقق التزام تعزيز السيادة الغذائية
وقال الدكتور عنان إن الإنجازات المحققة بين 2020-2024، تعكس التزام الجزائر بتحقيق الأمن الغذائي الوطني وتعزيز سيادتها الغذائية، من خلال خطوات عملية وشراكات دولية تهدف إلى بناء مستقبل مستدام ومزدهر، على غرار مضي الجزائر نحو توسيع التعاون الدولي في الزراعة، بإطلاق شراكات استراتيجية مع دول مثل قطر وإيطاليا لتعزيز الإنتاج الزراعي، بما في ذلك مشاريع إنتاج الحليب والحبوب، ما يدعم الأمن الغذائي المحلي ويخفف من الاعتماد على الاستيراد، كما شهدت الجزائر زيادات ملحوظة في الأجور لدعم القدرة الشرائية للمواطنين، مما ساهم في تمكين فئات واسعة من الوصول إلى حصص غذائية متوازنة، في مواجهة التضخم وارتفاع أسعار المواد الغذائية.
رهانات مرفوعة..
وتحدث الباحث في تقييم السياسات العمومية في مجال الأمن الغذائي، عن تحديات تواجه الجزائر في سبيل تحقيق سيادتها الغذائية، على غرار تزايد الطلب على الغذاء بتزايد عدد السكان، إضافة إلى التغير المناخي المتوقع أن يزيد عن مستواه بحلول 2050 والذي سيؤثر سلبًا على إنتاج القمح ومصادر المياه، مشيرا أن الفلاحة تواجه ضغوطا متزايدة، مما يتطلب الموازنة بين توفير المياه للري الزراعي والاستهلاك المنزلي، إضافة إلى التهديدات التي تواجهها الأراضي الزراعية مثل التصحر، تدهور الخصوبة، وارتفاع تكلفة الإنتاج في المناطق الجنوبية، فضلا عن عدم استقرار السياسات الزراعية والمشاكل المرتبطة بالتسويق والتوازن بين العرض والطلب، التي تزيد من تعقيد المشهد الغذائي، علما أن رئيس الجمهورية حرك مشاريع كبرى في برنامجه لتفادي هذه الضغوط، سواء بضمان الأمن المائي من خلال محطات التحلية التي تسهم إسهاما كبيرا في توفير الماء الشروب، أو من خلال إعادة بعث مشروع “السدّ الأخضر” الذي يمثل حصانة بيئية رفيعة، وغير ذلك من المشاريع..
الدمج بين الحلول العلمية والاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية
ودعا الباحث رشيد عنان، إلى رؤية شاملة تدمج الحلول العلمية مع الإصلاحات الاجتماعية، والسياسات الزراعية والاقتصادية، من أجل تحقيق الانتقال إلى مفهوم “السيادة الغذائية” عبر إنجاز استراتيجية وطنية تمتد إلى غاية 2062، تزامناً مع مائوية استقلال الجزائر، مشددا على ضرورة حل مشاكل الأراضي الزراعية وتوجيه الجزائريين نحو أنماط غذائية صحية تعتمد على المواد المحلية غير المكلفة، ودعا إلى تعزيز وتسريع عمل بنك البذور الوطني للحفاظ على التنوع الوراثي والمحلي، والاهتمام بزيادة الإنتاج عبر وسائل صديقة للبيئة واستخدام أقل للمياه، مع دعم البحث والتطوير في مجال الأمن الغذائي عبر تمويل كافٍ وإعطاء أولوية وطنية للابتكار.
ويرى الدكتور عنان ضرورة إشراك القطاع الخاص في مراقبة الجودة وتعزيز الأمن الحيوي، مع تطوير قطاع الغابات ليصبح محوراً اقتصادياً مهماً من خلال الزراعة الجبلية والأعشاب الطبية، ودعم الصيد البحري والاقتصاد البحري، وتعزيز الاستثمار في تربية الأحياء المائية واقتصاد البحر، إلى جانب تنويع مصادر دخل الفلاحين والصيادين، بتوفير مصادر دخل متعددة وتنويع النشاطات للفلاحين والصيادين مع تحسين نظام الضمان الاجتماعي الخاص بهم، فضلا عن تطوير الأقطاب الفلاحية بناءً على الخصوصيات الجغرافية لكل منطقة، ومحاربة التصحر وتسريع استصلاح الأراضي.
تغيير النمط الغذائي
ويعتقد الباحث أن تغيير النمط الغذائي الجزائري واحد من التحديات التي تواجه الأمن الغذائي، ويستوجب إعداد دراسات لإعادة نمط التغذية التقليدي الذي تعرض للتغيير خلال الاستعمار، مثل الاعتماد الكبير على القمح اللين والزيوت الصناعية التي تؤدي إلى أمراض العصر، مع ضرورة استغلال التجارب والصدمات السابقة، مثل جائحة كورونا، لوضع استراتيجيات طويلة المدى لإدارة الأمن الغذائي.
وثمن المتحدث دعم الشباب وتشجيعهم على العمل الزراعي، بالإضافة إلى التركيز على الأنظمة الزراعية المستدامة مثل الأكوابونيك، الذي يُظهر توجهاً نحو تطوير قطاع زراعي أكثر إنتاجية واستدامة، وتحويل الدعم إلى دعم مباشر لمكافحة التبذير وتحسين استهلاك الموارد، إلى جانب التركيز على المنتجات الصحية، من أجل توجيه الاستهلاك، مؤكدا أن خطط تحقيق الأمن الغذائي، تحظى بإرادة سياسية قوية، موارد كافية، وتنسيق محكم بين مختلف القطاعات لضمان تحقيق الأهداف.