تتجه الجزائر والاتحاد الأوروبي، نحو مرحلة جديدة في علاقتهما، تأخذ بعين الاعتبار الحقائق الاقتصادية الراهنة والمصالح التجارية المتبادلة، وتبدأ بمراجعة اتفاق الشراكة، مطلع السنة المقبلة، وتعميق التعاون الاستراتيجي في الطاقة والقضايا الجيوسياسية.
بات واضحا انقشاع السحابة التي عبَرت أجواء العلاقات الجزائرية- الأوروبية، خلال السنوات الأربع الماضية، أين أكدت الجزائر وبشكل حازم، رغبتها في مراجعة اتفاق الشراكة الموقع سنة 2002 والذي دخل حيز التنفيذ سنة 2005.
وقبل حوالي سنة، كان تقييم علاقة الجزائر بالاتحاد الأوروبي على أنها «ليست على ما يرام»، لكن الطرفين استطاعا تحقيق تقدم لافت، عن طريق الحوار حول المسائل الأولوية، وعلى رأسها «إقامة شراكة متوازنة ونافعة»، مثلما قال وزير الخارجية أحمد عطاف، قبل أسبوعين، أين أكد أن «التعاون بين الجانبين ينبغي أن يتجاوز منطق الربح الفوري ليأخذ بعدا استراتيجيا».
وخلص تقييم الجزائر للاتفاق، إلى كونها الطرف الخاسر، بتكلفة فاقت 25 مليار دولار، جراء الإعفاءات الجمركية على السلع الأوروبية، بينما لا تجد السلع الجزائرية طريقها إلى السوق الأوروبية.
اختلال منطق التجارة لدى الاتحاد الأوروبي اصطدم منذ 2020 بإرادة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، في ترجيح الكفة، عن طريق حماية المنتوج الوطني في مرحلة أولى ورفض تحول السوق الجزائرية إلى فضاء خاص للسلع الأوروبية على حساب مقدرات البلاد من العملة الصعبة دون عائد اقتصادي واضح للبلاد.
وأمام هذا الطرح السيادي الذي أقره الرئيس تبون، جنح الاتحاد الأوروبي أخيرا إلى الحوار، وبدأ في مراعاة حقائق الاقتصادي الجزائري التي تختلف كليا عما كان عليه الحال في 2002 أو 2005.
وتجلى ذلك في تصريح سفير الاتحاد الأوروبي الجديد لدى الجزائر، دييغو ميادو باسكوا، عقب تسليمه أوراق اعتماده، الاثنين، لرئيس الجمهورية، حيث تكلم لغة تتوافق مع ما تريده الجزائر بالضبط، عندما قال: «نرغب في التبادل التجاري والاستثمارات وتنويع الاقتصاد».
سفير المجموعة الأوروبية، أكد الشروع في مراجعة اتفاق الشراكة، ابتداء من السنة المقبلة، مثلما سبق وأعلن الرئيس تبون في آخر لقاء دوري له مع الصحافة، وأكد السهر على «أن يكون اقتصادا الجزائر والاتحاد الأوروبي متكاملين».
السعي من أجل تكامل الاقتصادين يعتبر، برأي مختصين، خطوة هامة نحو تغيير النظرة إلى الجزائر، فبعدما كانت تعتبر سوقا حصريا يقتطع منها ما يناهز 50 مليار دولار سنويا، ناهيك عن تضخيم الفواتير، ها هي تأخذ مكانتها الحقيقية كشريك استراتيجي، فرضته الجغرافيا السياسية (حوض المتوسط)، والوزن الإقليمي له في منطقة شمال إفريقيا والساحل الإفريقي، وقدراته الطاقوية الهائلة.
وتعتبر الجزائر ثاني مورد للغاز عبر الأنابيب نحو أوروبا، حسب تقرير منتدى الدول المصدرة للغاز، بعد النرويج، إذ تسيطر على حصة قدرها 19٪ ومعدل تسويق شهري قدره 2.41 مليار دولار.
ومن موقعها كشريك استراتيجي يتيح للمجموعة الأوروبية ضمان أمنها الطاقوي، يعرف مشروع ربط أوروبا بشبكة الكهرباء الجزائرية والهيدروجين الأخضر، تقدما كبيرا، حيث تم توقيع مذكرات تفاهم لإنجاز الدراسات اللازمة لإنجازه.
في السياق، أشاد سفير الاتحاد الأوروبي الجديد بالجزائر، التي «تعتبر القوة الإقليمية وهي مركز العلاقات مع دول إفريقيا ومنطقة الساحل، رغم الصعوبات الموجودات».
ويقود هذا الجانب إلى قضايا الأمن والهجرة غير الشرعية، حيث يعتبر صون الجزائر لحدودها الوطنية أمام الإرهاب والهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر والمخدرات بمختلف أنواعها، مساهمة حيوية في استقرار المنطقة، وبالتالي استفادة الدول الجنوبية للاتحاد الأوروبي من الوضع.
جدية الجزائر وقوتها الدبلوماسية، تجعل منها دولة لا يتأذى من جهتها أي طرف، فلم تلوح يوما باستخدام الهجرة أو الأمن في إدارة علاقتها مع مختلف الدول حتى في أسوإ حالاتها، في وقت تقوم بعض الدول بلعب كل الأوراق غير الدبلوماسية حتى لو تعلق بالأمر بهجرة القصّر وتعريض حياتهم للخطر، بحثا عن مكاسب سياسية.
صديق وشريك
رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، ولدى إعلانه، قبل أسبوعين، عن مراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ابتداء من 2025، أوضح أن التوافق حول هذا المسار الجديد «تم بسلاسة وكل صداقة».
وقال بصريح العبارة، «نحن لسنا في نزاع مع أوروبا، وعلاقاتنا عادية». موضحا أن اتفاق الشراكة والتبادل التجاري الحر، «تم في جزائر أخرى، كانت فيها مساهمة الصناعة في الناتج الداخلي الخام لا تتجاوز 3٪».
ولا شك أن الجانب الأوروبي استفاد من هذا الوضع لما يفوق 15 سنة، ولا ينبغي أن يستمر، في ظل توجه الجزائر نحو تنويع اقتصادها وبناء شبكة نسيج صناعي في كل المجالات، مع فتح الأبواب على مصراعيها للاستثمار الوطني والأجنبي.
وفي وقت كان الاتحاد الأوروبي يمنح الأفضلية لاستيراد المواد الفلاحية من بلدان مجاورة، حققت الجزائر ثورة فلاحية بإنتاج فاقت قيمته 25 مليار دولار، وبنوعية رائدة صارت مطلوبة بقوة في رفوف المحلات الأوروبية، في الأشهر الأخيرة.
وعلى هذا الأساس، يؤكد الرئيس تبون، على أن «الأمور تغيرت كثيرا، وأصبح للجزائر إنتاجها»، ما يعني أن ما تنتجه يمكن أن يغنيها عن الاستيراد أو يسمح لها بالضرورة بدخول الأسواق الأوروبية في إطار مبدإ «التبادل الحر».
وأشار رئيس الجمهورية، إلى أن الجزائر تتبنى طرحا بناءً، إذا لا تعارض بحث صيغة توازن بين الصادرات الجزائرية من الطاقة باتجاه أوروبا وصادرات هذه الأخيرة نحوها، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب السوق الجزائرية باعتبارها فضاء حصريا، عطل لسنوات طويلة إطلاق إنتاج وطني حقيقي.