يسافر بنا المجاهد والأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين، حمزة العوفي، عبر ذكريات الثورة التحريرية المجيدة، بمنطقة بني صالح بالطارف القاعدة الشرقية.
يعود المجاهد العوفي، إلى الأيام التي كان جنديا على جبهات القتال ضد الاستعمار الفرنسي، كي يسرد لـ “الشعب” – بمناسبة سبعينية الثورة المباركة – وقائع المعارك التي شارك فيها، ويومياته، وعلاقته مع مسؤوليه. المجاهد العوفي استقبلنا بسعة صدره، فكان هذا الحوار..إليكموه.
ونحن نحتفل بسبعينية ثورة التحرير المباركة، اسمحوا لنا أن نقتبس من ذكرياتكم عن الكفاح، لنبدأ من زاوية الشيخ مسعود طلعي..حدّثونا عن الأجواء وقتها؟.
المجاهد حمزة العوفي: ثورة التحرير مناسبة عظيمة وعزيزة علينا كمجاهدين. بداية، درست في الكتاتيب القرآنية في منطقة بني صالح بولاية الطارف، أي القاعدة الشرقية، بعدها انتقلت على بعد 15 كلم إلى مدرسة قرآنية أخرى، حفظت جزءا من القرآن الكريم، وكنت أدرس في مدرسة اللغة العربية صباحا والمدرسة الفرنسية مساءً، لمدة ثلاث سنوات فقط.
طردني المعلّم الفرنسي من المدرسة الفرنسية بحجة أنّني بلغت 12 سنة، على أساس أن هذه السن لا تسمح بمواصلة الدراسة، وعندما توقفت عن دراسة اللغة الفرنسية، طلبت من والدي الذهاب للتعلم في زاوية الشيخ مسعود طلعي، فاتّصل ببعض الأشخاص الذين يقصدون هذه الزاوية ووافقوا على طلب والدي، كانت هذه الزاوية – كبقية الزوايا المنتشرة عبر التراب الوطني – تقدّم تسهيلات لأي طالب يريد التعلم.
كنّا ندرس العلوم، والحساب، ولا نكتفي بحفظ القرآن الكريم. مكثت بزاوية الشيخ مسعود طلعي أربع سنوات، والحمد لله تمكنت من حفظ القرآن كله. في تلك الفترة، كنا نسمع أخبارا عن بداية الثورة في مناطق عديدة، وعلى رأسها منطقة الأوراس، ونسمع عن قادة الثورة مثل الشهيد باجي مختار، أحد أعضاء مجموعة 22.
.لكن، تأخّرت الثورة بيومين بالقاعدة الشرقية وخاصة بسوق أهراس بسبب إلقاء القبض على الشهيد باجي مختار الذي كان متوجها نحو عنابة لإحضار الوثائق الخاصة بالثورة ومراسلات القادة، بقي مدة يومين على مستوى مركز الشرطة، وهذا سبب تأخرنا عن الالتحاق بالثورة.
الزاوية التي كنت أدرس بها كل تلاميذها وشيوخها وطنيين، بداية بالشيخ مسعود طلعي الذي كان مسنّا وأولاده وأبناء عمومته. كلهم كانوا حافظين للقرآن عارفين بالفقه، ومناضلين أيضا منهم صادق طلعي وقريشي طلعي، وكانوا منخرطين في حزب الشعب الجزائري، شكلوا خلية للنضال السياسي بالمنطقة، طلبتُ من صديقي صادق رفاس مساعدتي للالتحاق بخلية حزب الشعب بالمنطقة، لكن مسؤول الحزب رفض بسبب صغر سني، وكانوا يخشون أن لا أحفظ أسرار الثورة في حال ألقي القبض عليّ وتعرضت للتعذيب.
كان لي صديق من منطقة أولاد بشيح بسوق أهراس يدرس معي بالزاوية، بنية جسده ضخمة توحي بأنه شاب يافع في العشرينيات، وكان دائما يخبرني بما يجرى في اجتماعات المسؤولين، وحديثهم عن النضال.. بلغتنا أخبارا عن معركة شارك فيها باجي مختار بتاريخ 18 نوفمبر 1954، واستشهد فيها مع رفقائه، ولم ينج سوى عبد الله نواورية الذي كان حارسا ينقل أخبار العدو للمجاهدين، وحسب شهادته فإنه أخبر المجاهدين بأن هناك عساكر فرنسيين نزلوا بالمنطقة، لكن لم تكن له سلطة إجبارهم على الانسحاب، وهذا ما مكّن العدو من الاشتباك معهم.
اندلعت المعركة على الساعة العاشرة صباحا، واستمرت إلى غاية الرابعة مساء، هذه العملية سمع عنها المجاهدون في الجزائر كلها؛ لأن إدارة الاحتلال الفرنسي نشرت أخبارها بالجرائد وقامت بالدعاية لها من أجل تثبيط عزيمة الجزائريين، ووصفت الجرائد الاستعمارية المجاهدين بأنهم “خارجون عن القانون”، “فلاقة”، “متمردون”، “مجرمون”، “قطّاع طرق” و«إرهابيون”، وكانت تدّعي أنها قضت على الثوار بسوق أهراس، وستجنّد وسائل عسكرية للقضاء على من تبقوا بالمنطقة.
هذه المعركة خلقت ضجة كبيرة في أوساط الشعب، فسمع الجميع بأن هناك ثورة ومجاهدون حملوا السلاح ضد فرنسا، كنا تقريبا أربعين تلميذا يدرسون بالزاوية، وعند سماعنا بالمجاهدين كانت فرحتنا لا توصف، ورغبنا في رؤيتهم لمعرفة أوصافهم ولباسهم وسلاحهم وحديثهم وطريقة مشيهم.
بلغت أخبار المعركة بكل تفاصيلها قائد الأوراس الشهيد مصطفى بن بولعيد، فأرسل مجموعة تتكون من ثمانية مناضلين ومسؤول يدعى أحمد الأوراسي، واسمه الحقيقي “تيميسرار” إلى زاوية الشيخ مسعود طلعي ببني صالح، حاملين قائمة بأسماء الأشخاص الوطنيين، منهم الإخوة الصادق طلعي وقريشي طلعي.
قضى مبعوثو بن بولعيد ليلة عند أحد المناضلين الوطنيين المنخرطين في حزب الشعب الجزائري، يدعى الهادي بلقلاتي، وأخبروه بأنهم متوجهين إلى زاوية الشيخ مسعود طلعي.
انتشر خبر قدوم المجاهدين إلى المنطقة، وفرحنا نحن الأطفال بذلك، وبقينا ننتظر قدومهم، توجه قريشي طلعي وصادق طلعي وأحمد طلعي لملاقاة المجاهدين، كان هذا في شهر رمضان من سنة 1955، كنا – ونحن في مقتبل العمر – نراقبهم عن بعد ليلا تحت ضوء خافت، حيث التقوا في بئر الزاز وتبادلوا مع بعضهم كلمة السر “خوك”، سلموا على بعضهم ودار بينهم حديث، فجأة انتبهوا إلى وجودنا فطلب منا الصادق طلعي الانصراف، وحذرنا من إفشاء ما شاهدناه، فعدنا أدراجنا.
كلّف صديقي بنقل الغذاء للمجاهدين بالجبل، فطلبت منه إخبار مسؤوله للسماح لي بالذهاب معه فسمح لي بذلك.
التحقتم بثورة التحرير الوطني في سنّ مبكّرة..هل لكم أن ترووا لنا رحلتكم في الالتحاق بصفوف الثوار؟
التحاقي بالثورة لم يكن سهلا، طرحت عليّ العديد من الأسئلة قبل تجنيدي في صفوف جيش التحرير الوطني للتأكد من مدى قدرتي على حفظ سرّ الثورة، وعلى الكفاح في الجبال الوعرة، كان أحمد الأوراسي والصادق طلعي يتناقشان حول إمكانية انضمامي للثورة.
طلب أحد المسؤولين الذي أرسله بن بولعيد من الصادق طلعي، اختيار شخص من منطقة أولاد بشيح لمرافقته، فدله على صديقي، هذا الأخير كان يعرف شخصا لديه بندقية و700 رصاصة، فرافق الصادق طلعي ومن معه وبقيت وحدي، طلبت من سي الصادق الذهاب معهم، أمعن النظر فيّ جيدا، وقال لي: “أنت في سن صغيرة ولا يمكنك تحمل مشقة الجبل”.
بعدها سأل المسؤول الوافد على منطقتنا الصادق طلعي، إن كان يعرف شخصا من منطقة بني صالح يرافقهم، فكنت أنا المرشّح لذلك، لكن هذا المسؤول رفضني، فقلت له بلهجة حادّة “لماذا تعتبرني صغير السن على القيام بهذه المهمة، إنّي معكم أين تذهبون، تنامون أنام، تهاجمون عساكر العدو أهاجم، تجوعون أجوع”.
فردّ علي قائلا: “يا بني الطريق ليست سهلة..نحن في كل ليلة نسير 50 كم، وأحيانا نبقى يومين بدون أكل”، فقلت له: “أنا معكم أتقاسم كل المخاطر والصعاب التي تتلقونها”؛ فأعجب بكلامي وحماسي، وطلب مني تحضير نفسي وإحضار قشابية لأن البرد قارس في الجبال ليلا.
ذهبت أنا وصديقي إلى الزاوية لإحضار القشابية والعودة سريعا كي لا يغادروا ويتركوني، وبالفعل عدنا ووجدناهم في انتظارنا، وانطلقنا مباشرة..سلموا لي مسدسا، وصديقي تسلم الذخيرة، كانوا ثلاثة مجاهدين مع قائدهم.
في بداية الثورة، لم تكن هناك تقسيمات للولايات منها القطاع، الناحية، المنطقة، في كل مرة نتواجد في منطقة ما حسب ظروف الحرب، كانت جبهة التحرير تجند الأشخاص الذين اكتشف العدو نضالهم لأنهم أكثر ثقة. بعد 1955، العمليات كانت مقتصرة على منطقة الأوراس، بتنظيم معركة الجرف الشهيرة التي دامت أياما، لكن في منطقتنا كان عددنا قليلا، والشعب هو الذي كان يساعد المجاهدين في تخريب ممتلكات المستوطنين بحرق مزارعهم وأعمدة الكهرباء وخيوط الهاتف وتدمير الجسور، كان عملنا في بداية الثورة التخريب.
كنا ننتقل نحو العروش والقرى بسوق أهراس والمناطق المحاذية لتوعية الشعب، وتنصيب مسؤول لتوعية سكان المنطقة بتلك الدواوير والمشاتي، وعندما تكون القرية كبيرة نعين مسؤولين اثنين للقيام بالمهمة، عشنا وسط الشعب الذي وفر لنا الأكل والمبيت، ونقل لنا الأخبار عن مرور عساكر العدو. في سبتمبر 1955 جاء الأمر بالتجنيد، فالتحق أغلب الجنود بمناطق القاعدة الشرقية في هذا التاريخ.
جيـش التّحرير الوطني محترف وجنوده تجمعهم الأخوّة
حدّثونا عن التّنظيم العسكري بالقاعدة الشّرقية؟
بعد مؤتمر وادي الصومام 20 أوت 1956، تطوّرت الثورة في ميدان التسليح والتنظيم العسكري، حيث قسمت الولايات إلى مناطق، ووضعت التسميات والرتب العسكرية.
قيادتنا كانت تفكر تفكير عباقرة، وكأنّهم تخرّجوا من المدارس العسكرية الكبرى، في حالة غياب رئيس المجموعة أو الفرقة يكلف النائب العسكري بالتسيير، وعند غياب العسكري في مهمة يعوّضه السياسي، ثم وزعت علينا لتنظيم جيش التحرير، فأصبحنا نتحرك في منطقتنا على خلاف ما كان في السابق، حيث كنا ننتقل في كل المناطق، والقيادة هي التي تقرر إرسال مجموعة إلى منطقة أخرى أو شخص واحد إذا اقتضت الضرورة لذلك.
إذا مرّت فرقة من جنود الاحتلال بقرية ما، تصلنا أخبارهم حتى ولو كانوا بعيدين عنا، وهذا بفضل شخص نكلفه بالمهمة في إحدى القرى فينادي بصوت جوهري: “ياو عليكم المعيز في المكان الفلاني”، لتنبيه جنود جيش التحرير بوجود عساكر الاحتلال الفرنسي، وبالتالي لا نقترب من تلك المنطقة، وعندما كثر عدد جنود جيش التحرير بسبب انخراط العديد من الجزائريين، قسموا إلى أفواج وكان أحمد الأوراسي هو المسؤول.
كان التنظيم العسكري ثلاثيا على جميع المستويات من المجموعة فما فوق، هناك نائب عسكري وسياسي وإخباري، في الأول كنت في رتبة نائب إخباري ثم أصبحت سياسيا، وارتقيت إلى نائب مع صادق رفاس بحكم أننا أبناء المنطقة. كان المسؤول العسكري يعمل جاهدا على تفادي خسارة جنوده، ويحاول عدم إطلاق أي رصاصة حتى يصل إلى منطقته.
كنا ننظّم عمليات صغيرة، وكنا في البداية نضع صخورا على مستوى الطريق التي يمر منها العدو لنعرقل تقدمه، ونهاجمهم بكل أريحية، لكن اكتشفنا أن هذه الخطة كانت خطيرة، بسبب حادث وقع لنا فتخلينا عنها. كان الجبل بمنطقتنا عامرا بالأشجار التي كانت تساعدنا على التوغل بسهولة، ثم أصبحنا ننظم كمائن لمهاجمة العدو. في البداية أنشئت فرقة الصدمات التي تضم جنودا أقوياء جسديا وشجعان، يسيرون في كل المناطق مجهزين بالأسلحة، عندما تقع معركة في أي منطقة ترسل هذه الفرقة للدعم.
في 1956، وقعت معركة البطيحة التي شارك فيها أحمد بن سالم الذي كان برتبة قائد في الجيش الفرنسي ثم انضم للثورة بمساعدة أحد المجاهدين يدعى الهادي، الذي التقى به في مستشفى سوق أهراس أين كان يعالج، واتصل بمسؤولي جبهة التحرير؛ لأن بن سالم أبدى رغبته في الالتحاق بجيش التحرير ولم يجد من يدله، فقد كان من الصعب الالتحاق بالثورة خوفا من أن يكون الشخص عميلا للعدو. أذكر أن حوالي 110 جنود جزائريين كانوا في الجيش الفرنسي التحقوا بالثورة، منهم يوسف الأطرش، أحمد بن سالم وعواشرية وهم كانوا مسؤولين في الجيش الفرنسي.
اتّفق لزهاري رئيس الفرقة، محمود قنز وعبد الله نواورية على سرقة الأسلحة والذخيرة بكمية كبيرة لصالح الثورة، وأحضروا البغال لنقلها، وأحرقوا الثكنة وقتلوا المدعو زرقيني، الذي كان يعمل في سلاح الإشارة لدى الجيش الفرنسي.
سمعت إدارة الاحتلال بالعملية، لكنها لم تتدخل في تلك الأثناء، وفي صباح اليوم الموالي حضر عساكر العدو مدججين بالأسلحة، ترافقهم الطائرات الحربية التي بدأت بقصف الجبال. أتعبتنا طائرات العدو التي كانت تضرب من الخلف، وفي القانون العسكري يجب أن يكون ظهرك محميا وإلا أنت في خطر.
القائد بن سالم ومن معه خاضوا معركة ضد الجيش الفرنسي استشهد فيها ثلاثون جنديا بالقرب من جبل ماونة، وقتلوا أكثر من 100 جندي فرنسي، حسب شهادة من بقوا أحياء، وعددهم حوالي سبعين جنديا جزائريا. هؤلاء انقسموا أثناء المعركة، جزء مع أحمد بن سالم في جبل أولاد بشيح، والجزء الآخر يشرف عليهم يوسف الأطرش نواحي جيجل، عندما وصل الى منطقة النبايل بسوق أهراس فكر في الالتحاق ببن سالم، ولم يتوجه إلى نواحي جيجل.
وأشير هنا إلى أن محمد لطرش أحضر ثلاثين قطعة سلاح، وأرسلها إلى سي امحمد بوقرة قائد الولاية الرابعة التاريخية. في تلك الفترة، جاءتنا مجموعة يقودها المجاهد الكبير الوردي قتال، وبعد استشهاد باجي مختار، قام مصطفى بن بولعيد بتكوين مجموعة من المناضلين وإرسالهم إلى منطقتنا، وأخبر المسؤولين أنه في حالة لم يعثروا على جنود، يجب تجنيد أشخاص من عامة الشعب، لأن الثورة تقتضي ذلك، وعليها أن تستمر وطلب منهم أخذ البنادق من الشعب.
المنطقة الوسطى لبني صالح أفرغت؛ لأن باجي مختار استشهد، وفي جنوب سوق اهراس والقالة يوجد جيش التحرير ومسؤولون كثر، منهم جبار أعمر وبن ضحوة، وفي القالة يوجد محمد الهادي عرعار، عمار بن زاودة، علاوة بشايرية، ومجموعة كبيرة.
في البداية – مثلما أخبرتكم – جاء أحمد الأوراسي وبعدها بشهر التحق الوردي قتال مرفوقا بجيشه، وكان معه رئيس الفرقة يدعى عمران.
هل تتذكّرون تفاصيل معارك شاركتم فيها؟
هناك معارك كنت فيها جنديا أرافق المجموعة، نشتبك أحيانا مع عساكر العدو، وفيما بعد وبالتحديد في 1956، كانت قيادة الثورة تنظم المعارك.
شاركت في معارك سنة 1958، وهناك معارك كنت فيها أنا القائد استشهد فيها مجاهدون، أذكر معارك في بني بشيح وفي بوحجار، حوالي سبع معارك أشرفت عليها وكل معركة خلّفت شهداء، فقط معركة جرح فيها مجاهد واحد.
كان القادة يطلبون منا التزود بالأكل والأخبار من عند الشعب، كنت أختار الجنود الشجعان القادرين على خوض المعارك، في الجبل لا نتكلم، الاتصال يكون بالإشارة فقط، والأشخاص الذين يحسنون القراءة والكتابة يرسلون إلى الخارج، وهذا من عبقرية قيادتنا الثورية التي كانت تفكر في تكوين إطارات لما بعد الاستقلال.
عند اختطاف الطائرة التي كان على متنها الزعماء الخمسة، كنّا آنذاك في ليبيا لتحضير جواز السفر والسيارة التي تنقلنا إلى مصر، وجدت الصادق رفاسي يبكي سألته عن السبب، فرد بأن بن بلة ومن معه ألقي عليهم القبض، فقلت له: “عندما كنا في سوق اهراس، هل كان معنا بن بلة، الثورة ستستمر بهم أو بدونهم”.
أرسلت من طرف قيادة الثورة مع مجموعة من رفقائي إلى القاهرة للدراسة في 1956، وكان معي الصادق رفاس، حمة لولو وبدر الدين بخوش، كنا تقريبا 12 مجاهدا، ولكن من سوء الحظ لم نبق مطولا بالقاهرة، وحدث العدوان الثلاثي على مصر، حيث أغلقت كل المدارس والمعاهد الحربية بمصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق. بعد غلق المدارس طلبنا من المسؤولين بجبهة التحرير الوطني بمكتب القاهرة العودة إلى الجزائر لمواصلة الكفاح ضد العدو، لأن الدراسة بالقاهرة توقفت.
عندما طلبنا العودة، جاءنا أحد المسؤولين يدعى أحمد سعدون ينحدر من منطقة مستغانم للاستفسار، فوجدنا مصرين على قرار المغادرة، فأخذونا الى فيلا بالقاهرة كانت تابعة لجبهة التحرير، وأحضروا لنا معلما مصريا ليدربنا على كيفية استخدام القنابل والتصويب بمختلف أنواع الأسلحة، لمدة عشرة أيام، لكنه اكتشف أننا مدربي، على استعمال الأسلحة؛ لأننا كنا ثوارا في الجبال نجابه جيش العدو. طلبنا منه عدم العودة، فاشتكى لأحمد بن سعدون الذي اجتمع بنا، وكان حينها العدوان الثلاثي على مصر قد انطلق ببور سعيد، فاتفق المسؤول الجزائري مع المسؤولين المصريين على دمجنا مع الجيش المصري لصد العدوان.
قال للمصريين إنّ الجزائر في حرب ولا تملك جيشا ترسله لمساعدة أشقائها، ولهذا ترسل هذه المجموعة كرمز لمشاركة الجزائريين مع الجيوش العربية والمصرية في صد العدوان الثلاثي على مصر. جهّزنا أنفسنا وانضممنا إلى الجيش المصري، في البداية لم نعثر على بزة عسكرية على مقاسنا، عبّرنا عن استيائنا ثم أحضروا لنا لباسا عسكريا على مقاسنا، وتعاملوا معنا باحترام لأننا ثوريين جئنا لمساعدة إخواننا في مصر. شرعنا في التدرب معهم، وكان الصادق رفاس هو المسؤول وكان يقول لنا: “لا تخذلونا..أظهروا كفاءة الجزائريين، خاصة في الرمي والتصويب نحو الهدف الصحيح”.
أخبرناهم بأن بقاءنا مؤقت في مصر، ونفضل الذهاب إلى بور سعيد، وبعد استشارة مسؤوليهم جاءنا رجال أمن مصريين منهم المشير عبد الحكيم عامر، وطلب تحضير غذاء خاص لنا نحن الجزائريين، وشكرنا وقال لنا أنتم أبطال في الجزائر وجئتم لمساعدتنا، ولكن نفضل أن تبقوا في القاهرة للدفاع عنها وصد العدو، بحكم أننا نتقن حرب العصابات والشوارع.
منحت لنا رخصة الخروج يومي الاثنين والخميس، وطلب من المسؤولين المصريين بمعاملة الجزائري معاملة خاصة على خلاف جنود البلدان الأخرى، وفي حالة ضللنا الطريق عند تجولنا بالقاهرة نظهر الرخصة لأي شرطي يوصلنا إلى المكان الذي كنا فيه، وهذا بأمر من القيادة المصرية.
مكثنا أزيد من شهرين في الجيش المصري، بعدها طلب منا الاتصال بمكتب جبهة التحرير الوطني بالقاهرة، وطلب منّا تجهيز أنفسنا للعودة إلى الجزائر.
عدنا إلى الجبل مرة أخرى، سلّم أحمد الأوراسي المال المقدر بـ 500 فرنك فرنسي لبخوش بدر الدين لشراء السلاح من ليبيا، من مخلفات الحرب العالمية الثانية كلها كانت في منطقة العالمين ما بين مصر وليبيا.
قبل اندلاع الثورة كان الثوار يدخلون إلى ليبيا لشراء السلاح وتخزينه في الأوراس عند مصطفى بن بولعيد، وكان قادة الثورة يأخذون السلاح من عند الشعب، وتسلم لهم ورقة بالعلم الجزائري، ويخبرونهم بأنه بعد الاستقلال يعاد لهم السلاح، وفي حالة إتلافه في الثورة يسلم لهم سلاح جديد.
أتذكّر نائبا عسكريا من جنوب تونس، يسمى حمادي التونسي انضم للثورة بالقاعدة الشرقية، كان يملك شجاعة خارقة استشهد فيما بعد. في إحدى المرات اشتبكنا مع الجيش الفرنسي، وتلقينا أمرا من حمادي التونسي بالهجوم على العدو، حيث صاح “الله أكبر” وطلب منا التقدم فهجمنا فخاف جنود العدو وتراجعوا.
لأول مرة أشاهد العساكر الفرنسيين يهربون، كان هذا في سنة 1958، ومن قتل من جنود الاحتلال أخذنا منهم ساعات اليد واللباس والسلاح كغنائم، جردناهم من كل شيء ولم يجرح جندي جزائري واحد.
بعد إصابة حمادي التونسي واثنين آخرين، أصبحت أشرف على المجموعة، وواصلنا العملية للحصول على الأسلحة، والأسلحة التي تحصلنا عليها أخفيناها في مغارة بمنطقة سيدي عبد الله. كنا مشتبكين مع العساكر الفرنسيين وسمعت أحد المجاهدين يقول “ألقوا القنابل” التي كانت بحوزتنا فألقينا بها على العدو، فتوقف العساكر عن إطلاق الرصاص وهربوا. عندما كنا نجمع الأسلحة، وصلت عساكر العدو لمحاصرتنا فاشتبكنا معهم ثم انسحبنا بسرعة كي لا نفقد مزيدا من الجنود.
الأخوّة قادة الثّورة التّحريرية..نماذج إنسانية راقية وعبقريات فذّة
هل التقيتم بعض قادة الثّورة..مثلا الشّهيد مصطفى بن بولعيد..حدّثونا عنهم؟
لم ألتق الشّهيد مصطفى بن بولعيد، لكن القادة الآخرين التقيتهم منهم عمار بوقلاز، مؤسّس القاعدة الشرقية، كانوا قادة مثاليين يعطون المثال والقدوة الأولى للجيش في الحديث، في الأكل، في السلوكات، في المشي، في النوم، كانوا مجردين من الأنانية، ضربوا أروع الأمثلة في التضحية. عندما يأتي القائد لحضور الاجتماع، يصافح كل الجنود بأخوية دون استعلاء، ويطمئن على أحوالهم لرفع معنويات الجنود.
كيف كانت يوميات المجاهد في الجبل؟
عندما يكون لدينا وقت فراغ في الجبل نتدرّب، تعوّدنا على الجبال ونعرف موعد قدوم العساكر الفرنسيين، فقد أصبحت لدينا خبرة، نرسل جنديا لتفقد الطريق، إن عثر على لوازم العساكر الفرنسيين نعلم أنهم كانوا هناك.
صالح بوشقوف كان في الجيش الفرنسي وهو نائب صادق رفاس، قوي البنية الجسدية، يتقن الفرنسية، كان يكلف اثنين من أبناء المنطقة ويرسلهم لإطلاق النار على العساكر الفرنسيين ويهربون.
إذا كانت تعليمات جديدة من القيادة العليا يعقد اجتماع ويقدم لنا أوامر لتنفيذ عمليات خاصة بعد خط شال، تأتينا الأوامر من القالة حتى نقرين، نضرب في وقت واحد على 12 ليلا، وهذا بعد قدوم قيادة الأركان.
كان جيش التحرير محترفا، وقادتنا مثاليون، وكانت الأخوة راسخة، القائد يسلم علينا ويثني علينا لرفع معنوياتنا، وإذا كانت هناك أوامر يطلب منا القيام بالعمليات في الساعة والمكان المحددين للهجوم على المركز الفلاني، وفي خطاباتهم كان المسؤولون يقولون لنا “من يطلب المسؤولية خائن ومن يرفضها خائن”.
ماذا عن دور المرأة أثناء الثّورة؟
لا يمكنني وصف شجاعة المرأة أثناء الثورة، في منطقة بني صالح جاءتنا نساء فحلات صنديدات من عنابة يلبسن الزي العسكري ويحملن السلاح مثل الجنود الرجال، غير آبهات بالخطر. وطنية، انضباط، شجاعة كبيرة، إقدام على ساحات المعارك، منهن من كن يرفضن مغادرة الجبل. أتذكر بعض الفتيات اللواتي طلب منهن مسؤول الناحية المغادرة إلى مكان آخر حفاظا على سلامتهن فرفضن الرحيل، وبكين بكاء شديدا، منهن إحدى الفتيات التي رفضت أمر أحد المسؤولين بالعودة، واختبأت في الغابة، وهناك نساء كن يزغردن كلما مر جنود جيش التحرير على القرية. المرأة المجاهدة لم تأخذ حقها، ولم يتم الحديث عنها كثيرا، عندما أشاهد الفدائيات بالعاصمة اللواتي حملن القنابل وعبرن حواجز تفتيش المظليين بكل شجاعة وبدون خوف، أقف لهن احتراما.
المنظّمة الوطنية للمجاهدين أحد أعمدة تنظيمات الأسرة الثورية في الحفاظ على الذاكرة الثورية واستمرارية قيم نوفمبر، ماذا حضّرتم لسبعينية الثورة هذا العام؟
الجزء الأكبر من البرنامج تشرف عليه وزارة المجاهدين، أما برنامج منظمة المجاهدين يمكن تجسيده بعد الاحتفال بسبعينية الثورة، حيث كلّفت لجنة مكونة من أعضاء الأمانة الوطنية للمنظمة بتحضير محاور الندوات التاريخية حول قادة الثورة المباركة الشهداء.
في هذا الإطار، ينشّط باحثون في التاريخ محاضرات أكاديمية علمية، ويدلي المجاهدون بشهادتهم حول المسيرة النضالية لكل قائد شهيد، وأهم المعارك التي خاضها وظروف استشهاده.
ما هي حصيلة نشاط المنظّمة في مجال كتابة تاريخ الجزائر وتسجيل شهادات المجاهدين؟
تصدر المنظمة الوطنية للمجاهدين مجلة أول نوفمبر، وتتكفل بنشر شهادات لمجاهدين ما يزالون على قيد الحياة، ودراسات تاريخية أكاديمية لباحثين وسيرة الشهداء حفاظا على تاريخ الثورة، كان المجاهد بوعلام شريفي يشرف على هذه المجلة بنادي المجاهد.
وللمجلة أعداد كثيرة وهي لسان حال المنظمة، مهمتها إعطاء صورة عن الأحداث التي وقعت أثناء الثورة وتنشر مبادئ الثورة، وتحاول نقل رسالة أول نوفمبر للأجيال، وهي تعتبر مصدرا مهما لكتابة تاريخ الثورة.
هناك دراسات لأساتذة محترمين تنشر، وهناك مقابلات مع أرامل الشهداء ومجاهدين، يروون مساهماتهم في معركة التحرير، ويقدمون شهاداتهم حول شهيد قائد جاهدوا معه، وأيضا عائلات أو إخوة الشهيد يتحدثون عن حياة الشهيد وشخصيته الإنسانية.
أعداد المجلة لا تباع، توزع على المجاهدين بقسمة المجاهدين بالولايات التاريخية، نأمل أن تكون هذه المجلة التي يسهر عليها طاقم من الباحثين والمجاهدين من أعضاء الأمانة شعاعا لنقل معارك الثورة.
أشير إلى أنّ التمويل المادي للمجلة من طرف وزارة المجاهدين التي خصّصت ميزانية معتبرة، ونحن أعضاء الأمانة نكرّم شهيدا أو شخصية معروفة، وأغلب التكريمات تتكفل بها وزارة المجاهدين.
هنـاك مـن يتربّـص الدوائر بالجزائر وقيم نوفمـبر تعصـم الشباب
باعتباركم أحد المساهمين في معركة التحرير الوطني، وحاملي أمانة رفقائكم الذين استشهدوا بالأمس، كيف تنظرون إلى ملف الذّاكرة الوطنية؟
الإنجازات التي بذلت من طرف الباحثين والأكاديميين، وخاصة رعاية رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، لملف الذاكرة الوطنية أمر جيد لم نشهده في السنوات الماضية.
المجاهد لا يدلي بشهادته حول مشاركته في الثورة إذا لم يثق في من يطلب شهادته، ومن المجاهدين من بقي محتفظا بأسرار الثورة حتى وفاته، وفكرة سر الثورة تعلّمناها في كفاحنا ضد المستعمر وعشنا بها حتى بعد الاستقلال، أصبحت عقيدة لدينا؛ لهذا أقول دائما يجب استفزاز المجاهد كي تحصل منه على معلومات تاريخية، كثير من المجاهدين بمن فيهم قادة الثورة ماتوا بعد الاستقلال ولم يدلوا بشهاداتهم. هذا كنز كبير ضاع منا لكتابة التاريخ الوطني، وهنا وقع تأخر في جمع شهادات الثورة.
لا يمكن إحصاء أحداث كثيرة وقعت أثناء الثورة، والآن المجاهدون أتعبهم المرض وكبر السن، وذاكرتهم أصبحت ضعيفة.
وهنا تحضرني حادثة رويت لي من طرف أحد المجاهدين كان حاضرا رفقة قادة النواحي في اجتماع مع الرئيس الراحل هواري بومدين، حيث عبّر أحد المجاهدين عن قلقه وخوفه من عدم كتابة تاريخ الثورة، خاصة وأن بعض المجاهدين ماتوا دون كتابة مذكراتهم، فردّ عليه الرئيس الراحل، قائلا: “التاريخ الجزائري يكتب بأقلام جزائرية”، ولا أدري ماذا كان يقصد بومدين بهذه العبارة.
خسرنا مسؤولين كبار كان لديهم معلومات هامة حول التحضير للثورة ولم يكتبوا مذكراتهم، وحتى الصحافة – غداة الاستقلال – كانت قليلة وبدون خبرة، أما الباحثون المتخصصون في التاريخ فكانوا يعدون على الأصابع، والآن الحمد لله أصبح عددهم كبيرا..لحد الآن، ما يزال الأرشيف الجزائري في دول أوروبا الشرقية التي كانت تساعد الجزائر، لا ننكر مجهودات الدولة الجزائرية التي قامت بواجبها، وتقوم باسترجاع بعض الأرشيف.
احفظوا رسالة نوفمبر وحقّقوا آمال الشّهداء
في سبعينية الثّورة المباركة..ماذا تقولون للأجيال الجديدة من الجزائريّين؟
أشكر الشباب الباحث على الاهتمام بالتاريخ الوطني، من لا يعرف تاريخ بلده يتيه ويذوب في المجتمعات الأخرى، لاحظت مؤخرا أن أغلبية شباب اليوم وطنيين، هناك من يقصد المجاهدين لمعرفة تاريخ الثورة، وهذا شيء أستحسنته كثيرا. الحمد لله يوجد شباب جامعي مثقف كل في تخصص معين، كمجاهد أنصح جيل اليوم بالحفاظ على الجزائر واعتبارها مثل منزله، وعدم التفريط في بلده بسلوكات مشينة منافية لروح المواطنة والفرد الصالح.
ورسالتي أيضا أن يحمل هذا الجيل والذي يليه رسالة الثورة بكل قيمها ومبادئها، هناك أعداء يتربّصون بالجزائر، خاصة دولة الاستعمار القديم لديها أمل في العودة بزوال جيل الثورة على حسب اعتقادها، انظروا ما يحدث في غزّة الجريحة، هي نفس معاناه الجزائريين إبان الثورة، لهذا أنصح الشباب بعدم الانسياق وراء دعاية الاستعمار القديم، الوطنية هي خدمة الجزائر بإخلاص، وأدعو الشباب إلى التّمسّك بمن جاهدوا من أجل الجزائر.