تحتفل الجزائر، اليوم، بالذكرى السبعون لاندلاع الثورة التحريرية، تحت شعار «نوفمبر المجيد.. وفاء وتجديد»، لتؤكد الارتباط الأزلي بالمرجعية الثورية بكافة أبعادها، مُتخذة منها دافعا مستمرا في صون الذاكرة الوطنية والتطلع نحو المستقبل، ورسم السياسات في الداخل وفي العلاقات مع الخارج، وتحرص في المقابل على تخليدها بشكل مميّز يليق بمستوى التضحية والشرف.
قبل سبعين عاما، وتحديدا، ليلة الفاتح نوفمبر 1954، وبموقع «تاغيث» المحصن طبيعيا في جبال الأوراس بالشرق الجزائري، أطلقت أول رصاصة في وجه الاستعمار الفرنسي، بالتزامن مع عمليات أخرى في مختلف مناطق الوطن، استهدفت الثكنات والجسور وشبكة الاتصالات.
كان ذلك إيذانا باندلاع الكفاح المسلح، وتفعيلا لمبدأ «ما أُخذ بالقوّة لا يُسترد إلاّ بالقوّة»، وخلاصا نهائيا مع سنوات النضال السلمي ضمن أطر الحركة الوطنية. والعودة إلى نهج السبعين عاما الأولى من المقاومات الشعبية المسلحة، ضد الاستعمار الاستيطاني.
السلطات الاستعمارية، أحصت في الليلة الأولى أزيد من 30 عملية موزّعة وموحّدة التوقيت عبر عدّة مناطق، وردّت بالتعسف في الاعتقالات والتهوين عبر وسائل الإعلام، مطلقة وصف «الخارجين عن القانون» و»الإرهابيين» على طلائع الثوريين الأحرار، ولم تدرك أنها أمام بداية واحدة من أعظم الثورات في العصر الحديث.
والاحتفال الخاص والمميز، الذي تخصصه القيادة العليا للدولة، لتخليد عيد الثورة المجيدة، لا يعدّ «وفاء وعرفانا» لتضحيات الملايين من الشهداء والمجاهدين، فحسب، وإنما استمرارا في نقل رسالة للشعوب الثائرة من أجل الحرّية والاستقلال، الرافضة للهيمنة والظلم ونهب الأرض والعرض.
والسياق الإقليمي والدولي الحالي، مليء بالأحداث التي تستدعي استحضار العقيدة الثورية الجزائرية، وعبقريتها، من قبل الجزائريين ومن قبل الشعوب الأخرى التي تتعامل مع الهيمنة النيوكولونيالية، وعودة مظاهر الاستعمار التقليدي في بعض المناطق.
الجزائر ومن واجب الوفاء لنوفمبر وقيمه المستمرة، تشارك شرف الاحتفال مع الشعوب الشقيقة والصديقة، مقدّمة بذلك نافذة متجدّدة للاطلاع على صفحات الثورة التحريرية، بكافة تفاصيلها ومحطاتها.
وتعجّ الثورة الجزائرية، بعدد من القيم الإنسانية، كارتباطها الوثيق بالحقوق الأساسية للإنسان، والعدالة الدولية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، والنضال من أجل نظام دولي عادل، ورفض الهيمنة بأثواب جديدة.
قرار ومحطات
رغم أن عمر الاحتلال الفرنسي للجزائر، كان 124 سنة، عند اندلاع الثورة التحريرية، ورغم كونه استعمارا استيطانا جاء لتعويض الجزائريين بغيرهم من الأوروبيين وتعويض هوية بأخرى، إلاّ أنه لم يستطع أن يطفئ جمرة الكفاح لدى الشعب الجزائري.
كل القوانين التي سنّها، وجميع الإجراءات التي اتخذها، طيلة هذه المدة، لم تغير رغبة الجزائريين في الاستقلال وتقرير المصير، وقد دفعوا بالآلاف من شبابهم للقتال إلى جانب الحلفاء ضد النازية، لا لشيء إلا من أجل هدف الاستقلال.
ومن هنا كانت مجازر الـ 08 ماي 1945، بداية تحضير بارود الثورة في وجه الاستعمار المجرم الناكث للعهد، ومع بروز جيل جديد من الشباب الثوري المتحمس للبندقية، رجحّت كفة الكفاح المسلّح، وحسم القرار في اجتماع الـ 22 يوم 23 جوان 1954.
بعدها بأربعة أشهر وتحديدا في 23 أكتوبر 1954، اجتمع القادة الستة، وانهوا رسم خطوط الثورة، واختاروا اسم «جبهة التحرير الوطني»، وتوجهوا بها إلى الشعب الجزائري الذي احتضنها وسار في ركبها حافيا وجائعا، ومقاتلا شرسا، نهما للخلاص من الاستعمار.
وتحصي ثورة نوفمبر، محطات بارزة جدا، حافلة بعبقرية الثورة والقدرة الفائقة على التضحية، كهجمات الشمال القسنطيني 20 أوت 1955، التي جاءت بدوافع تكتيكية، كإثبات الإسناد الشعبي وقتال المستعمر في وضح النهار، وفك الحصار عن منطقة الأوراس، وتدويل القضية الجزائرية وجدولتها في اشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وبعدها في نفس التاريخ، كان مؤتمر الصومام محطة لإعادة التنظيم وتوزيع الأدوار وتعزيز الأهداف، بالتوازي مع عمل دبلوماسي مُبهر، نجحت من خلاله وفود جبهة التحرير الوطني إلى الخارج في ضمان أصدقاء أوفياء للثورة التحريرية، والترويج من مختلف المنابر للقضية الجزائرية والبداية كانت من مؤتمر باندونغ (أفريل 1955 بأندونيسيا).
الثورة الجزائرية، صنعت التميّز واستطاعت أن تشمل الكفاح المسلّح، بالكفاح السياسي والسلمي، حينما شكلت الحكومة المؤقتة في 19 سبتمبر 1958، وعندما فضحت خطط الجنرال ديغول أمام الرأي العام العالمي في مظاهرات 11 ديسمبر 1960، وفي مسيرات 17 أكتوبر 1961، بالعاصمة الفرنسية باريس، مؤكدة تمسّك الشعب الجزائري في تقرير مصيره والاستقلال كليا عن فرنسا، ورفض كل مقترح «الاستقلال الوهمي» الذي جاء به ديغول.
وفي الوقت ذاته، استمر المجاهدون، في خوض المعارك ضد جيش الاحتلال الفرنسي في مختلف المناطق. في الجبال والقرى وفي الصحاري والوديان، وفي اجتياز خطّي شال وموريس، اللّذان أريد بهما خنق الثورة، مجسدين أسمى مواقف التضحية والفداء.
البيان والذاكرة
سبع سنوات من الكفاح المرير والتضحيات الجسام، أنهت استعمارا فرنسيا غاشما، دام 132 سنة، وأسست لبناء الجزائر المستقلة المسترشدة بقيم ثورتها، حتى أن شخصيتها الدولية ومنذ أن رفع العلم الوطني في الأمم المتحدة في 08 أكتوبر 1962، ارتبطت بالثورة وبالنضال من أجل انعتاق الشعوب من الاستعمار بكل أشكاله.
والوفاء للثورة ولتضحيات الشعب الجزائري، كانت ميزة لصيقة بالجزائر الجديدة المنتصرة، فنفحات نوفمبر كانت حاضرة في إعادة البناء المؤسساتي وفي النقاش العام وحتى في ممارسة الديمقراطية التشاركية وتقييم وتقويم السياسات العمومية.
وقد خرج الاحتفال بالمحطات البارزة للثورة، عن الجانب البروتكولي الرسمي، وأخذ بعده السياسي، من خلال إعطاء قيمة كبرى للذاكرة الوطنية، ودمجها في النهج الوطني للدولة سواء في الداخل أو في العلاقات الخارجية وبالأخص العلاقة مع فرنسا.
وفي السياق، لم يتأخر رئيس الجمهورية، في تكريم تضحيات الجزائريين طيلة 132 سنة من الاستعمار، والتوقف عند كل مرحلة، صنعتها الثورات الشعبية التي دامت لأزيد من سبعة عقود، فكان أوّل ما قام به أن استعاد جماجم ورفات أبطال المقاومة، صيف 2020، ولازال الملف مستمرا.
واسترجعت الجزائر، رفات وجماجم 24 مقاوما ضد الاستعمار الفرنسي بعد أزيد من 170 سنة من إعدامهم، وتهريبها إلى باريس، أين شدّد الرئيس تبون عزمه «على إتمامِ هذه العملية حتى يلتئم شمل جميعِ شهدائنا فوق الأرض التي أَحبوها وضحّوا من أجلها بأعزّ ما يملكون».
ووفاء للتاريخ الناصع، أعلن رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، الثامن ماي 1945، المشهود بدماء أزيد من 45 ألف شهيد، يوما وطنيا للذاكرة، وجعل من مجازر الـ 17 أكتوبر المخلد لمجازر الدموي الفرنسي موريس بابون بباريس يوما وطنيا للهجرة.
ومن مقر وزارة الدفاع الوطني، في ماي الماضي، أوضح الرئيس تبون، أن الجزائر ماضية في الاحتفاء سنويا بذاكرة الآباء والأجداد «ولا تكترث في ذلك للومة لائم».
وأوضح أن استحداثه ليوم وطني للذاكرة، يمثل سانحة «للترحْم سنويا على شهداء المقاومة، وشهداء 08 ماي 1954 وشهداء الثورة التحريرية المباركة، وحتى نسير على دربهم».
وقال «إننا نحتفي بالشهداء الذين سبقونا بالإيمان، والشعب الذي لا يملك جذورا وليس له سلف صالح، مجاهد، مصيره مجهول».
وعلى الأساس، يلتزم رئيس الجمهورية، بصون الذاكرة الوطنية، والقيام بعدّة مبادرات من أجل معالجة هذا الملف، بما يُنصف تضحيات الأجداد من الشهداء والمجاهدين، بل يربط أيضا مسار التنمية الوطني وتقويم الدولة وفق نهج إصلاحي يتماشى و»أحلام الشهداء» في بناء جزائر مستقلة، قوّية ومهابة الجانب.
ويؤكد الرئيس تبون في أكثر من مناسبة، على أن معالجة «شجاعة وعادلة»، تفضي إلى اعتراف بجرائم الإبادة والعنف الممارس على الجزائريين، وحدها كفيلة بالتطلّع إلى مستقبل طبيعي مع فرنسا، التي بات يسيطر عليها تيار يميني متطرّف لم يتجرّع بعد الهزيمة ويحرّض على كراهية الجزائريين ليل نهار.
وبادر بطرح مبادرة، إنشاء لجنة مشتركة مكونة حصرا من مؤرخين، لا علاقة لهم بالسياسية لبحث ملف الذاكرة مع فرنسا، وقد باشرت مهمتها بعقد 5 اجتماعات، توصلت في مستهل عملها على استعادة أزيد من 2 مليون وثيقة تخصّ الأرشيف الوطني.
وترفض الجزائر التنازل عن ملفات أربعة كبرى، تخص ملف الذاكرة، وتتعلق بالأرشيف الوطني واستعادته كاملا، التفجيرات النووية، جماجم الشهداء والمقاومين والمفقودين أثناء الثورة التحريرية.
وفي آخر رسالة له، بمناسبة اليوم الوطني للهجرة المخلد للذكرى الـ 63 لمجازر 17 أكتوبر 1961 بباريس، شدّد الرئيس تبون، على التمسك بنهج نوفمبر، في التطلع نحو المستقبل «برؤية جديدة واثقة في مقدرات البلاد، وفي كفاءاتها ووعي شبابها وشعبها بالتحدّيات، ومؤمنة بكسب الرهانات وتحقيق أحلام شهدائنا الأبرار بجزائر مرفوعة الرأس».
وأكد رئيس الجمهورية ‘’حرص الدولة المستمر على الدفاع عنهم ورعاية مصالحهم وتوفير الشروط المثلى لاندماجهم في مسار التقويم والتجديد الوطني وفي ديناميكية التحوّل بالجزائر نحو المستقبل برؤية جديدة واثقة في مقدرات البلاد وفي كفاءاتها ووعي شبابها وشعبها بالتحديات ومؤمنة بكسب الرهانات وتحقيق أحلام شهدائنا الأبرار بجزائر مرفوعة الرأس، جزائر الوطنية والكرامة، المتمسكة بمبدأ الحق والإنصاف فيما يتعلق بملف الذاكرة الذي تحاول أوساط متطرفة تزييفه أو إحالته إلى رفوف النسيان، في وقت تحتاج فيه مسألة الذاكرة إلى نفس جديد من الجرأة والنزاهة للتخلص من عقدة الماضي الاستعماري والتوجه إلى مستقبل لا إصغاء فيه لزرّاع الحقد والكراهية ممن مازالوا أسيري الفكر الاستعماري البائد».
ولم يتمكن مسؤولو الدولة الفرنسية المتعاقبون من التعامل مع هذا الملف ومع ملف الذاكرة عموما بصفة مسؤولة وصريحة وبقراءة موضوعية وصادقة، مثلما تطالب به الجزائر وينص عليه «إعلان الجزائر» الذي وقّع عليه رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، مع نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون سنة 2022، بل اختاروا سبيل التصريحات الاستفزازية وسياسة المراوغة على حدّ قول الأكاديمي الفرنسي أوليفيه لوكور غراند ميزون.
وكان رئيس الجمهورية، قد أكد خلال آخر لقاء إعلامي دوري، أن اللجنة الجزائرية-الفرنسية المشتركة المكلفة بالملفات المتعلقة بالذاكرة قد «أدّت دورها في البداية، غير أن التصريحات السياسية التي تدلي بها أقلية فرنسية تكّن الكره للجزائر أثرّت على عملها».
وجدّد بالمناسبة «موقف الجزائر الثابت المُطالب بالحقيقة التاريخية وبالاعتراف بالمجازر التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي»، مؤكدا أن الجزائر «لن تقبل الأكاذيب» ومذكرا بأن مقولة الرئيس الراحل هواري بومدين «نحن نطوي الصفحة ولا نمزقها» لا تزال سارية.
ومن أبرز المراوغات الفرنسية، مصادقة الغرفة السفلى للبرلمان الفرنسي شهر مارس الماضي على مقترح لائحة تدين القمع الدموي والإجرامي الذي مورس على الجزائريين تحت سلطة محافظ الشرطة، موريس بابون في 17 أكتوبر 1961 بباريس وتقترح إدراج يوم لإحياء ذكرى هذه المجزرة، غير أن هذه اللائحة خضعت لعملية تنقيح وتعديل حالت دون تحميل الدولة الفرنسية المسؤولية القانونية، لتقوم الغرفة العليا بعد ذلك بتسجيل مقترح يميني يتحدث عن «مجازر» بحق الفرنسيين والأوروبيين في الجزائر العاصمة ووهران سنة 1962.
ولا يزال هؤلاء الذين يكنون الحقد للشعب الجزائري ينفثون سمومهم في كل مناسبة يذكر فيها تاريخ الجزائر من خلال ممارسات تنمّ عن «انحطاط سياسي» مثلما وصفه رئيس مجلس الأمة، المجاهد صالح قوجيل، في مساهمة إعلامية سابقة له، انتقد فيها بعض الدوائر السياسية الفرنسية التي عوض تكريمها لتضحيات المهاجرين الجزائريين ومساهمتهم في تحرير فرنسا من النازية وإعادة بنائها، تقوم باستغلال مسألة الهجرة لأغراض سياسوية وتهاجم المهاجرين الجزائريين بشكل مجحف وتطالب بمراجعة أو إلغاء الاتفاق الموقع بين الجزائر وفرنسا سنة 1968 حول تنقل الجزائريين، والذي لم يخدم إلا الجانب الفرنسي.