حمل بالأمس مشعل ثورة نوفمبر المجيدة مجاهدا ومحافظا سياسيا، ويحمله اليوم للدفاع عن المرجعية الدستورية لثورة نوفمبر رئيسا لأعلى هيئة دستورية للبلاد، إنه المجاهد عمر بلحاج ورئيس المحكمة الدستورية؛ رجل يجسم بمبادئه ومواقفه الوفاء لقيم نوفمبر روحا وعقيدة وميدانا، شاءت الأقدار أن يحملها وهو مجاهدا ومحافظا سياسيا ضمن هؤلاء الذين أسندت إليهم قيادة جيش التحرير الوطني مهمة التشويش والتضليل على مدفعيات الجيش الاستعماري الفرنسي لإتاحة عبور قوات جيش التحرير الوطني خط موريس الدفاعي الذي وضعه الاستعمار الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي في الجزائر.
لاتزال دقات قلب عمر بلحاج تنبض بقوة، كلما تجدد الجزائر إحياءها لأمجادها التاريخية المجسمة في روح بيان الفاتح من نوفمبر وهو لا يخفي في حوار خص به «الشعب» سعادته أن يكون اليوم أول رئيس للمحكمة الدستورية استحدثت في ظل تعديل دستوري بورك بالاستفتاء الشعبي عليه في هذا الشهر من نوفمبر 2020، الذي خلدته شرارة ثورة الفاتح منه حتى تتداول الأجيال المتلاحقة على ديمومة المرجعية الدستورية لثورتنا المجيدة تجسيما لمبادئها ووفاء لأرواح شهدائها الأبرار.
حوار: عبد المجيد الحبيب
«الشعب»: السّيد الرئيس والمجاهد عمر بلحاج.. يحتفل الشعب الجزائري بالذكرى السبعين لثورة الفاتح من نوفمبر الخالدة، التي ضحى فيها الشعب الجزائري بالنفس والنفيس في سبيل استرجاع السيادة الوطنية وتحرير الأمة من ويلات الاستعمار الغاشم. كيف تعيشون هذا الحدث بصفتكم مجاهدا وقد كنتم ضمن أولى قوافل الطلبة الذين لبوا نداء الالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني؟
المجاهد عمر بلحاج: هذه الذكرى وعلى غرار كل المناسبات التي نستذكر فيها بطولات وتضحيات شعبنا الأبي المتطلع إلى الحرية والانعتاق من وحشية الاستعمار وهمجيته، عزيزة عليّ وأعيشها، ككل جزائري غيور على وطنه، بكل افتخار واعتزاز، خاصة أنّني عشت أيام الثورة وتقاسمتها مع إخواني المجاهدين تحت لواء جيش التحرير الوطني.
ونحن نعيش الاحتفالات المخلدة لسبعينية ثورتنا الخالدة، هل كان صدفة أن يحدث الاستفتاء الشعبي على التعديل الدستوري 2020 في شهر نوفمبر التاريخي والرمزي لبلادنا؟
لا يخفى على أحد أن الدستور ليس وثيقة تقنية وقانونية فحسب، بل وإلى جانب أبعاده القانونية والمؤسساتية، وباعتباره الوثيقة الأسمى في الدولة، فهو يشكل ميثاقا وطنيا للأمة يحمي الثوابت الوطنية والمكونات الأساسية للهوية من أجل تحصينها وضمان ديمومتها وانتقالها جيلا بعد جيل.
الدستور يشكل ميثاقا وطنيا للأمة يصون هويتنا وثوابتنا الوطنية تعديل الدستور كان بروح نوفمبري عزّز العمق التاريخي والحضاري لبلادنا
وأما عن اختيار شهر نوفمبر المبارك لإجراء الاستفتاء الشعبي حول التعديل الدستوري 2020، الذي يندرج ضمن الإصلاحات التي قادها رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، كان من شأنه أن عزز بشكل كبير العمق التاريخي والحضاري للجزائر منذ آلاف السنين إلى غاية اندلاع الحرب التحريرية المجيدة في الفاتح من نوفمبر 1954. ولعل ديباجة الدستور هي أحسن دليل على القيمة الدستورية لبيان أول نوفمبر، حيث نصت على أن أوّل نوفمبر وبيانه كان المؤسس نقطتا تحوّل فاصلة في تقرير مصيرها -الجزائر- وتتويجا عظيما لمقاومة ضروس، واجهت بها مختلف الاعتداءات على ثقافتها، وقيمها، والمكونات الأساسية لهوّيّتها، وهي الإسلام والعربية والإمازيغية…».
فالجزائر تعتزّ بإشعاع ثورتها؛ ثورة أوّل نوفمبر 1954، التي قدم فيها خيرة أبناء الجزائر التضحيات الجسام في سبيل استعادة السيادة والحرية والهوية الوطنية. ومن مكاسب ورموز ثورة نوفمبر الخالدة العلم الوطني والنشيد الوطني، اللذين سهر كذلك الدستور على دسترتهما وتكريس عدم قابلية المساس بهما أو تغييرهما في أي حال من الأحوال.
كيف كرس التعديل الدستوري ديمومة مرجعية بيان أوّل نوفمبر 1954 وما هي الجوانب التي نلمسها في هذا التكريس عندما أقدم المؤسس الدستوري على صياغة المبادئ والقيم الدستورية؟
بالطبع، لعل أهم الأهداف التي قامت عليها ثورة نوفمبر هي «إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية». هذه المبادئ أصبحت راسخة في الدستور الجزائري، لاسيما المادة 223 منه، التي تعتبر أن النظام الديمقراطي والطابع الاجتماعي للدولة لا يمكن أن يطالهما أي تعديل دستوري. كما أن قيم ثورة نوفمبر والأخلاق الإسلامية هي من الثوابت التي تلتزم بها مؤسسات الجمهورية وتسعى إلى تحقيقها وحمايتها.
مرت سبعون سنة عن إصدار هذا البيان التاريخي، الذي تتداول على اعتماد مرجعيته الأجيال المتلاحقة. كيف للأجيال الجديدة أن توظف هذه المرجعية في عقيدتها في ظل التحولات والرهانات والتحديات العالمية الراهنة والمستقبلية؟
بيان ثورة الفاتح من نوفمبر 1954، الذي كان بالأمس مؤسسا لأعظم ثورة في القرن الماضي في سبيل تحرير الإنسان والإنسانية من غياهب الاستعمار، وتكريسه الدستوري هو بمثابة الحصن المنيع والدائم للحرية والوحدة والهوّية الوطنيتين، ورسالة روحية تحمل قيم العدالة الاجتماعية والتضامن بين أبناء الشعب الواحد.
السيّد الرئيس، كان نصيب العدالة الدستورية كذلك كبيرا في التعديل الدستوري للفاتح من نوفمبر 2020، بإنشاء محكمة دستورية. بصفتكم أول رئيس لهذه المؤسسة المستحدثة، ماهي مكانة المحكمة الدستورية في خضم الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية الجديدة؟
حرص المؤسس الدّستوري على ضمان احترام سمو الدستور وترقية مكانة القضاء الدّستوري لكي يكون ملاذا لحماية الحقوق والحريات وحصنا منيعا لاستقرار المؤسسات وقوتها، مؤسسا محكمة دّستورية مستقلة بصلاحيات واسعة في مجال ضبط سير المؤسسات ونشاط السّلطات العمومية، والفصل في الخلافات التي قد تحدث بين السّلطات الدّستورية، وكذلك تفسير أحكام الدستور، والرقابة على دستورية القوانين والتنظيمات. كما تنظر المحكمة الدستورية في الطعون التي تتلقاها حول النّتائج المؤقتة للانتخابات الرّئاسية والانتخابات التّشريعية والاستفتاء، وتعلن النّتائج النّهائية لكلّ هذه العمليات.
قيم ثورة الفاتح نوفمبر والأخلاق الإسلامية من ثوابت المؤسسات المحكمة الدستورية مسايرة فلسفة الإصلاح الشاملة لبناء جزائر جديدة
بعبارة أخرى، يمكن القول إن المحكمة الدستورية جاءت لمسايرة فلسفة الإصلاح الشاملة التي جاء بها التعديل الدستوري للفاتح من نوفمبر 2020، من أجل بناء جزائر جديدة قوامها استقرار المؤسسات وسيادة القانون والحقوق والحريات.