من بين الطّبوع الموسيقية التراثية التي يقل الحديث عنها، “فن التريميد”، وهو فن موسيقي محلي أصيل خاص بالمجتمع النسوي، حيث يحيا هذا الطابع في أوساط نسوية محض، لذلك يعد من بين الفنون القليلة الظهور للعلن، رغم انتشاره الكبير وسط جمهوره النسوي الواسع في مناطق من ولاية ورقلة وبعض الولايات المجاورة التي يتواجد فيها هذا الطابع الموسيقي.
تقول الأستاذة الشّاعرة عائشة ماضوي المرافقة لفرقة “التريميد” بجمعية الأعماق للتراث الشعبي والإبداع الثقافي، في حديث مع “الشعب”، إنّ فن “التريميد” تراث محلي يسمى “فن القول”، يخص بعض المناطق الصحراوية، كما أنّه منتشر بولاية ورقلة ولديه جمهوره النسوي الخاص، تتميّز به شاعرات تنظّمن وتؤدين قصائدهن التي تتعدّد مواضيعها بين العادات الاجتماعية والأعياد والمناسبات الدينية والوطنية.
وتضيف ماضوي: “يمكن القول إن فن التريميد يربط المرأة بواقعها، ويعبّر عن مدى إدراكها ووعيها بكثير من الأمور التي تدور حولها، فهو كلام موزون ومفهوم، وفيه حكمة؛ لهذا يعد هادفا أيضا، كما أنه فن أصيل قديم، إلاّ أن مواضيعه مسايرة لمختلف الظواهر والتغيرات والتطورات التي تطرأ على المجتمعات”.
وينتشر هذا الطابع النسوي عبر كثير من المناطق بولاية ورقلة، حيث يستحضر عادة في الأعراس والأفراح، وتحديدا، يوم وليمة الغذاء الخاصة بالنساء في الأعراس، وفي المناسبات المختلفة كالحج والختان والمولد النبوي الشريف.
الإيقاع واللّباس التّقليدي.. ميزة التريميد
ما يميّز فن التريميد بولاية ورقلة عن غيره من المناطق – تقول ماضوي – هو اللهجة المحلية المستخدمة في الكلمات، والتي تختلف نوعا ما، بالإضافة إلى الإيقاع واللباس التقليدي المحلي الخاص بمنطقة ورقلة “الكتانة” التي ترتديها كل النسوة في فرقة التريميد.
لهذا – تواصل محدثتنا – فإن فن التريميد محافظ أصيل وجمعه نسوي، ومع ذلك لم يندثر وما زال متواصلا من جيل إلى جيل، تتوارثه النسوة وتتناقله العائلات، ولا يقتصر فن القول النسوي على قصائد قديمة متوارثة، بل ينظّم فيه الجديد، وكلماته تكون دائما متناسقة مع الأحداث العامة، كما تسايره “الكتانة” بما هي لباس تقليدي في نوعية القماش الحديثة.
ويستمد فن التريميد أصله من الكلمة وفن القول، ومن خلاله تردّد النسوة قصائدهن، إمّا متوارثة عن أمهاتهن وجداتهن أو ينظمن هذه القصائد بأنفسهن، ومن بين المؤديات لهذا الفن من فرقة التريميد، الحاجة رقية بن ساري، والحاجة جمعة برهان، والحاجة فاطمة ماضوي، وكثير من النساء الأخريات خارج الفرقة، ينظّمن قصائد ويؤدين التريميد، وعليهن طلب كبير.
وأشارت محدّثتنا إلى أنّ التريميد، كطابع موسيقي تراثي، لم يندثر وما زال إلى اليوم يقام في الأعراس خاصة في المجتمع الورقلي المحلي المعروف بترابطه الكبير ومناسباته وعاداته الاجتماعية الكثيرة، ومن خلال مختلف هذه المناسبات يتم تقديم كلمات من فن القول النسوي إمّا متوارثة يتم التجديد فيها أو من الكلام المنظوم التراثي.
وأكّدت ماضوي أنه على الرغم من التغيرات الكبيرة التي مسّت العادات في إحياء الأفراح والأعراس، إلاّ أن التريميد الورقلي ما زال يحظى بيوم خاص في برنامج حفلات الزفاف محليا، وله جمهوره المتعطش إلى السماع، على غرار بقية الطبوع الموسيقية التي تحيى مثل هذه المناسبات، وتقدّم الفرقة – من خلاله – قصائد ووصلات، منها المجاني، ومنها ما يتطلّب مقابلا ماديا، كما أنّ عدد النساء في الفرقة يختلف، وقد يتزايد في الجلسة الواحدة.
خلال إحياء وصلات التريميد، يكون جيل جديد يستعد لصقل موهبته في حفظ الكلمات والحركات، ويتابع وتيرة التصفيقات والرقصات والحركات التي تتوافق مع ريتم التريميد.
إيقاع خاص بتّصفيقا وكلمات وألحان
في أثناء أداء التريميد الذي يعد فنّا له رقصاته ونغماته تصفيقاته الخاصة التي تسهم في صنع الإيقاع الخاص، تنطلق النسوة في تقديم العديد من القصائد الموروثة والجديدة كفرقة. وبالاستناد إلى الإيقاع الخاص الذي يعتمد على البندير وعلى التصفيق وحركة تشبيك أصابع اليدين، التي تعد علامة على ضرورة ترديد الشطر السابق من القصيدة، وبعد الترديد، تقف النسوة في شكل صفوف لتكرار الكلمات التي لها أثرها الخاص، ويختمن بالتصفيق لرفع حماسة وتفاعل الحضور مع المؤدين.
كل هذه التّفاصيل من كلمات وألحان وحركات وآلة موسيقية وهي البندير، تدخل في بناء الإيقاع الموسيقي لـ “التريميد”؛ ذلك لأن ناظمات الكلمات، هنّ أنفسهن اللّواتي يتكفّلن باختيار إيقاعها الموسيقي واللحن والعازفين وكل شيء، تقول عائشة ماضوي.ويجمع هذا الفن، كأي طابع غنائي، ما يبعث الفرح في الأعراس والأفراح والمناسبات السعيدة، وما يلامس مشاعر الفقدان والأمومة والأحزان، ويرافق الدمعة بالابتسامة، فهو فنّ يعبر في أجوائه عما يختلج بالمشاعر، فيحرّكها ويجعل كل الحاضرين متفاعلين بشكل حماسي، ممّا يسهم في صنع أجواء خاصة لا تشابه الجلسات الغنائية المعتادة.
وتؤكّد المتحدّثة أنّ هذا الفن بقي متوارثا؛ لأنه ينطلق في الأصل من بيئة بدوية مثل شقيقه، فن “الداني دان” بورقلة، غير أن الفرق بينهما يكمن في أن الأول طابع فني نسوي يخص مجتمع النساء فقط، والثاني طابع رجالي يحييه الرجال، ولقد حافظ “التريميد” على الخصوصية التي تميزه عن الفنون الأخرى، كما ظل فنّا أصيلا نظرا لارتباطه بكثير من المرجعيات المجتمعية، وباعتباره طابعا موسيقيا محليا نسويا بدرجة أولى، يُحيى بين جماعات النساء، ولم يطرأ عليه التغيير، عدا التجديد الذي يعد أصلا من أصول هذا الفن الذي مازال متواصلا.
تجربة جديدة
وبالعودة لتجربة فرقة التريميد، ذكرت الشاعرة عائشة ماضوي أن دار الثقافة مفدي زكريا كانت البوابة الأولى لبروز هذا الفن للعلن، من خلال جمعية “الأعماق للتراث الشعبي والإبداع الثقافي”، حيث انطلقت فرقة التريميد في تجربة جديدة، ومن خلال إعلان الجمعية لجميع الطبوع الموسيقية الشعبية المحلية الموجودة بولاية ورقلة، واقترحت ماضوي إدراج فن التريميد في الطبوع الموسيقية التي اهتمت بها الجمعية.وانطلقت النسوة من خلال فرقة “التريميد” وجمعيتها، في إبراز هذا الفن للجمهور العام، وكانت هذه التجربة خطوة مهمة للخروج به إلى الجمهور العام في إطار مهرجانات ومناسبات عامة ساعدت على التعريف به، كما منحت هذه التجربة فن التريميد والفرقة، فرصة لمواجهة الجمهور بهذا الفن الأصيل يحترم خصوصيته النسوية ومجتمعه المحافظ الأصيل.
التّدوين.. ضمان الاستمرارية
بالحديث عن سبل الحفاظ على تراث فن التريميد، قالت محدّثتنا إنّ هذا الفن استند كثيرا على الحفظ من خلال الأغاني التي تردّدت على المسامع، وساهمت في تواصل هذا الفن من جيل لآخر، حيث يتم حفظ الكلمات وترديدها عبر وصلات التريميد التي تحضر في إحيائها النساء من مختلف الأعمار، الجدات والأمهات والبنات الصغار، إلا أن البحث عن طرق أخرى كفيلة بالحفاظ على هذا التراث الأصيل، أضحى أمرا ضروريا اليوم – تقول ماضوي – ولعل التدوين لهذا الفن خطوة هامة لحفظه، وذلك من خلال إصدار دواوين تجمع قصائد التريميد، وكتبا تحفظ تاريخه والعائلات الفنية التي توارثت هذا الفن، وعرض عادات إحياء هذه الجلسات وغيرها من التفاصيل التي يمكن من خلالها المساهمة في توثيقه وحفظه وضمان استمراريته وحتى لفت الجهات المسؤولة للعناية به.
وبهذا الصدد، ذكرت الشاعرة عائشة ماضوي أنّ الحاجة رقية بن ساري التي ورثت هذا الفن عن أمها، أخبرتها أن أمها الحاجة المرحومة مباركة بن قطاية أوصتها بنشر كلماتها، مؤكدة عليها أن تحرص الفرقة على ترديد قصائدها أينما حلت، وهي كلمة أضحت واقعا اليوم بعد الخروج بهذا الفن للعلن، حيث تقول الحاجة رقية: “ها أنا اليوم أنشر قصائد أمّي وأردّد كلماتها في التريميد عبر الإذاعة والتلفزيون والجرائد ودور الثقافة”.
مع هذا، فإنّ التريميد ما يزال إلى غاية اليوم قائما على حفظ الكلمات وترديدها، وهو ما يستدعي تدوينه للحفاظ عليه، باعتباره جزءا من الذاكرة المجتمعية المحلية التي تتقاسم كثير من تفاصيلها مناطق أخرى مجاورة لورقلة.
شخصيات من تراث التريميد
وعن الشّخصيات التي كان لها أثرها في فن التريميد، فقد كنّ كثيرات كما قالت الشاعرة ماضوي، لكن لا تفضّل نسبة كبيرة من المؤديات ذكر أسمائهن لأسباب خاصة، وربما هذا ما ساهم في بقاء هذا الفن في الخفاء، ولم يمكنه من التعريف بنفسه وبكثير من المؤديات اللواتي أبدعن فيه.
ومن بين المؤديات اللواتي حملن هذا الفن في قلوبهن وكسرن الحواجز للخروج به إلى الجمهور العام، والتعريف به كفن تراثي محلي أصيل، الحاجة رقية بن ساري التي بدأت مسيرتها منذ الصغر، حيث ورثت هذا الفن عن أمها، باعتبار أنّ هذا الفن نشأ في مجتمع قروي نسوي، أين كانت النسوة قديما يردّدن كلمات نظّمنها وهن يقمن بأعمال منزلية تعد من صميم أشغالهن اليومية، كالحرف اليدوية، الرعي، حلب الماعز والنسيج، حيث تنسج المرأة وتدندن كلمات من نسج مشاعرها.
أمّا القصائد الأكثر تداولا فهي كثيرة، تقول ماضوي، وبينها “من طاع الوالدين يربح” و«عرس الميلود” للحاجة المرحومة مباركة بن قطاية، حيث نالت شهرة كبيرة وتمّ ترديدها كثيرا بين المغنيات والمؤديات، وهناك من أضاف إليها وغيّر فيها، ولكن في الأصل هي من كلمات المرحومة الحاجة مباركة بن قطاية، إضافة إلى قصيدة “صلوا صلوا على النبي ماني خايفة” للحاجة جمعة برهان، وكذلك قصيدة “اليوم برهوم دار لينا حفلة” للحاجة وادية ماضوي.