يُصاحب معرض الجزائر الدولي للكتاب، في كل طبعة، تفاعل النخبة والعامة، ونقاشات، في الواقع والفضاء الافتراضي، ما شكل مادة دسمة للجدل، تقتضي، بحسب مختصين ومتابعين، قراءة عميقة وإجابات مقنعة من كل الزوايا..
يتفق كثيرون على أن “سيلا” من أنجح تظاهرات الكتاب بالوطن العربي، من حيث التوافد، بحسب أرقام لإدارة التظاهرة، وبشهادة دور نشر أجنبية اعتادت على عدم تفويت المشاركة في كل طبعة.
بلغ توافد زوار الصالون في هذه الطبعة التي أسدل عنها الستار، السبت المنقضي، بـ 4 مليون و 300 ألف زائر، وهو رقم قياسي، بحسب ادارة المعرض، بزيادة نحو مليون زائر مقارنة بطبعة 2023.
في زمن منصات التواصل الاجتماعي، تُحظى الأحداث والتظاهرات، في أي مجال كانت، بنصيب من النقاش والتفاعل الافتراضي، تجتمع آراء على زوايا وتختلف في أخرى، وقد يتحول الأمر إلى جدال وسجال، ومحاكمات افتراضية بين “مع” و”ضد”، وهو أمر بات طبيعي ومعهود لدى “جمهور” المنصات..
“سيلا 2024” كان له “نصيب” خاص من نقاش واختلاف وجهات نظر، في مشاهد تبدو للبعض من زاوية غير تلك التي يراها آخرون، ما فجر “سيلا” تدوينات وتعليقات وتفاعل.
على سبيل الذكر لا الحصر، انتشرت فيديوهات تظهر تهافت شباب وتدافعهم لاقتناء رواية الكاتب السعودي، أسامة المسلم، وهو ما خاض فيه مستخدمو “فيسبوك” بإسهاب..
تباين النقاش بالفضاء الأزرق، في أواسط نخبة، من كتاب وأساتذة جامعيين وصحافيين، وامتد إلى الصفحات والمجموعات..
هناك من استغرب ما حدث، بل واستهجن المشاهد المتداولة من أجل ما يصفونه بأدب “فقاعة”، وما يقابله من تدني ذوق القراءة لدى الشباب، واصطف كُثُر وراء هذا الطرح، من باب المقارنة مع مؤلفات كتاب آخرين لم تحظى بحماس وتهافت مماثل من فئة الشباب.
ويطرح هؤلاء اشكاليات كثيرة، منها الجوانب السلبية المترتبة عن تأثيرات تحدد خيارات أفرزت أنماط استهلاك سريعة لدى الشباب، ما يقلل قدرتهم على تكوين تحليل نقدي وقراءة متأنية.
في جهة أخرى، هناك رأي نقيض، يرى الأمور من زوايا مغايرة ترتبط بجيل وبيئة جديدتين، تأخذ بعين الاعتبار مؤثرات تكنولوجية وما تحمله من متغيرات في حياة الأفراد من عادات وسلوكيات وخيارات تشبع حاجات لديهم.
“جيل متصل”..
في هذا الطابور من وجهات النظر، يقول يزيد أدغال، مختص في تكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي، في منشور بـ “فايسبوك”:.. تفاجأ الجميع مما حدث واستغرب كيف يحدث هذا، وهذا الجميع هو من فئة عمرية معينة تجاوز سنا معينا، أي إنهم ليسوا الجميع في الحقيقة.”
بحسب يزيد، كان يكفي أن يسأل أحد ممن يقرأ الكتب وهو دون العشرين عن الكاتب “فعرفت أنه معروف عنده وعند كثير من الشباب، وحدثني عن أشهر رواياته، وأن مؤلفاته تقترح عليه منصات الكتب وملخصاتها.”
ويتابع: “هنا فقط فهمت ما جرى وفهمت لماذا لم يفهم البعض، وأنا أولهم، الجيل الجديد، يا سادة، جيل متصل connected، وطريقة حصوله على المعلومة، المعرفة، الأدب مختلفة تماما عن الطرق التقليدية.”
من المنطقي جدا – يواصل في منشوره- أن قراءاته وكتبه وكاتبيه تصنعها خوارزميات وسائل التواصل، والمنصات، والترويج والتسويق الالكتروني، وهي وسائل تصنع قارئا مختلفا جدا عن القارئ التقليدي، وتجعل أيضا الكاتب المشهور ومستواه مختلفا أيضا عن الكاتب التقليدي.”
البحث في الجانب الايجابي
ويقول الصحفي وأستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة يحي فارس بالمدية، رشيد ولد بوسيافة، في منشور بحسابه “فايسبوك”، إنه قرأ جزءً من رواية خوف للكاتب السعودي أسامة المسلم ” صراحة أسلوبه سلس ولغته بسيطة، يستخدم جملاً قصيرةً وواضحةً، ولا وجود للإسفاف والتّقعّر وإظهار الإلمام الواسع باللغة العربية، يحرص على تجنب المفردات الصّعبة وتكرار المرادفات مثلما يفعل الكثير من الكتّاب والرّوائيين..”
ويوضح رشيد رأيه أكثر بقوله: ” قد لا نتّفق مع بعض الآراء الواردة في رواياته، لكنه نجح في استمالة الجيل الجديد من الشباب، الذي كنا نعتقد أن اهتمامه ينحصر في متابعة يوميات المؤثرين على مواقع التّواصل الاجتماعي..”
في ختام منشوره، يفتح ولد بوسيافة زاوية بحاجة إلى إجابات، عندما يقول: ” ربما البحث في الجانب الإيجابي في تدافع الشباب للحصول على رواية باللغة العربية، بدل الخوض في متاهات وقلاقل لا معنى لها، من قبيل أن الكاتب سخّر الجنّ ليأتوه بمئات الشّباب سعيا لتوقيعه!”
بين هذا وذاك، يرى الصحفي المتابع للشأن الثقافي، حسان مرابط، في تصريح لـ”الشعب أونلاين”، إن النقاش الدائر حول أعمال مماثلة، يبدو صحيا إذا كان يصب في خانة تحسين مستوى المقروئية لدى الجزائريين دون خلفيات فكرية وإيديولوجية معينة، “لكن أن تكتب وتدلي بدلوك لتكبح ميول ورغبة قارئ وتحدد له ما يجب أن يقرأ فهذا يتطلب تحليلا من كل الجوانب.”
في اعتقاد مرابط، من الطبيعي أن يكون للكاتب السعودي جمهور بالجزائر، كما في بلدان أخرى، إذا ما اعتبرنا أن هناك فئة من الكتاب الشباب يتخذون الـ “سوشل ميديا” فضاء لترويج أعمالهم.
من جانب آخر، يحيل ما حدث، برأي مرابط، إلى طرح أسئلة من قبيل: “لماذا لا يقبل الشباب بهذه الأعداد على الكتّاب الجزائريين؟ كما أن التوافد عليه بالمئات للظفر بكتابه الجديد المعنون بـ”خوف” لا يعكس المقروئية أو لا يمكن من خلاله قياس المقروئية في الجزائر.
ويلخص المتحدث النقاش بين من يرى هذا الكاتب السعودي فقاعة صنعتها منصات التواصل الاجتماعي، ومن يراه كاتب بتوجه جديد في عالم الإبداع الأدبي “وهي الكتابة الفانتازية التاريخية التي تتناول قصصا مشوقة وغريبة وغير مألوفة، ما قد يجعل الجيل الجديد ويدمن كتاباته.”
ويرجع المتحدث إلى ما أُشيع عن أعمال الروائية أحلام مستغانمي بوصف كتاباتها بـ”كتابات مراهقة”، لكن الكاتبة لديها جمهور قراء واسع داخل وخارج الجزائر “أعتقد أنّ القارئ له ميول وتوجه، ولا ينبغي أن نفرض عليه روية معينة أو كاتب معين.”
هل الجزائري يقرأ؟ هو سؤال يتكرر كثيرا في الوسطين الأدبي والإعلامي، وتبقى الإجابة عنه مجرد آراء سطحية وأحكام مسبقة وفق خلفيات فكرية معينة، بحسب المتحدث.
وفي غياب دراسات استطلاعية حقيقية صادرة عن مخابر بحث، لا يمكن تقديم إجابات وافية “والدراسات الاستطلاعية التي تنجز بين فنية وأخرى لا يمكنها تقديم إجابات واضحة أو أقرب إلى الواقع بشأن المقروئية في الجزائر.”، يقول مرابط.
يُفهم من أصحاب الرأي الثاني، الذين يأخذون بعين الاعتبار متغيرات مثل تأثير التكنولوجيا، أن هناك أنماط استهلاك جديدة لدى جيل “جديد”، رسمت عادات وميولات كتابة وقراءة غير معهودة لدى من سبقهم.
ووفق هؤلاء، لا يجب النظر إلى تأثير التكنولوجيا في خيارات القراءة من الجانب السلبي فقط، وإنما محاولة فهم ما يحدث من تحولات وتأثيرها على الثقافة العامة، قصد إحداث توازن يراعي سمات جديدة.