يكشف الفنّان كمال النايلي عن تفاصيل مشروعه الفنّي الجديد، حيث يشارك الفنّان مزيان إيزوران في ديو غنائي فريد يجمع بين الإيقاع القبائلي والنايلي. تهدف هذه المبادرة الفنية إلى تسليط الضوء على التنوّع الثقافي الجزائري من خلال الجمع بين الطابعين القبائلي والنايلي.
يؤكّد المتحدّث في حوار مع “الشعب” أنّ الطابع النايلي ما زال يحتفظ بمكانته الخاصّة بفضل الفنّانين الذين أبدعوا في تطويره، ممّا أتاح التواصل بين الأجيال المختلفة، ويضيف أنّه استطاع إدخال لمسة جديدة للأغنية النايلية، حيث مزج بين المقامات الموسيقية الشرقية ودمج الفصحى مع الدارجة لخلق أغنية تصل إلى العالمية.
الشعب: ما هي أبرز المحطّات في مسيرتك الفنية، وكيف ساهمت في تطوير الأغنية النايلية؟
كمال النايلي: أولا، معكم كمال النايلي، ولدت في حي “قناني” بمدينة الجلفة عام 1978، كانت بداياتي مع الفنّ وأنا في السادسة عشر من عمري، حين كنت ضمن المجموعة الصوتية في المدرسة. شغفي بالموسيقى دفعني لتكوين فرقة خاصّة خارج المدرسة، وأسميتها “المرحول”. ضمّت الفرقة أربعة أعضاء، كانوا من جيراني وأصدقائي، واعتمدنا على العود والبندير في أدائنا.
كنّا نغنّي القصائد في مناسبات الختان والمولد النبوي الشريف، ولم يكن الغناء النايلي حينها شائعا. كنت أنا من يتولى الغناء، وكانت أغانينا في مدح النبي عليه الصلاة والسلام.
في سنة 1992، انتقلت إلى مدينة “الإدريسية”، حيث مكثت هناك حتى سنة 2000. لم أتوقف عن الفنّ، بل كوّنت فرقة أخرى حملت نفس الاسم “المرحول”، وأضفنا إليها العود والكمان..خلال تلك الفترة كتبت العديد من القصائد، وكان شغفي بالتراث حاضرا في كلّ أعمالي.
في عام 1994، أصدرت أول ألبوم لي بعنوان “الله الله يا حبابي زوروني مرة”، كان يحتوي على أربع قصائد تراثية وثلاث أغاني نائلية، كتبت كلمات الأغنية الرئيسية بنفسي، وساعدني في تلحينها الفنّان الراحل كمال زريعة، ورغم أنّ الشريط لم يحقّق النجاح الذي كنت أطمح إليه، إلا أنّه منحني شهرة في المنطقة.
إنطلاقتي الحقيقية كانت سنة 1995 مع ألبومي الثاني “يمينة مدي ذراعك راني جيت”، وكان يحتوي على ستّ أغاني واثنين من المواويل، وحقّق هذا الألبوم نجاحا كبيرا..الأغنية الرئيسية كانت من كلمات إبراهيم قوادري، أما باقي الأغاني فقد كتبتُ كلماتها ولحّنتها بنفسي.
هذا الشريط فتح لي أبواب الشهرة، حيث استطعت أن أضع بصمتي في عالم الغناء النايلي، وأساهم في إحياء التراث الموسيقي وتطويره ليصل إلى جمهور أوسع، اليوم، وأنا أنظر إلى البدايات، أشعر بالفخر بكلّ التحدّيات التي واجهتها وبكلّ خطوة قطعتها في رحلتي الفنية التي انطلقت من قلب الجلفة.
ومن الذي أطلق عليك لقب النايلي؟
أنا من أطلقته على نفسي، وعندما اخترت اسمي الفني “كمال النايلي”، كان ذلك جزءا من تعريفي بالطابع النايلي الذي أعتزّ به، لم أكن أريد أن أكون “الشاب كمال”، بل أردت أن أعرّف نفسي بأصالتي وباللّون الفنّي الذي نشأت عليه، لذلك كان من الطبيعي أن أختار اسم “كمال النايلي”، ليصبح اسمي مرادفا لهذا الطابع الموسيقي الأصيل.
كيف طوّرت مسيرتك الفنية في الغناء النايلي، وما الّذي أضافته تجربتك لأسلوبك الفنّي؟
المواضيع التي كنت أتناولها في ألبوماتي كانت مختلفة عن باقي الفنّانين، حيث كنت أوّل من غنّى الغزل العفيف بأسلوب يتسم بالرقي والذوق. وهذا كان جديدا في تلك الفترة، وكما أخبرتك أنّ أوّل ألبوم لي “يمينة مدي ذراعك راني جيت”، حقّق نجاحا كبيرا رغم أنّه كان يركّز على هذا النوع من الغناء. سجّلته حينذاك في الجزائر العاصمة، وهو ما أضاف بعدا خاصّا في مسيرتي الفنية.
بعد نجاح هذا اللون من الغناء، قررت أن أواصل في نفس الاتجاه، وأصبحت أكتب أغاني الغزل بشكل مستمرّ، ما منحني فرصة لاستكشاف وتطوير هذا اللون الفنّي.
ثم بدأت النجاحات تتوالى عندما كسرت الروتين التقليدي في الغناء النايلي بإضافة المقامات الموسيقية العربية، بما في ذلك الحجاز، البياتي، الراست، النهاوند، السيكا وغيرها من المقامات التي تشكّل السلم العربي، مع الحفاظ على الإيقاع والريتم الخاص بالطابع النايلي، حيث أصبحت الأغنية أكثر تنوّعا، وقد كان ذلك بالنسبة لي تحدّيا أن أغنّي بمقام الحجاز أو أن أنتقل بين البياتي والحجاز بسلاسة. لكن هذا المزج بين المقامات الشرقية أضاف بعدا جديدا للأغنية النايلية، وجعلها أكثر تميّزا وملائمة للذوق الموسيقي الحديث، ممّا ساهم في نشرها وتوسيع نطاقها.
هذا التغيير أخرج الطابع النايلي إلى العالمية، حيث عندما كنت أذهب إلى تونس، كنت أجد أشرطتي تباع هناك، ما كان يثبت أنّ الأغنية النايلية قد بدأت تنتشر خارج حدود الجزائر. وكانت تلك اللحظات بمثابة تأكيد بأنّني على الطريق الصحيح في سعيي لنشر هذا الطابع الموسيقي الذي أعتبره جزء لا يتجزأ من الهوية الفنية الجزائرية.
هل يمكن للأغنية النايلية أن تصبح عالمية؟
نعم، عند مشاركتي في مهرجان سيدي نايل بتونس، حيث تمّ تقديم الأغاني النايلية للجمهور، وشارك فيه عدد من الفنّانين من الجلفة ودول أخرى ذات جذور نايلية..العديد من الفنّانين أخبروني أنّهم سمعوا أغاني الطابع النايلي عبر الفيسبوك، وهناك فنّان أردني نشر أغنية نايلي ووجه لي تحية، وكان ذلك يعكس مدى تأثير هذا الطابع على المستوى الدولي، حيث وصلت الأغاني النايلية إلى شوارع الأردن.
فقد لاحظت مدى اهتمام الجماهير بالطابع النايلي، ما زاد من حماسي لاستخدام مزيج من العربية الفصحى والدارجة في الأغنية النايلية لجذب جمهور أوسع. هذا المزج يسهّل على المستمعين من مختلف الثقافات فهم الأغنية، وفي نفس الوقت يحافظ على هويتها. بدمج الفصحى مع الدارجة، يمكن نشر الأغنية النايلية ليس فقط في الجزائر، بل في العالم العربي بأسره. القصيدة التي كتبتها، “أختم بكلّ شيء جميل..أحبك بلا دليل”، تجمع بين الأسلوب الشعري في الفصحى واللغة اليومية في الدارجة، ممّا يجعلها قريبة للقلب وسهلة الوصول إلى جمهور أوسع.
وعلى ذكر الدمج، فقد التقيت الفنّان ايزوران مزيان، وهو عضو لجنة الديوان الوطني لحقوق التأليف والحقوق المجاورة، خلال تسجيلي أحد ألبوماتي، حيث كان يحضّر لي بعض الألحان، واقترح عليّ مشروعا فنيا مشتركا “ديو” بين الأغنية القبائلية والنايلية، حيث يغنّي هو بالقبائلية، بينما أغنّي أنا بالنايلية. مع الحفاظ على روح كلّ لون غنائي.
الأغنية لا تهدف فقط إلى المزج بين اللهجتين، بل تحمل رسالة عن التنوّع والوحدة في التراث الجزائري. دخول اللّغة الأمازيغية في أغنية نائلية يعكس تمازج الثقافات المحلية، وهو ما نريد تقديمه للجمهور. وقد أنهيت كتابة الأغنية التي ستجمع بين الطابعين.
كان لك “ديو” مع عدد من الفنّانين، فما أبرز محطّات هذا التعاون؟
نعم، في عام 1999، تعاونت لأول مرّة مع “الشابة نايلة” في أغنية تراثية كانت تغنى عادة في البيوت من قبل العجائز، وهي “يا صحبتي يا رحبتي يا دقاع الزين، نشريلك صباط مذهب لبقيتي تخطيني”. كانت هذه الأغنية بمثابة انطلاقة جديدة لي ولنايلة، وحقّقت نجاحا كبيرا واشتهرنا سويّا في الأوساط الفنية، ومن بين أبرز الأعمال المحبوبة لدى الجمهور في مجال “الديو”، كانت أغنية “يا قمري قمري اللمعة” مع نايلة و«عريسنا دار الحنة”. وتعاونت أيضا مع الشيخ ثامر الذي لم ينل حقّه الكامل هنا في الجلفة، رغم موهبته الكبيرة.
وسجّلت “ديو” مع الفنانة الجزائرية القديرة مريم وفاء في أغنية نايلية بعنوان “يا عيشة لمرابطة راني جيتك”. بعدها، تعاونت مع المرحومة نعيمة عبابسة، التي تنحدر من ولاية أولاد جلال ولها أصول نايلية، وسجّلنا أغنيتين، الأولى بعنوان “رانا جبناها اليوم وجينا..وليدنا جيناه نقولو مبروك..”، والتي لقيت نجاحا كبيرا في الأوساط الفنية، والثانية “صبرت وهذي مدة من بعد سنين الشدة..فرج ربي يا وردة واليوم دخلتي داري”.
وتعاونت أيضا مع الفنان شرايطي الزاهي، وكتبت ولحّنت له عددا من الأغاني.
كما أطلقت أغنية من كلماتي وألحاني بعنوان “هزو البنادر هزة الغايطة، أعطوها فزة يمينة طاحت في الحال”، والتي أبدعت فيها الشابة يمينة وحميدة النايلي، ولقيت هذه الأغنية نجاحا كبيرا.
وأشير هنا، إلى أنّني عندما أسجّل “ديو” مع فنّانين من ولايات أخرى، أحرص على اختيار كلمات تتناسب مع أسلوبهم وطريقة غنائهم، فأنا أعلم كيف يمكن أن تؤثر اللهجة على الأداء. لذلك، أعمل على تبسيط اللهجة لتتلاءم مع نطق الفنّان، وأحيانا أخفّف منها بحيث تكون الكلمات أقرب إلى سهولة الأداء بالنسبة لهم.
وقد واجهت صعوبات مع بعض الفنّانين بسبب اللهجة، لكن هناك من أصريت عليهم لإتقان الكلمات وحفظها، بينما اضطرّتني بعض الظروف إلى إلغاء بعض “الديوهات” التي لم تحقّق التوافق المطلوب.
وهنا أقول إنّ الشابة يمينة والمرحومة نعيمة عبابسة هما الوحيدتان اللّتان نجحتا في أداء الأغنية النايلية بشكل رائع، لأنّهما غنيتا العديد من الألوان الموسيقية الأخرى، ممّا جعلهما قادرتين على التكيّف مع الطابع النايلي بمرونة، وتمكّنتا من تقديمه للجمهور بكلّ اقتدار.
كذلك، شرايطي الزاهي، الذي اشتهر بالغناء في الطابع الشاوي والسطايفي، فقد كتبت له أربع أغاني نايلية، وهو الآن يغنّي النايلي بشكل مميّز، ما يعكس تزايد الإعجاب بهذا الطابع. أما مريم وفاء فقد قدّمت مجموعة متنوّعة من الأغاني عبر جميع الطبوع، بما في ذلك أيضا الأغنية النايلية.
يبدو أنّك كاتب وملحّن أيضا؟
أنا مغنّي وكاتب وملحّن، وقد كتبت العديد من الأغاني لعدد من الفنّانين مثل حميدة النايلي، يمينة النايلية، الشيخ ثامر، نعيمة عبابسة وشرايطي الزاهي في الطابع النايلي. وقد كانت الكتابة والتلحين هما موهبة طبيعية لدي، حيث تتدفّق الكلمات الغنائية إلي بسهولة.
كلّ هذا كان بفضل الموهبة التي منحني الله إيّاها، كما أنّني كنت أستمع لأغاني كبار الفنانين مثل سي حمد لمين، عبد الهادي، وخليفي أحمد، الذين تأثرت بطبوعهم الصحراوية ودرست ألحانهم بتمعّن. والتقيت بالفنّان عيشي البشير والشيخ الصديق رحمه الله، وزرت الفنّان الكبير خليفي أحمد في بيته عندما كان مريضا رحمة الله عليه.
كيف ترى مستقبل الأغنية النايلية وتأثيرها في الساحة الفنية؟
الأغنية النايلية تتمتع بمستقبل واعد بفضل قدرتها الفائقة على منافسة مختلف الطبوع الموسيقية، حيث تجمع بين الكلمات الجميلة واللحن العذب، دون أن تحتوي على كلمات جارحة أو خادشة للحياء، ومن الأسباب الرئيسية لهذا النجاح هو دمج العصرنة في الكلمات والموسيقى، ممّا جعل الأغنية النايلية تكتسب شهرة واسعة وتحقّق نجاحا باهرا. وقد أصبح العديد من الفنّانين يدخلون الطابع النايلي في أعمالهم، متجاوزين الطوابع التقليدية مثل الشاوي والسطايفي، ممّا أسهم في تعزيز مكانتها بين الطبوع الجزائرية.
الأغنية النايلية لم تعد تقتصر على الأعراس والاحتفالات، بل يمكن الاستماع إليها في جميع الأوقات، حيث تتناول مواضيع اجتماعية وفلسفية عميقة مثل العلاقات الإنسانية والتحدّيات الاجتماعية، إضافة إلى مواضيع أخرى مثل الغرور، الظلم، والصراع النفسي، ممّا يجعلها تحمل رسائل اجتماعية هادفة.
كما تلامس الأغنية النايلية قضايا اجتماعية عميقة مثل العشق القديم والحب الضائع، كما في أغنيتي “جرح قديم حسبتو باري مخبي في لكنان مداري..كانت تمشي معاها صابي زادت في ليعات عذابي رجعت وحليت كتابي أول صفحة جرحتني..” والتي تعبر عن الألم الناتج عن علاقة عاطفية انتهت. وتتناول أيضا الفقر والظروف الصعبة، مثل أغنيتي “انايا زوالي”، التي تركّز على معاناة الأشخاص في ظروف اقتصادية قاسية.
فضلا عن الحفاظ على الهوية الثقافية، فهي تتحدّث عن مفردات لها جذور عميقة في تاريخنا، مثل “القنطاس”، وهو قطعة خشبية تستخدم في رفع وتثبيت الخيمة، أو “الخلالة” وهي أداة مرتبطة بالنسيج. وأغنية “سرجلي عودي واهداني نغدا”. كلمات مثل هذه تحافظ على الهوية وتربطنا بالجغرافيا والتاريخ والتراث.
إضافة إلى ذلك، نجد مفردات تحكي عن الجمال الطبيعي للمرأة مثل “فانية كي ريم الغزلان”، حيث يرتبط “الريم” بالغزالة التي توجد في صحراء مسعد، أو لدمي وهو صغير أحد أنواع الغزلان الموجودة في جبال بوكحيل بمسعد. نجد أيضا كلمات تتعلّق بالبيئة مثل “عين العارم”، وهو نوع من الطيور، وأغاني عن الأودية مثل “ياخاوتي دارو عنا عسة ياخاوة مدكوك”. كلّ هذه العناصر تعكس جمال بلادنا وتراثها الطبيعي والثقافي وتساهم في إيصال رسائل إنسانية قوية من خلال كلمات مؤثرة وألحان جذّابة.
الطابع النايلي جذب انتباه العديد من الفنّانين، لكن ليس كلّ فنّان قادر على أدائه بنجاح، إذ يتطلّب “رويحة” خاصّة تتمثل في اللهجة والمفردات التي تميّز الأداء النايلي. الشابة يمينة مثال على ذلك، حيث أبدعت في أداء النايلي بفضل صوتها القويّ وقدرتها على غناء أنماط متنوّعة مثل الشاوي والسطايفي، بالإضافة إلى الزندالي الذي يشبه النايلي في الإيقاع.
وأنا دائما، من خلال هذه الديوهات، أسعى إلى نشر الأغنية النايلية وتعريف الجمهور بها. وقد تحقّق ذلك جزئيا من خلال تنظيم المهرجانات الوطنية التي ساعدت على تألّق الأغنية النايلية في المشهد الفنّي الجزائري. وأتمنى أن يعاد إحياء الأسابيع الثقافية التي ساهمت في تبادل الثقافات بين مختلف الطبوع والولايات.