أبرز مدير المتحف الوطني للمجاهد، البروفيسور نايت قاسي إلياس، في حديث لـ “الشعب” بمناسبة الذكرى 64 لمظاهرات 11 ديسمبر 1960، أنّ هذا الحدث يشكّل ملحمة تاريخية شعبية، وثمرة لجهد عسكري، دبلوماسي وتعبئة جماهيرية.
يرى محدّثنا أنّه، لابدّ من تدريس هذا الحدث التاريخي على أنّه نصر سبق نصر 1962، واستفتاء شعبي.
ما حدث في ذلك اليوم هو استفتاء شعبي ونصر سبق نصر 5 جويلية 1962
11 ديسمبر 1960 محطّة مفصلية في تاريخ ثورة التحرير، كباحث ومدير متحف ما هي قراءتك لهذا الحدث البارز في نضال الجزائريين؟
البروفيسور نايت قاسي: 11 ديسمبر 1960، ملحمة تاريخية شعبية، إذا رأينا على مستوى المجهود الحربي والعسكري لفرنسا آنذاك، نجد بأنّه وقع تراجع وله مسبّبات، خاصّة العمليات العسكرية الكبرى مع مجيء ديغول إلى الحكم، عمليات الخنق التي قامت بها الإدارة الفرنسية من خلال بناء خط شال، إضافة إلى خط موريس على الحدود، مراقبة أعالي البحار لمنع دخول الأسلحة، وبالتالي كان هناك وضع صعب جدّا ومرحلة أكثر حرجا من بداية الثورة التحريرية في حدّ ذاتها، لأنّ الثورة وصلت إلى مراحل متقدّمة كانت مراحل مفصلية، لكن أطرح سؤال مفهوم النصر بالنسبة للطرفين.
نلاحظ أنّ الثورة الجزائرية في هذه المرحلة ركّزت بشكل كبير جدّا على المظاهرات الشعبية مثل مظاهرات 11 ديسمبر 1960، ومظاهرات 17 اكتوبر 1961، ثمّ مظاهرات ورقلة في 27 فيفري 1962، التي كانت من أجل دعم الوحدة الترابية وإحباط مؤامرة التقسيم التي كان يروّج لها الاحتلال الفرنسي، وكان لتلك المظاهرات تأثير كبير جدّا على مسار مفاوضات إيفيان وانتهت بانتصار الجزائر ووحدتها الترابية.
كان الحلّ العسكري لم يتمّ حسمه وكان العمل بسيكولوجي أكثر من شيء آخر ويتعلّق بالعمل على المستوى الشعبي.
قادة الثورة كان لهم من العبقرية والذكاء بتغيير الميدان وانتقلوا بالثورة من مجالها العسكري ثمّ الدبلوماسي، ثمّ الإعلامي إلى الزخم الشعبي، هناك الكثير ما يقول، النصر بالنسبة للقائد العسكري يختلف عن النصر المفهوم بالنسبة للثائر، القائد العسكري يحسب نصره انطلاقا ممّا حقّقه من إنجازات عسكرية من تقدّم في أرض العدوّ، وعدد القتلى الذي يكبّدهم.
ولكن بالنسبة للقائد الثائر فإنّ قيمة النصر تختلف بقدر ما يتركه وراءه بعدد الذين يحملون فكرته، وهنا تمّ استلهام فكرة العربي بن مهيدي، “ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب” وهذه هي فلسفة الثورة الجزائرية، التي رأت أنّ كلّ الوسائل الأخرى عرفت تحجّما وانحصارا، فكان الجانب الشعبي هو الحامل والرافد الأكبر وبالتالي تغيير الخطة وثقل الثورة من حجمها العسكري والديبلوماسي والإعلامي ثمّ العودة بها إلى الحجم الشعبي.
قادة الثورة كانوا من العبقرية، بحيث حوّلوا الكثير من مراكز القوّة ودرسوها بشكل رهيب جدّا، اتذكّر هنا أيضا بأنّ الاعتماد على المظاهرات الشعبية كان له أثره باعتبار أنّ غالبية، الذين كانوا يشاركون في المظاهرات الشعبية هم أبناء الرابعة عشر إلى الثامنة عشر هم ممّن رفض التحاقهم بالجبال لأنّه كان هناك نقص للأسلحة وحصار وعمليات عسكرية كبرى وحجم وجهود عسكرية فرنسية رهيبة جدّا.
هل يمكن اعتبار 11 ديسمبر 1960، محطّة عجّلت بالمفاوضات واستقلال الجزائر؟
الأكيد..نقول أنّ 11 ديسمبر1960 عجّلت بالمفاوضات، خاصّة على مستوى الأمم المتحدة وما حقّقته القضية الجزائرية من اعترافات، لكن لا بدّ وأن نقف على مبدأ أساسي أنّ الثورة الجزائرية في مبدئها اعتمدت على ذاتها، على قدراتها ولم تعتمد أساسا على الآخر.
وبالتالي 11ديسمبر1960 كانت ثمرة لجهد كبير عسكري، دبلوماسي، تعبئة جماهيرية كبيرة جدّا، لكن في الوقت نفسه المظاهرات هي بذرة بذرت من أجل تحقيق شكل آخر وتقدّم آخر بالنسبة لقضية المفاوضات، والرهان الأكبر كان على الشعب الجزائري وعلى مستوى وعي هذا الشعب.
مظاهرات 11 ديسمبر 1960 لا بدّ من أن تدرّس على أساس أنّها نصر سبق نصر19 مارس 1962 و5 جويلية 1962، أنا أعتبر مظاهرات الحادي عشر ديسمبر1960 استفتاء مسبقا بالنسبة للثورة الجزائرية الذي جاء بعد ذلك وتوّج بالاستقلال.
هل الدّراسات والبحوث الجامعية اليوم، أعطت لهذا الحدث التاريخي الهامّ في نضال الجزائريين حقّه من الدراسة؟
هناك عمل جادّ يقام وهناك دراسات كثيرة تناولت مظاهرات 11 ديسمبر 1960، ولكن أنا أعتبر بأنّ تاريخ الجزائر مثل بيان أول نوفمبر ومؤتمر الصومام وكلّ محطات الثورة الجزائرية، كلّ حدث تمّ تناوله من زاوية أخرى ربّما يفيض بأشياء أخرى ومعلومات أخرى ونفحات أخرى.
أرى بأنّ كلّ الدّراسات، التي تمّت على 11 ديسمبر1960 لا يمكن أن نطلب من الرجل أكثر ممّا يطيق أو نطلب من جيل أكثر ممّا هو مطلوب، توجد الكثير من الوثائق الأرشيفية الفرنسية، الآن هناك انفتاح على الإعلام الإيطالي، الذي سطّر وصوّر ورافق وسلّط أضواءه بشكل كبير جدّا على مرحلة 1960و1961، وخاصّة في 11 ديسمبر1960، ربّما أنّنا لم نطّلع بعد على ما كتبته الصحافة الأوروبية، الاسكندنافية، النرويجية، السويدية، الدانماركية، هناك عمل جبّار ينتظرنا من أجل الاستفادة منها.
ربّما المشكل هو مشكل اللّغة والتواصل، ربطنا أنفسنا مباشرة بما أنتجه الأرشيف الفرنسي وما كتبه الفرنسيون بشكل كبير جدّا، لكن أقول لا يمكن أن نتوقّع من باحث حتى ولو أنّه يمتلك الكثير من الوطنية أن ننتظر منه شيئا يختلف عمّا كتبه الفرنسيون، باعتبار أنّ المنهج الذي يعتمده سواء كان منهج الحوليات، المدرسة الوضعية أو المدرسة الوثائقية وضعه الغرب.
الغرب وضع منهاجا، وعلينا نحن أن نميّز ونقدّم منهاجا جديدا خاصّا بنا، لا يمكن أن نطالب باحثا أو طالبا بشيء إيجابي أو مميّز في الدراسات التاريخية، وأساس معرفته ومنهاجه وإنتاجه يعتمد على المناهج الغربية. فإنّه كالذي تعطيه فسيلة أو شجرة برتقال وتنتظر بعد أعوام أن يعطيك تفاحا.
ما دام طالب التاريخ والدكتوراه مازال يعتمد في أدوات بحثه ومصطلحاته على المصادر الفرنسية وعلى المنهاج الغربي، الذي وضع في إطار حركة فكرية مختلفة مستحيل أن أطلب منه أن لا يقع في أخطاء، وبالتالي لا بدّ من إعادة تصحيح وتكون لدينا الجرأة. الغرب أعطانا الفرصة من خلال ما لاحظناه حول القيم، التي كان يدافع عنها قيم الحرية والإنسانية.
هذه الإنسانية “الشقراء” اليوم نراها في تعامل الأوروبيين مع الأوكراني، يختلف عن تعاملهم مع الفلسطنيين، بالنسبة لهم الأوكراني مقاوم لبلده، والفلسطيني لا يعتبرونه مقاوما ينعتونه بـ«الإرهابي”، هذا جعلنا نتخطّى وعيا حقيقيا بضرورة إعادة النظر في حقيقة انبهارنا بالغرب وبمنهاجهم، أخذنا بها وكتبنا عنها وكتبنا بها، وتفقّهنا بها وحاولنا تحليل وتفسير أشياء كثيرة بها.
الآن ظهر أنّ المصدر، الذي كان ينتج مثل هذه الأفكار، فهي أفكار بالية، ضروري علينا اليوم أن تكون لنا الجرأة ليكون لنا منهج على شاكلة منهج ابن خلدون وغيره، التحليلي النقدي، يمكن به أن ننقد الدراسات التاريخية.
أعتقد أنّ كلّ الدراسات التاريخية أصبحت دراسات مشابهة، الدراسات التاريخية كثيرة لكنّها كتبت ونظر إليها بمنهاج غربي، وضع في أدبياتنا وتفكيرنا، الحرية التي جاءت مع الثورة الفرنسية هل هي نفس الحرية التي تطرح اليوم، الحرية والقيم الإنسانية كما نراها نحن ليس مثلما يراها الآخرون فهي تختلف.
وبالتالي منطلقاتنا وتصوّراتنا للتاريخ والحياة تختلف، هناك دراسات أخرى وجدت هذا الموضوع علم الاجتماع، والاقتصاد، استطاعوا أن يقدّموا للعالم حلولا، في حين الدراسات التاريخية على مستوى الجامعات الجزائرية مازالت حبيسة المدارس الكولونيالية عموما، إلاّ في بعض الشذرات مثلا كتابات المؤرّخ المرحوم جمال قنان، أبو القاسم سعد الله، نظرة مولاي بلحميسي للتاريخ الحديث، ناصر الدين سعيدوني، موسى لقبال، وغيرهم.
نحن مازلنا لم نتفق على وجود مدرسة تاريخية جزائرية، يقال لك هناك إرهاصات، هناك مفاهيم، مصطلحات طيف المدرسة الجزائرية موجود، لما لا نجسّده، عندما يتمّ تجسيده هنا يمكن الحديث على دراسات تاريخية حقيقية قائمة بذاتها، المدرسة التاريخية لها رجالاتها، وطريقة تفكيرها والبحث، فقط تحتاج منا إلى الإرادة لتجسيدها والإيمان بها.
لا يمكن محاسبة باحث قام بدراسات تاريخية على شاكلة ما كتبه جوليان، واجيرون، سطورا، على وجوب كتابة تاريخ وطني، لأنّ أدواته غير هذه الأدوات.أقول وأكرّر أنّه إذا كان المؤرّخ يكتب بأدوات وضعت وحدّدت عند الآخر مستحيل أنّنا سنصل إلى دراسات مثمرة، مستشرقة برؤية واضحة إلى المستقبل لأنّنا نظلّ في نفس المكان ولا نتقدّم بخطوة.
قرار رئيس الجمهورية بإنشاء مدرسة عليا للتاريخ..إضافة كبيرة للذاكرة
في هذا الاطار، ما مصير الورشات التي فتحت بالمركز الوطني للمقاومات الشعبية والحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر بالأبيار، حول ضبط المصطلحات التاريخية؟
هناك عمل جادّ ورشات تقام، لكن هذه الورشات تحتاج إلى الدعم المالي وإلى رؤية حقيقية وخطاب واضح، وزارة المجاهدين وذوي الحقوق تسير في هذا الإطار، وضعت هذه الاستراتيجية.
رئيس الجمهورية قرّر إنشاء مدرسة عليا للتاريخ، وهذا أمر مهمّ وعملية كبيرة جدّا، وجمعية وطنية يجتمع فيها ويتبادل فيها المؤرّخون الآراء والأفكار، خاصّة بعد تجميد اتحاد المؤرخين الجزائريين. كتجربة لا بدّ من أن نأخذ منها العبر لتأسيس جمعية وطنية تعمل على الحفاظ على الذاكرة، هناك أيضا مجهود كبير لوزارة المجاهدين يرتبط بالتنسيق بين كلّ هؤلاء الشركاء والفاعلين في مجال الذاكرة سواء الشباب، المجتمع المدني، سفراؤنا في الخارج وهم المهاجرون، الإعلاميون المثقفون، الرياضيون، كلّ هؤلاء لا بدّ وأن ننطلق بهم وكلّ شخص تكون له رؤية، كلّ واحد جزء من ذاكرة الجزائر ولا بدّ من الدفاع عنها، كلّ بطريقته، لكن في النهاية لا بدّ وأن يكون عندنا تصوّر واحد.وزارة المجاهدين لها رؤية بنيت بناء صحيحا أمام المكاسب، التي تحقّقت في مجال الذاكرة، وبالتالي لدينا رصيد رهيب جدّا يمكن تحقيقه.
اليوم نرى مؤثّرين جزائريين مثل محمد دومير، يُعرّفون بتاريخ الجزائر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هل ترون أنّها وسيلة فعّالة للتعريف بذاكرة الجزائريين، خاصّة وأنّ القسم الأكبر من الشباب موجود في الفضاء الأزرق؟
وجود مثل هؤلاء المؤثّرين وقع فيه لغط كبير بين الرافض والقابل، أعتقد أنّ المشكل الأكبر في هذا هو أنّ المثقّف الجزائري تخلّى عن مهمّته ولم يرغب في فقدان قدسية منصبه، اليوم عندما تضع تعليقا في مواقع التواصل الاجتماعي تصلك آلاف غير المرغوب فيها.
في حين في الماضي المؤلّف عندما يكتب كتابا ويلتقيه في المعرض إلاّ الراغبين في كتابه، الآن المؤثّرون يمتلكون لغة هذا العصر الرقمية، لكن أطلب أن يكون هناك مرافقة تاريخية، في كتابة السيناريوهات، يمكن لهؤلاء المؤثّرين أن ينقلوا المعلومة كما شاؤوا، لكن معلومة صحيحة غير مغلوطة فيها الكثير من المصداقية.هذه المعلومة والمصداقية يمكن تحرّيها مع المؤرّخين المختصّين في التاريخ، لذلك هناك كتاب ظهر مؤخرا لأحد المؤثّرين حول الجزائر وبداياتها الأولى وجد لغطا كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن أقول أنّها تبقى اجتهادات، الدور على المؤرّخ أن يكتب في التاريخ كي لا يبقى مجرّد منتقد، لأنّ المؤرّخ الحقيقي بما يكتبه وما يمتلكه من رصيد علمي، ودراسات وما يتركه من كتب، تعرف المؤرخ الوطني والمثابر والنزيه من خلال مؤلّفاته، هناك ما يكتب رسالة الدكتوراه ثمّ يتوقّف نهائيا ويبقى فقط في بعض المقالات والشذرات هي نوع من الإجترار الثقافي والتاريخي، اليوم المؤرّخ يجب أن يأخذ بزمام الأمر، الدولة وفرت الكثير.
تحقّق الكثير من مكاسب على المستوى الوطني خاصّة في مجال الذاكرة، المبادرة مفتوحة فلنبادر ونكتب تاريخنا كما نراه وانطلاقا ممّا كتبه أقطاب التاريخ الجزائري مثل جمال قنان، أبو القاسم سعد الله، ناصر الدين سعيدوني، يحيي بوعزيز، مولاي بلحميسي وغيرهم، كيف أضافوا لهذه المدرسة، اليوم لا بدّ أن نصونها ونحافظ عليها.
أمّا قضية المؤثّرين، فأعتقد أنّهم إضافة ولن يكونوا الأصل، رافد آخر لنقل الذاكرة ولكن لن يكونوا مؤرّخين بالدرجة الأولى، لكنّهم يكتسبون شيئا أساسيا لا يمتلكه مؤرّخ اليوم، الذي هو لغة العصر الرقمي، اللغة السهلة التي تصل.
وبالتالي، لا بدّ وأن لا ننكر عليهم ذلك، لكن أن نرافقهم من خلال تصحيح السيناريو ثمّ يقدّموه بالطريقة الفنية اللائقة ووصولها إلى الشباب، المؤثّر لا يكتب التاريخ هو رافد من الروافد والمؤرّخ هو الأصل لأنّه هو الذي يكتب لأنّه يمتلك الأدوات.