عزّزت في الأسابيع الأخيرة شواهد العودة القوية للجزائر نحو عمقها الإفريقي، من خلال النشاط الدبلوماسي المكثف، كالزيارات المتبادلة رفيعة المستوى، ومضمون اللقاءات الثنائية المقحم للبعد الاقتصادي في علاقة التعاون.
ملف من اعداد آسيا قبلي، حياة-ك، علي عويش، سفيان حشيفة
الرئيــس تبون يعيد التشاور والعمل الإفريقي المشترك إلى مجـده
رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، الذي أعاد ترتيب دائرة إفريقيا إلى رأس سلم السياسية الخارجية للبلاد، منذ 5 سنوات، عزّز هذا التوجه في الهيكل المؤسساتي للدبلوماسية الجزائرية، بإدراج الشؤون الإفريقية ضمن التسمية الرسمية لوزارة الشؤون الخارجية، كما قام باستحداث منصب كاتبة الدولة المكلفة بالشؤون الإفريقية، ليؤكّد مدى ارتباط الجزائر بعمقها الإفريقي. تبني الجزائر لدبلوماسية فعّالة تجاه فضائها الطبيعي في إفريقيا، قائم على عديد الأسس كالتاريخ المشترك وقيم الكفاح التحرري ضد الاستعمار، والتقاء رغبات شعوب القارة في تنمية حقيقية وسيادة وطنية كاملة، وكذا الاعتقاد الراسخ بمبدأ التضامن القاري في ظل نظام دولي غير عادل، ويعيش في الراهن تحولات خطيرة ومتسارعة.
في هذا الملف، تتناول “الشعب” أوجه التوجه الإفريقي للدبلوماسية الجزائرية، كانخراطها في العمل لصالح الأجندة السياسية للاتحاد الإفريقي، وخدمة قضايا السلم والاستقرار، مع تكريس البعد الاقتصادي كمحدد للعلاقات بين دول القارة.
الجزائر المنتصرة.. مع إفريقيا قولا وفعلا
تنخرط الجزائر، عبر دبلوماسيتها، بشكل نشط في تجسيد الأجندة السياسية للاتحاد الإفريقي، سواء داخل القارّة أو خارجها على مستوى المحافل الدولية، وتلحق الفعل بالقول في كل الملفات التي تحظى باهتمام جماعي لدول القارة، وعلى رأسها إصلاح مجلس الأمن، وتكريس الحكامة وخدمة القضايا العادلة، ودعم حقوق الشعوب الإفريقية في الحرية والتنمية.
أعاد رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، رسم أبعاد السياسة الخارجية للبلاد، بالشكل الذي جعل من إفريقيا امتدادا طبيعيا للجزائر، وعمقا استراتيجيا لها، تتفاعل معه بنشاط دبلوماسي مكثف على الصعيدين الثنائي والمتعدد في إطار الاتحاد الإفريقي.
تجسيد الأجندة السياسية للاتحاد الإفريقي داخل القارة وبالمحافل الدولية
وبناء على رصيدها التاريخي، “كقبلة للثوار ومكة الأحرار” مثلما قال ذات يوم، أميلكار كابرال، تترجم الجزائر انخراطها في شؤون القارة الإفريقية، عبر عدة مبادئ أهمها التضامن القاري والواجب التاريخي والحتمية التنمية بما يتماشي وأحلام الشعوب.
وتشتغل الجزائر بشكل مكثّف من موقعها كدولة عضو في الاتحاد الإفريقي، ومن مكانتها الحالية كعضو غير دائم في مجلس الأمن الدولي، على جملة من الملفات السياسية التي تشكّل أولوية قادة البلدان الإفريقية، وعلى رأسها إنهاء تهميش القارة ضمن آليات صناعة القرار الدولي بالأمم المتحدة.
وفي السياق، كثّفت الجزائر منذ توليها العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي، مطلع السنة الجارية، من جهودها الدبلوماسية لإسماع صوت قارة افريقيا، ورفع الظلم التاريخي عنها لتمكينها، على الأقل، من مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، والدفاع عن مصالحها وحقها في التنمية وتحقيق الاستقرار، وحل مشاكلها داخليا لوقف النزاعات والتدخلات الخارجية، وانهاء آخر حالة استعمار في أفريقيا، بالتوازي مع جهود داخلية لتنفيذ مختلف المشاريع التنموية في إطار مبادرات الاتحاد الافريقي.
يأتي ذلك من منطلق حرصها المبدئي على توحيد الصف الافريقي، في مختلف المحافل الدولية من أجل إسماع صوت القارة في المنابر الدولية، سيما مجلس الأمن الدولي لتأخذ مكانتها التي تليق بها، وترافع عن مصالحها مجتمعة بصوت واحد.
وتطالب الجزائر، باعتبارها عضوا فاعلا في مجموعة العشر للاتحاد الإفريقي، الخاصة بإصلاح مجلس الأمن، بتصحيح الظلم التاريخي الذي تعاني منه إفريقيا، باعتبارها القارة الوحيدة الغائبة عن الأعضاء الدائمين والأقل تمثيلا في فئة الأعضاء غير الدائمين (03 مقاعد).
وترافع بصوت واضح ومسموع من أجل منح أفريقيا مقعدين دائمين، بالإضافة إلى مقعدين غير دائمين في مجلس الأمن، مع جميع الامتيازات المرتبطة بهذه المقاعد. وجرى خلال النقاش المفتوح رفيع المستوى لمجلس الأمن حول تصحيح الظلم التاريخي ضد إفريقيا بفعل غياب التمثيل الفعال لها في مجلس الأمن، على هامش أشغال الاجتماع السنوي الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة.
ويدخل هذا المطلب في إطار الحرص الدائم للجزائر، وعدد من الدول الأفريقية على رأسها جنوب افريقيا، لإصلاح مجلس الأمن والنأي ببلدانها عن الاستقطاب الحاصل بين القوى العظمى، ما أثّر على عمل المجلس وشل تعامله مع القضايا الدولية الطارئة رغم التكلفة الباهظة على السلم والأمن الدوليين.
في خدمة الاستقـرار القاري
أظهرت الجزائر وفاء تاما لأفريقيا وارتباطا قويا ببنود الاتحاد الأفريقي، الذي كانت عضوا مؤسسا له، حيث تعمل دون كلل على ترقية القارة، بداية بترتيب البيت داخليا من خلال الحفاظ على سلامة الوحدة الترابية لدول القارة، قناعة منها بترابط السلم التنمية.
وفي هذا الصدد، تتمسّك بمبدأ احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار لدرء باب النزاع، وتقترح دوما مقاربة سلمية لحل الأزمات من خلال القيام بالوساطات، مثلما فعلت في عديدة المرات تاريخيا، ومن أمثلة ذلك نجاحها الباهر في إنهاء النزاع الاثيوبي الأرتيري 1998 – 2000، وتقديم أرضيات تقوم على الحلول السلمية للنزاعات بعيدا عن التدخل الأجنبي، وهو حال موقفها من الأزمة في ليبيا، وأثبتت الأحداث صحة الموقف الجزائري.
وكذلك الأمر بالنسبة للنزاع الممتد في مالي، حيث استطاعت اتفاقيات السلام التي رعتها في الحفاظ على الوحدة الترابية لمالي، وإسكات البنادق لعدة عقود، وتؤكّد المعطيات الميدانية أنه لا بديل عن المقاربة الجزائرية.
ومن باب الحرص على تمتين أسس الحكامة وبناء دولة المؤسسات في إفريقيا، ترفض الجزائر الانقلابات العسكرية كخيار لتغيير الحكم، وتتمسك دائما بضرورة العودة إلى النظام الدستوري، حفاظا على وحدة أراضي الدول المعنية، وحفظا لسلامة مواطنيها، وتدعو دائما إلى تغليب الحلول السلمية على قوة السلاح، وتشجّع بذلك مبادرة “إسكات البنادق” لإنهاء النزاعات في أفريقيا، وهي أحد أهداف “أجندة افريقيا 2063”، والتي شاركت الجزائر بفعالية في صياغة بنودها.
وضمن هذه الرؤية، تترأّس حاليا الآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء، والهادفة إلى رفع مؤشرات الحكم الراشد والتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان في البلدان المنخرطة ضمن الآلية.
وتواصل الجزائر تشريف مسؤولياتها تجاه القارة في المحافل الدولية، عبر تعهّدها بأن تكون صوت للشعوب الإفريقية على مستوى مجلس الأمن الدولي، أين تعطي الأولوية للوقاية من النزاعات في القارة، مع المرافعة لصالح استفادتها من التمويلات اللازمة لتمكينها من مجابهة فعالة للتهديدات بمختلف أشكالها لاسيما الإرهاب.
إنهـاء الاستعمار
مساهمة الجزائر في الدفع بدول القارة إلى الرقي بأمنها واقتصادها، لتتمكن من أخذ مكانتها على الصعيد الدولي، وهي في ذلك تراهن على إنهاء الاستعمار، والتصدي لأشكاله الجديدة، وكذا صد النزاعات أولا باعتبارهما عائقا للتنمية.
ولأنّها عانت لما يزيد عن قرن من ويلات استعمار استيطاني، سخّرت الجزائر كل جهودها للدفاع عن المظلومين والمضطهدين، سواء في خارج أفريقيا أو داخلها.
ولأجل ذلك ترافع لإنهاء أطول احتلال من آخر مستعمرة في افريقيا في الصحراء الغربية، وهي لا تتوانى في نقل صوت الصحراويين للمجموعة الدولية، الذين يعانون حصارا اعلاميا مخزنيا، لفضح مناورات المحتل المغربي في كل هيئات الأمم المتحدة السياسية والدبلوماسية والثقافية، والحرص على تطبيق قرارات الشرعية الدولية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى تعمل الجزائر على إصلاح الاتحاد الافريقي بهدف تمكينه من تنفيذ مهامه، والتكيف مع الوضع الدولي بتحديات الجديدة، من خلال العمل الثنائي والجماعي تحت راية الاتحاد.
ودائما وفي إطار انضمامها البارز لصالح تحقيق أهداف أجندة افريقيا 2063، أطلقت الجزائر عددا من مشاريع ربط مختلف دول القارة ببعضها، خاصة دول الساحل انطلاقا من الجزائر، من خلال الطريق العابر للصحراء، وخط الأنابيب والألياف البصرية، وكذا مبادرتها بالشراكة الجديدة من أجل تنمية إفريقيا النيباد، والتي تحولت حاليا إلى وكالة تنمية تابعة للاتحاد الافريقي، تعمل على تحرير القارة من الصراعات والتخلف، وبسط السيادة على الموارد الطبيعية، بعد التخلص من الاستعمار.
وأولت الجزائر اهتماما في سبيل تحقيق أهداف التكامل القاري، وتأكيد انخراطها في قضايا وهموم القارة، من خلال تخصيص وزارة مكلفة بالشؤون الأفريقية، لتقف عن كثب عند انشغالات القارة، ولتكون وسيطا بين أفريقيا والمجتمع الدولي، عبر مجلس الأمن والجمعية الأممية. وفي هذا السياق استقبلت الجزائر في شهر فيفري رئيس جمهورية موزمبيق، السيد فيليب خاسينتو نيوسي، في إطار زيارة صداقة وعمل بدعوة من رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، كما حلّ الرئيس الجنوب افريقي سيريل رامافوزا بالجزائر مطلع ديسمبر في زيارة رسمية بدعوة من الرئيس الجزائري.
وتلت بعدها زيارات في جولة ماراطونية قادت وزير الخارجية السيد احمد عطاف، بصفته مبعوثا خاصا لرئيس الجمهورية، إلى عدد من الدول الافريقية، حيث استقبله رؤساء كل من أنغولا وأوغندا وبورندي، كما استقبلت كاتبة الدولة لدى وزير الشؤون الخارجية المكلفة بالشؤون الإفريقية، سلمى بختة منصوري من طرف رئيس بوركينا فاسو، إبراهيم تراوري، وسلمته رسالة من رئيس الجمهورية.
وتصب هذه الزيارات في إطار جهود الجزائر لتوطيد العلاقات الثنائية مع الدول الافريقية، وتعزيز التنسيق والتشاور بخصوص القضايا والملفات المطروحة على الصعيد القاري، ونقل الانشغالات إلى المنظمات والهيئات الدولية، في شكل عمل جماعي منسّق يدافع عن القارة ومصالحها، خاصة وأن رئيس الجمهورية، أكّد في أكثر من مناسبة، التزام الجزائر برفع السقف عاليا في الدفاع عن قضايا افريقيا ومصالحها وإعلاء كلمتها.
المعرض الإفريقي للتجارة البينية.. موعد مع المستقبل
استطاعت الجزائر أن تنتقل من التوجه الافريقي المبني على الشعارات الى وضع الآليات التي كانت في السابق حلقة مفقودة، وعرقلت تطوير التجارة البينية مع الدول الافريقية، وتسعى كي تكون القاطرة التي تجر هذه الأخيرة لتحقيق النمو والرفاهية، حسبما يؤكده الدكتور شكيب قويدري الخبير في الدبلوماسية الاقتصادية.
يعتقد د – قويدري أنّ الجزائر وجدت الحلقة المفقودة لتحقيق تطور في العلاقات البينية الافريقية، حيث لم يعد العمل بالشعارات كما كان من قبل، بل أصبح يعتمد على الوسائل والأدوات، ومن بين الآليات المهمة جدا، “الاتحاد الافريقي واتفاق الشراكة الإفريقي الحر “لوسديكاس”، مشيرا إلى أن هاتين الآليتين من أهم الآليات التي يعتمد عليها التعاون القاري في الجانب الاقتصادي.
وفيما يخص إيصال رغبة الجزائر، لتطوير علاقتها مع الدول الافريقية في مجال التعاون الاقتصادي، قال قويدري في تصريح لـ “الشعب”، إنها تملك رصيدا كبيرا من العلاقات الدولية وقد زادها بعدها الاستراتيجي أهمية، وسمح لها باستعادة مكانتها في وقت قياسي أي منذ أربع سنوات تقريبا، وبدأت تحقق أهدافها السياسية بكل ثقة وثبات، وتواصل بكل عزم وإرادة بلوغ غايتها في الجانب الاقتصادي، وولوج الأسواق الإفريقية والتموقع فيها.
وقال المتحدث في هذا الصدد، إنّ هذا الرصيد الكبير من المقومات والمميزات التي تنفرد بها الجزائر، مكّنها من العودة الى افريقيا، التي تنظر اليها دولها بعين الرضا، لأنّها لا تملك أطماعا توسعية بل تعمل دائما بمبدأ الربح المشترك، مشيرا الى أن شركاء الجزائر في افريقيا يأملون رجوع دورها الريادي في القارة.
وأضاف في معرض حديثه أنّ الجزائر في طريقها لعرض منتوجاتها في الأسواق الافريقية، وسيسهل لها هذا الولوج توسيع خطوط المد لشركات الطيران الجزائرية الى 10 عواصم من دول القارة، كما تعد المعارض من التظاهرات الاقتصادية التي تسمح بإيصال المنتوج الجزائري الى هذه البلدان، مشيرا الى أنها لم تفوت أي تظاهرة الا ويكون لها حضور مميز.
ونوه قويدري، وهو المختص في التبادل التجاري الإفريقي، في هذا الإطار بأهمية معرض التجارة البينية الأفريقية الذي ستحتضنه الجزائر شهر سبتمبر 2025، حيث يتوقّع أن تصل قيمة الاتفاقيات التجارية والاستثمارية التي ستبرم خلاله 48 مليار دولار – حسب تصريح وزير التجارة زيتوني- واعتبره المتحدث فضاء هاما لتطوير التجارة البينية التي ما تزال دون مستوى تطلعات دول القارة.
كما أفاد المتحدث، أنّ الجزائر تسعى للتوسع جنوب القارة السمراء، وإقامة شراكات مع الدول الافريقية، حيث تعد دولة جنوب افريقيا شريكا مهما بالنسبة لبلادنا، كما تمثل اثيوبيا بلدا يمكن إقامة شراكات مثمرة معه، وتوجد كذلك علاقات جيدة مع أوغندا التي يمكن أن تكون ركيزة اقتصادية في افريقيا.
وذكر قويدري بأهمية مشاركة الجزائر في لقاء المجموعة 20، والذي له دلالات وإشارات، أهمها أنها بلد رائد في المنطقة، وهو يحوز على مقدرات كبيرة جدا من حيث اللوجستيك، المساحة والموقع الجغرافي، موارد طاقوية متنوعة وبأسعار تنافسية، وكذا يد عاملة مؤهلة.
ويعتقد أنه بإمكان الجزائر الواقعة في شمال القارة، ودولة جنوب افريقيا المتواجدة في جنوبها، أن يلعبا دورا مهما في النهوض بإفريقيا، والوصول بها الى المرتبة التي تليق بها، خاصة وأن لها من الموارد الطبيعية خاصة الباطنية، ما يؤهلها لتكون قاطرة تجر الدول نحو التقدم والنمو، كما توجد علاقة تكامل بين الاثنين في عديد من المسائل والقضايا الاقتصادية.
ويرى الخبير الاقتصادي قويدري أنّه من بين القطاعات التي يعول عليها في تطوير العلاقات الاقتصادية البينية، قطاع المناجم، الذي تحوز الجزائر على الريادة فيه، كذلك الصناعات الصيدلانية، هذه الأخيرة التي تمتلك فيها طاقة إنتاجية هائلة، وكذا صناعة الأدوات الكهرومنزلية، التي قطعت فيها أشواطا كبيرة، واستطاعت أن تجد لها موقعا في الأسواق الافريقية، إضافة الى الصناعات الغذائية والتحولية، مؤكدا على أن كل هذه القطاعات تمتلك فيها بلادنا ميزة التنافسية.
نماذج جزائرية ناجحة في التكامل التجاري القاري
شهدت الجزائر طفرة اقتصادية وتنموية معتبرة، جعلت منها قوة اقتصادية وسياسية رائدة في شمال افريقيا، وهي تسعى اليوم الى تعزيز وجودها وتأثيرها في القارة من خلال إعادة تفعيل علاقاتها التجارية والسياسية مع كافة الدول وخاصة دول الجوار، لا سيما مع الجمهورية الاسلامية الموريتانية ودول الساحل الإفريقي، ما جعلها تقدم نموذجا في التكامل التجاري والاقتصادي الذي تنشده أجندة الاتحاد الإفريقي.
توسيـع شبكـة الطرق والمعابر الحدودية وتنشيط التجارة البينية والتبـادل الإقليمي
انتقلت العلاقات الجزائرية الموريتانية الى فصل آخر من التعاون الثنائي في شتى المجالات، حيث انتعشت التبادلات التجارية بين البلدين الجارين خاصة بعد تولي الرئيس تبون سدّة الحكم في البلاد، مدفوعة في ذلك بالعديد من المشاريع التي وطّدت العلاقة الأخوية بين البلدين الشقيقين ورسمت معالم تعاون مثمر سياسياً، أمنياً، اقتصادياً وتجارياً.
الجزائر التي تعتبر موريتانيا شريكاً استراتيجياً في عدة مجالات، خاصة في مواجهة التحديات الأمنية التي تشهدها منطقة الساحل والصحراء، عملت على الارتقاء بمستوى العلاقات الاخوية بين البلدين من خلال تجسيد العديد من المشاريع الهامة وإبرام اتفاقيات تعاون مشترك، أبدت الجزائر من خلالها اهتماماً كبيراً بتعزيز علاقاتها مع موريتانيا، خاصة في قطاع البنية التحتية، التجارة والطاقة، تجسيداً لتوجيهات رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون.
وضمن هذه الرؤية، بعثت الجزائر علاقتها بدول الساحل وعلى رأسها دول النيجر، مانحة الأولية للبعد الاقتصادي، إلى جانب الروابط والقواسم المشتركة الأخرى، وضمن هذا النموذج تسعى الجزائر والنيجر الى زيادة تعاونهما في مجالات الطاقة، التجارة والتنموية عبر مشاريع مشتركة عملاً بمبدأ رابح – رابح.
ويتماشى هذا التوجّه مع المقاربة الجزائرية التي تهدف الى تعزيز دورها كقوة اقتصادية رائدة في افريقيا، مع التركيز على تكثيف التعاون مع دول الساحل الافريقي، وبقية الدول المجاورة في قطاعات اقتصادية متنوعة.
وفي إطار تجسيد هذه المقاربة، بذلت الجزائر جهوداً معتبرة لتعزيز حضورها في عمقها الافريقي من خلال توسيع شبكة الطرق والمعابر الحدودية، مما يسهّل من حركة التجارة البينية، ويسهم في تعزيز التبادل التجاري الاقليمي، وتُعدُّ المعابر الحدودية مناطق التبادل الحر، والطرق العابرة للصحراء إحدى أبرز معالم التعاون المشترك بين الجزائر ودول الجوار، إذ تشكّل الطريق العابرة للصحراء الرابطة بين الجزائر والنيجر محوراً أساسياً للاندماج الاقتصادي بين البلدين، هذا الطريق يعدُّ شرياناً هاماً لتسهيل نقل البضائع والسلع، وضمان انسيابية حركة المسافرين له دور هام على الصعيد الامني، باعتبارها محفّزاً لإعمار المناطق الحدودية، وعاملاً مساعداً على استقرار السكان بتلك المناطق.
من المساعات إلى الاستثمـارات المباشرة
المجهودات الجبارة التي تبذلها الجزائر لتعزيز التجارة مع الدول الافريقية، تتجلى من خلال إبرام اتفاقيات تجارية والدخول في شراكات مع دول القارة، وقد شهدت العهدة الاولى من رئاسة تبون للبلاد، افتتاح بنكين جزائريين في كل من نواكشوط وداكار، في خطوة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجزائر، الى جانب الشروع في إنجاز طريق تندوف – الزويرات على مسافة 730 كلم، الذي يُعدُّ أكبر مشروع استثماري جزائري خارج الوطن منذ الاستقلال، بالإضافة الى إعلان رئيس الجمهورية عن إنشاء خمسة مناطق للتبادل الحر مع دول الجوار، يهدف من خلالها السيد الرئيس الى تسهيل الاجراءات الجمركية، وتطوير البنية التحتية للربط بين دول الجوار.
كما شهدت نفس الفترة، افتتاح المعرض الدائم للمنتجات الجزائرية في العاصمة الموريتانية نواكشوط، وإعادة بعث الموسم الاقتصادي والثقافي الافريقي “المُقار” بولاية تندوف، ناهيك عن افتتاح خطوط جوية جديدة تربط الجزائر بالعديد من العواصم الافريقية وخطين بحريين بين وهران ونواكشوط، ووهران وداكار.
هذا التوجه الاقتصادي الجزائري الذي يهدف الى تعزيز التعاون مع دول الجوار، له انعكاسات كبيرة على الأمن في منطقة الساحل والصحراء، وهو ما تسعى الجزائر الى تحقيقه، وتسعى الى تجسيده بالشراكة مع دول المنطقة خاصة موريتانيا والنيجر، من خلال تعزيز التنسيق الأمني لمكافحة الارهاب والجريمة المنظمة في منطقة الساحل التي تعيش على وقع انفلات أمني وصراعات داخلية مزمنة.
ويرى مراقبون أنّ المقاربة التنموية والأمنية التي اعتمدتها الجزائر في تعاملها مع عمقها الافريقي، أفضت الى تحقيق قدر كبير من الاستقرار في المنطقة، حيث أدت الى تعزيز التنسيق الاقليمي في مجالات الامن والاقتصاد، وتأسيس بيئة من التعاون المستدام انعكس إيجاباً على ملف مكافحة الارهاب والهجرة غير الشرعية.
وقدّمت الزيارة الناجحة لرئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا إلى الجزائر، قبل أيام، لمحة وافية عن تطلع تكريس الجزائر للبعد الاقتصادي في علاقات دول القارة، بما يسهم في تحقيق المنافع المتبادلة التي تحتجها لرفع مؤشرات النمو، وتلبية حاجيات السكن من شروط التنمية.
وتظل الجزائر حريصة على تعزيز تعاونها الاقتصادي والامني مع دول الجوار، والعمل على إعادة ربطها بعمقها الافريقي، وتمثّل النظرة الاستشرافية لرئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون خطوة كبيرة نحو تحقيق تكامل اقتصادي إقليمي، يعزّز من استقرار الجزائر ونهضتها التنموية.
ويعدّ التعاون الجزائري الافريقي حجر الزاوية في سياسة الجزائر الاقتصادية، انطلاقاً من مبادئها المبنية على التكامل الافريقي تجسيداً لمعادلة رابح – رابح، وفي هذا السياق، تجسّد رؤية رئيس الجمهورية إرادة حقيقية للدفع بهذا التعاون الى مستويات أعلى، مع التركيز على إعمار المناطق الحدودية واستتباب الأمن بها بما يضع حداً للجريمة المنظمة، ويكبح جماح المهربين.
طموح جزائري من أجل قارة خالية من النزاعات المسلّحة
يكتسي الدور الدبلوماسي الجزائري في إفريقيا قيمة بالغة الأهمية، كونه يرمي أساسا إلى تحقيق الأمن والسلم، وتحييد حدوث التوترات والصراعات بين الدول، وحلّ الخلافات السياسية الداخلية في بلدان القارة بالوساطة والحوار بين الفرقاء، وتغليب الحلول السلمية، أملاً في الوصول إلى وضعٍ إفريقي خالٍ من الأزمات والنزاعات المسلحة، ويسوده الاستقرار والإزهار.
هكذا جعل رئيس الجمهورية مـن الجزائر صوت إفريقيا الصادح في العالم
أصبحت الدبلوماسية الجزائرية حجر الزاوية في منظومة العلاقات الإفريقية، وبوصلة العمل السياسي الرّصين عالي المستوى في المنظمات القارية والإقليمية، معتمدة على عدد من المبادئ والأسس التي رسمت معالمها، وحدّدت سياستها الخارجية منذ الإستقلال في الخامس من جويلية سنة 1962.
وفي هذا الشأن، أكد المستشار القانوني للمنظمة العالمية الدبلوماسية للعدالة والسلام، د – منير قتال، أن الجزائر تدعم مبدأ الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية، بغية التصدي للنزاعات والتوترات بين دول القارة، وذلك بهندسة الآداء الناجع، وتحريك الدبلوماسية الجزائرية نحو تبني استراتيجيات مبتكرة جديدة لم تناد بها المنظومة الدولية من قبل.
وأوضح قتال، في تصريح خصّ به “الشعب”، أن توافد رؤساء وقادة دول أفريقيا ومسؤوليها القاريين إلى الجزائر، عزّز من مستوى التنسيق والتعاون بين الشركاء، بما يخدم المصالح الإفريقية، وتجسّد هذا الأمر أكثر في قمم ولقاءات البرلمان الإفريقي.
كما رافعت الجزائر، بحسب محدثنا، في المحافل الدولية والإقليمية على ضرورة رفع الظلم عن القارة الإفريقية وتجنيبها التدخلات الخارجية، وإعادة النظر في منظومة القانون والعلاقات الدولية، بحرص من رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، الذي جعل من الجزائر صوت إفريقيا الصادح في العالم، مشيرا إلى أهمية زيارته منذ أسبوع إلى نواكشوط للمشاركة في المؤتمر القاري الموريتاني، مما يعكس مدى التزام الجزائر بمبدأ حسن الجوار، وتعزيز كل قنوات الاتصال لتقوية كلمة القارة الإفريقية وتطوير اقتصادها.
وتابع قتال، أن زيارة رئيس جمهورية جنوب إفريقيا الأخيرة إلى الجزائر، أعطت دلالات على محورية وحكمة البلد المُضيف، وتجربته ورؤيته الإستراتيجية المفيدة للقارة الإفريقية، ودوره البارز في حلحلة ملفات المنطقة، لاسيما وأن الجزائر عضو غير دائم في مجلس الأمن الدولي، وتسمح عضويتها بتشبيك أكبر للعلاقات القارية، وإنهاء المشاكل الإفريقية بحلول إفريقية بعيدا عن التدخلات الأجنبية.
وقد لعبت الجزائر دورا بارزا مشهودا له بالسّاحة الدولية والإقليمية في معالجة قضايا الإرهاب والتطرف العنيف، باعتبارها من أكثر الدول الرائدة التي اشتغلت عليهما لعدة سنوات ونجحت في التصدي لهما، وكل هذا بفضل مجهودات قوات الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني، الذي جابه الظاهرتين المذكورتين بكل كفاءة واقتدار واحترافية، ونوّهت بذلك هيئة الأمم المتحدة وباقي المنظمات العالمية والإقليمية الحكومية وغير الحكومية، وفقاً للمصدر ذاته.
وتعتبر تجربة الجزائر في معالجة قضايا الإرهاب والتطرف العنيف – الدكتور قتال – نموذجا يُقتدى به في كل أنحاء العالم خاصة بالقارة الإفريقية، حيث تجاوز بلد الشهداء مرحلة مكافحته وانتقل إلى فترة الوقاية منه.
ومن جهته، قال الباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، البروفيسور نور الصباح عكنوش، أن الإطار الأفريقي للسياسة الخارجية الجزائرية يُمثِّل محركا أساسيا للعمل الدبلوماسي لدولة تُعتبر من الأركان الأربعة للقارة السمراء بمعية جنوب إفريقيا ومصر ونيجيريا، حيث تبني الجزائر عقيدتها من حيث تأصيل هويتها النضالية مع قوى الخير أولا، وتفعيلها ثانيا عبر آليات جديدة للشراكة متعددة الأبعاد أمنيا وإستراتيجيا.
وأفاد البروفيسور عكنوش، في تصريح أدلى به لـ “الشعب”، أن الجزائر تأسّت بخارطة طريق واضحة المفاهيم والملامح لتأمين قارة إفريقيا من النزاعات المسلحة والتحولات البنيوية والمخاضات العسيرة الإحترابية التي تهدد استقرارها ووجودها، في ظل تفاقم أزمات المنتظم الدولي، وعدم قدرته على مواكبة ارتدادات التقلبات الجيوساسية في العالم أجمع.
وأبرز الباحث ذاته، أن الدور الجزائري يتمظهر اليوم أكثر في صورة الحراك الدبلوماسي القوي لوزير الدولة وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج والشؤون الإفريقية السيد أحمد عطاف، بصفته مبعوثا خاصا لرئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، الذي التقى رؤساء دول كل من بوروندي وأنغولا وأوغندا، في إطار جهود البناء التي تقودها الجزائر بثقة ومصداقية واحترافية نحو “أفرقة” عوامل السلم والاستقرار في القارة، حتى تُصبح بيئة حاضنة للنمو والأمان المستدامين وفق محددات السيادة والاستقلالية التي تأسّست عليها قيم العمل الأفريقي المشترك منذ خمسينيات وستينيات القرن العشرين إلى يومنا هذا، وذلك من كوامي نكروما وهواري بومدين وجمال عبد الناصر إلى الرئيس تبون ورامافوزا وغيرهم من صُنّاع القرار الحكيم والحوكمة الرشيدة في منطقة ترنو للحداثة بمعاييرها ونخبها ومفاهيمها الأصيلة.
والرسائل التي تنقلها الجزائر إلى الفضاء الأفريقي، في ضوء أجندات الاستعمار الجديد، مثلما يرى المتحدث، تمسّ التحديات الوجودية والتهديدات المتصاعدة التي تحيط بإفريقيا التي يراد لها أن تبقى هيكليا وفكريا تابعة للمركزية الغربية الإستعمارية على حساب مواردها واستقرارها، وهو ما حذّر منه بلد الشهداء مرارا وتكرارا انطلاقا من دوره التاريخي الأصيل في هذا السياق من جهة، وحفاظا على أمانة الآباء المؤسسين لمبادئ الحرية والتنمية في القارة السمراء من جهة أخرى.
ومن خلال الدبلوماسية الحصيفة للجزائر، وتنقلات ممثلها وزير الدولة وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج والشؤون الإفريقية، بين دول ومماليك إفريقيا، تنفخ الجزائر في روح الجسد الأفريقي حياة جديدة تتماهى وترتيبات النظام الدولي القادم، حتّى لا يُبنى في غياب أو تغييب الأفارقة، وذلك بمسؤولية ووعي واستشراف بمستقبل التحولات، وإدراك بما تحتاجه القارة في هذه اللحظة التاريخية الحسّاسة والخطيرة التي يمر بها العالم، يضيف الباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية البروفيسور نور الصباح عكنوش.
ومن هذا المنطلق، كرّست تفاعلات وتحرّكات الجزائر الأخيرة في إفريقيا، من نشاطها الدبلوماسي الوازن والرّزين، وعمّقت من أثره داخل المُكوِّن القاري، وأبرقت عبره رسائل للقوى الفاعلة بالعالم العاملة على إضعاف وعزل إفريقيا، وذلك من خلال عملها على توطيد وتعزيز الثقة مع شُركائها، وتوسيع نطاق التعاون السياسي والاقتصادي معهم انطلاقا من صوتها المرفوع أمميا، تمهيدا لرفع مستوى تمثيل القارة السمراء في مختلف الهيئات والمنظمات الدولية بما يضمن حقوقها ويمنع استغلالها.