تولي الجزائر أهمية كبرى للنهوض بمكوّناتها الثقافية والحضارية، ومنها اللغة العربية، ويتراءى ذلك من خلال الجهود المضنية التي تبذلها لأجل الارتقاء بها وتعزيز مكانتها وترسيخ الوعي بأهميتها في مجتمعنا، وضرورة التشبث بالثقافة الأصيلة..
وتحظى اللغة العربية برعاية رسمية خاصة على أعلى مستوى في الدولة، من خلال برامج الرقمنة وجعلها مسايرة للتطور التكنولوجي الحديث، وتعتبرها اليونيسكو من ركائز القيم الإنسانية المشتركة، واختارت المنظمة الثقافية الأممية أن يكون الاحتفال بها هذه السنة تحت شعار “اللغة العربية والذكاء الاصطناعي: تعزيز الابتكار مع الحفاظ على التراث الثقافي”
أشار الدكتور المسعود بن سالم، أستاذ اللسانيات التطبيقية والإعلام بجامعة الجلفة، وإعلامي مهتم بصناعة المحتوى التاريخي والتراثي ورقمنة قطاع التربية، في تصريح لـ«الشعب” أن الحديث عن تحديات التكنولوجيا التي تواجهها اللغة العربية يتطلب منا تعريف شيئين هما: فضاء التحدي والوسيلة الملائمة لاقتحامه والدفاع عنه.
.. نحصّن لغتنـا
قال الباحث المسعود بن سالم “إذا كان الإقليم الجغرافي هو الفضاء السيادي الذي نضع لحمايته الجيش المحترف والسلاح المتطور فإن الفضاء الرقمي يحتاج الوسائل (hardware) والبرمجيات (Software)، لكن الأهم هنا هو صناعة المحتوى التي لا تكون سوى بالاهتمام باللغة العربية باعتبارها تأشيرة سفر إلى 22 دولة عربية و35 دولة اسلامية، وباعتبارها لغة من 06 لغات معتمدة في الهيئات الأممية.. فمن يملك قوة النشر والحضور الرقمي سيمتلك لا محالة قوة التأثير في الآخر، وقوة تحصين المجتمع والأجيال الصاعدة وعقول الناشئة ضد أي محاولة للنيل من السيادة، وهو من سيتحكم بالعقول والأجيال الصاعدة، وهذا من بعيد لأن التكنولوجيا قد ألغت عامل الجغرافيا في التحكم بالعقول”.
ويشيد الأستاذ بن سالم بالتوجه الذي سطره رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، بخصوص الرقمنة بالجزائر والذي جسّده قرار مجلس الوزراء يوم 24 مارس 2024 في تجسيد مركز البيانات للجزائر وإعطائه صفة الطابع الاستعجالي.
وتساءل الباحث المسعود بن سالم حول: “كيف نصنع محتوى جزائريا يعطينا الحضور خارجيا والحصانة داخليا؟ ومن هم المنوطون بذلك؟” ليُجيب على ذلك “بأن اللغة العربية هي المشكلة والحل في آن واحد، فإذا اهتممنا بها فإنها ستكون الحل لمشكل يتأتى من تغييبها”.
ويرى بن سالم بأنه لم يعُد يُطرح مشكل التحدي التكنولوجي أمام اللغة العربية سوى في سياق الحضور والإنتاج في الفضاء الرقمي، بما يخدم أصالتنا ومصالحنا. مشيرا إلى “أن صناعة المحتوى بالجزائر مرتبط باللغة العربية باعتباره قضية يساهم فيها المجتمع برمته، ويجب أن يقود قاطرته قطاع التربية باعتباره يتوفر على أكبر عدد من صناع المحتوى ألا وهُم الأساتذة والتلاميذ.”
وأضاف “قد أعطانا السيد الرئيس أرقامهم، بمناسبة المؤتمر القاري حول التعليم والشباب وقابلية التوظيف الذي احتضنته نواكشوط هذا الشهر، حيث قال السيد الرئيس إن الجزائر تتوفر على ما يقارب 12 مليون متمدرس في مؤسسات التربية والتعليم، وأكثر من 600 ألف أستاذ.
وأكد بن سالم “أن اللغة العربية هي الفاعل الأساسي في تجسيد سيادتنا الرقمية”، مذكرا بأطروحته بجامعة مستغانم حول “معايير مقترحة لبناء موقع إلكتروني نموذجي للمدرسة”، والتي تجسدت في شبه خوارزمية بـ21 معيارا هي بمثابة لبنة أساسية تستنير بها الجماعة التربوية وتكون بمنزلة خوارزمية أولية، لما يمكن أن تكون عليه المنصة الرقمية للتعليم بقطاع التربية، وفيها يتحول المعلم من مجرد متلقّ ومنفّذ للمنهاج إلى منتج حقيقي عبر الوصول إلى بنوك للنصوص التعليمية، ونفس الأمر بالنسبة لنقل المتعلم من مجرد مستهلك إلى فاعل ومتفاعل عبر بعث النشاطات اللاصفية الخادمة للإنتاج اللغوي المكتوب والمقروء، والنتيجة النهائية على المدى المتوسط هي جعل المدرسة قاطرة لصناعة المحتوى العربي على شبكة الأنترنت”، مؤكدا أنه “بفضل نجاعة تعليم اللغة العربية سننصع جيلا من صُناع المحتوى باللغة العربية في شتى المجالات”.
مزيد مـن التحدّيـات
من جانبه، يرى الدكتور مختار نعمان، أن اللغة العربية تواجه المزيد من التحديات في مستويات التعليم والتربية والاقتصاد والمجتمع والثقافة والتكنولوجيا وغير ذلك، من خلال وسائل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في ظل انفتاح اللغة العربية على لهجاتها المتعددة.
وأكد أستاذ الأدب العربي بجامعة الحاج موسى أخاموك بتمنغست، في حديثه لـ«الشعب” أن اللغويين يخشون فشو اللحن والاستعمال الخاطئ وزيادة الهوة بين الشكل الفصيح والأشكال اللهجية والعامية، وظهور أجيال لا يعرفون العربية ولا ينتمون لها الانتماء الثقافي والتاريخي الصحيح.
وفي سياق أخر، يضيف المختص في مجال تحقيق المخطوطات بالجامعة، أن هذه الوضعية تضاف لها أخرى في مناحي التعليم العالي، حيث لا تزال بعض التخصصات العلمية تدرس باللغات الأجنبية، رغم ما قرره اللسانيون بأن تعليم العلوم والمعارف يكون أرسخ وأجود وأقدر على التطوير، والبحث حينما يكون باللغة القومية ولنا في لغتنا العربية كل القدرة وكامل الإمكانات للنهوض بقطاع التعليم العالي وتحصيل العلوم والمعرفة.
رغم كل هذا يؤكد الأستاذ مختار نعمان على الجهود التي تبذلها الجزائر، بهدف النهوض باللغة العربية وتعميق الروابط التاريخية بها، وتحسين تعليمها وتوسيع العمل بها والحفاظ على مكتسباتها، ومن ذلك تفعيل عمل المجلس الأعلى للغة العربية واعتماد المجمع الجزائري للغة العربية، إضافة إلى فرق البحث والمخابر العلمية، إلا أن جهود الترجمة ـ يقول المتحدث ـ من وإلى العربية في الجزائر، لا تزال ضعيفة في ظل العزوف عن القراءة، وكذا جهود الرقمنة والتحكم التكنولوجي باستخدام اللغة العربية.
يقول الأستاذ والناقد الأدبي مهيدي منصور بأن اللّغة العربية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي هُويّة أمّة وحضارة تضرب جذورها في عمق التاريخ، هي لغة القرآن الكريم، لغة البلاغة والإعجاز، جمعت بين الدقّة والجمال، واحتضنت العلوم والفنون عبر قرون طويلة.
جهود الجزائر..
صرّح مهيدي منصور في حديث مع “الشعب” أن اللغة العربية ليست حروفًا تُكتب أو كلمات تُقال فحسب، بل هي وعاء فكرنا، وجسر يربطنا بماضينا الأصيل، وأساس بناء حاضرنا ومستقبلنا، مضيفا بأنها لغة تحمل في طيّاتها عبق التاريخ وأصالة الثقافة، وتنطق بمجد العلماء والأدباء الذين خطّوا أعظم الصفحات بيراعها.
ويقول المتحدث بأننا اليوم، أمام تحدي هام أكثر من أيّ وقت مضى “يكمن في الاعتزاز بلغتنا والتمسك بها، لأّنها ليست فقط لغة الماضي، بل هي كذلك لغة حية متحركة نستشرف بها مستقبلنا، بما تحمله من قدرة على مواكبة العصر والتعبير عن أعمق الأفكار بأبسط الكلمات”، مشيرا إلى أن الشعار الذي رفعته اليونسكو بعنوان “اللغة العربية والذكاء الاصطناعي: تعزيز الابتكار مع الحفاظ على التراث الثقافي”، احتفالًا باليوم العالمي للغة العربية لعام 2024، يأتي ليؤكّد على دور هذه اللغة في مواكبة العصر وتعزيز الحوار بين الثقافات، لكونها رمز حضاري وثقافي وإنساني يجمع بين الماضي والمستقبل.
وأضاف مهيدي في سياق حديثه عن أبرز التحديات التي تواجه اللغة العربية اليوم، بالقول “حقيقة لقد ساهمت اللغة العربية على مرّ العصور في إثراء الحضارة الإنسانية، كانت لغة العلوم والفنون والفلسفة خلال العصر الذهبي للإسلام، وكان للعلماء العرب والمسلمين دورا بارزا في تقديم إسهامات علمية وفكرية خالدة وصلت إلى العالم أجمع، وأمّا في عصرنا الحالي، فقد أثبتت اللغة العربية قدرتها على التأقلم مع التطوّر التكنولوجي، وأصبحت جزءًا من لغة الذكاء الاصطناعي، تُستخدم في برمجة التطبيقات الذكية، وتحليل البيانات، وترجمة النصوص، ممّا يفتح آفاقًا جديدة لنشر الثقافة العربية على المستوى العالمي وتعزيز التفاهم بين الشعوب”.
كما اعتبر الناقد الأدبي مهيدي منصور بأن احتفاء الجزائر ومؤسّساتها الأكاديمية والثقافية باليوم العالمي للغة العربية لهو دعوة لتقدير مكانتها ودورها الحضاري، والتأكيد على ضرورة العمل على تطويرها ومواكبتها لمقتضيات العصر، باعتبارها واحدة من الدول العربية التي تعتزّ بهُويّتها الثّقافية والحضارية، وتولي اهتمامًا كبيرًا للنهوض باللغة العربية وتعزيز مكانتها.
ونوّه المتحدث بالمجهودات الكبيرة التي تبذلها الجزائر للحفاظ على لغة الضاد وتطويرها في مختلف المجالات، حيث انكبّت ـ يقول ـ على تعريب النظام التعليمي تدريجيًا بعد الاستقلال، كما دعت إلى إنشاء أقسام لتدريس اللغة العربية وآدابها في الجامعات، بهدف تكوين أجيال متعلّمة وواعية بأهمية هذه اللغة، لاسيما من خلال الجهود التي أولتها الجزائر في اهتمامها بالإعلام الناطق بالعربية، من خلال القنوات التلفزيونية والإذاعات والصّحف.
ويضيف بأنها سعت إلى تشجيع الباحثين على استخدام اللغة العربية في الدراسات الأكاديمية والبحث العلمي، على غرار إنشائها العديد من المؤسّسات التي تُعنى بالحفاظ على التراث العربي واللغة، مثل المجمع الجزائري للغة العربية، والذي يعمل على تطوير اللغة وإثرائها بمفاهيم ومصطلحات جديدة، والمجلس الأعلى للغة العربية الذي يعدّ هيئة رسمية تعمل على حماية اللغة العربية وتعزيز مكانتها بين اللغات وتطويرها لضمان حضورها في العالم الرقمي.
الناقد منصور مهيدي، أكد على أن الجزائر تواصل جهودها للنهوض بلغة الضاد، وذلك من خلال العمل أيضا على دمج اللغة العربية في مجال التكنولوجيا، بتطوير تطبيقات وبرمجيات تدعم استخدام اللغة في التعليم والبحث والإعلام، فضلا عن مشاركة الجزائر في المؤتمرات والمبادرات العربية والدولية من أجل تعزيز مكانة اللغة العربية على مستوى العالم، مما يُبرز دورها كدولة رائدة في الدفاع عن لغة الضاد.