يحتفي اليوم العالمي للغة العربية، الذي يصادف 18 ديسمبر من كل سنة، بالعربية التي تمثل تراثا لغويا وثقافيا فريدا، ورمزا للتنوّع والإلهام الثقافي، و«إحدى الركائز التي تقوم عليها القيم الإنسانية المشتركة” وفقا لـ “يونسكو”.
واختارت الـ “يونسكو” موضوع “اللّغة العربية والذكاء الاصطناعي: تعزيز الابتكار مع الحفاظ على التراث الثقافي” لاحتفالية هذه السنة. من جهتها، تحرص الجزائر على ترقية اللغة العربية، خاصة وأنها اللغة الرسمية للدولة، إلى جانب السهر على تعميم استعمال العربية في العلوم والتكنولوجيا.
يأتي اختيار الاحتفاء باللغة العربية في هذا التاريخ لكونه اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190 في ديسمبر عام 1973، والذي يقر بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة. وفي أكتوبر 2012، عند انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لليونسكو، تقرر تكريس يوم 18 ديسمبر يوما عالميا للغة العربية، وكانت تلك المرة الأولى التي تحتفل فيها اليونسكو بهذا اليوم. وفي 23 أكتوبر 2013، قررت الهيئة الاستشارية للخطة الدولية لتنمية الثقافة العربية (أرابيا) التابعة لمنظمة اليونسكو، اعتماد اليوم العالمي للغة العربية واحدا من العناصر الأساسية في برنامج عملها لكل سنة.
وبحسب اليونسكو، فإن أيام اللغات في الأمم المتحدة تهدف إلى “تعزيز التعدد اللغوي والتنوّع الثقافي والاحتفاء بهما، بالإضافة إلى الحرص على المساواة بين اللّغات الرسمية في منظومة الأمم المتحدة ووكالاتها”.. والأيام هي: العربية (18 ديسمبر)، الصينية (20 أفريل)، الإنجليزية والإسبانية (23 أفريل)، الفرنسية (20 مارس)، الروسية (6 جوان).
وتعتبر المنظمة الأممية أن اللّغة العربية تجمع “أناساً من خلفيات ثقافية وإثنية ودينية واجتماعية متنوّعة، بوصفها إحدى الركائز التي تقوم عليها القيم الإنسانية المشتركة.”
العربية.. والذكاء الاصطناعي
واختارت اليونسكو أن يكون احتفال هذه السنة باليوم العالمي للغة العربية تحت شعار “اللغة العربية والذكاء الاصطناعي: تعزيز الابتكار مع الحفاظ على التراث الثقافي”، داعية إلى تشجيع الابتكار والحفاظ على الثقافة ورسم ملامح العصر الرقمي.
وتقول المنظمة إن الاحتفالية التي تحييها بمقرها تأتي لاستكشاف مستقبل اللغة العربية في الذكاء الاصطناعي، وسُبل سد هذه الفجوة الرقمية عن طريق الذكاء الاصطناعي، وتعزيز حضور اللغة العربية على شبكة الإنترنت، ودعم الابتكار وتشجيع الحفاظ على التراث، وبرمجت جلسات تتمحور حول مواضيع الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي العربي، والحفاظ على الثقافة واللغة، والتمكين الرقمي.
لماذا اللغة العربية والذكاء الاصطناعي؟ تنطلق اليونسكو في إجابتها على هذا السؤال من كون العربية لغة عالمية ذات أهمية ثقافية جمّة، إذ يبلغ عدد الناطقين بها ما يربو عن 450 مليون شخص، وهي تتمتع بصفة لغة رسمية في حوالي 25 دولة. ومع ذلك، تلاحظ المنظمة أن المحتوى المتاح على شبكة الإنترنت باللغة العربية لا يتجاوز نسبة 3%، وهو ما يحدّ، بحسبها، من إمكانية انتفاع ملايين الأشخاص به.
وسبق للمديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، أن أكدت تقدير المنظمة الأممية “للناطقين ﺑﺎللغة العربية (…) والذين يحافظون على تراث لغوي وثقافي فريد ورمز للتنوّع والإلهام الثقافي، من خلال المحافظة على اللغة العربية”.
ووفقا لأزولاي، فإن “اللغة العربية حلقة وصل بين ثلاث قارات، إذ يعيش معظم الناطقين بها في منطقة تشكل ملتقى طرق أوروبا وآسيا وأفريقيا وملتقى سُبل التبادل. وتستمد اللغة العربية قوتها وتنوعها من تاريخها الطويل الممتد لألف عام ونيف. وقد ازدادت اللغة العربية تنوعاً على تنوعها وثراءً على ثرائها من خلال ما استمدته من الثقافات الأخرى، فأفضى ذلك إلى إيجاد فكر ذي أهمية تاريخية فريدة. ولا تقتصر منافع الموقع الجغرافي لتلك المنطقة الواقعة في قلب العالم على جعل اللّغة العربية لغة التجار، بل تشمل جعلها لغة العلماء والفنانين والفلاسفة. وقد تمخض الازدهار الفكري والثقافي المرتبط باللغة العربية عن روائع فكرية كثيرة تضم على سبيل المثال لا الحصر، قصائد الشاعر أبي نواس والشاعر عمر الخيام والشاعرة الشهيرة الخنساء وأعمال الفيلسوف والطبيب ابن سينا والفيلسوف والطبيب ابن رشد وأعمال سائر المفكرين والعلماء الذين أبدعوا باللغة العربية على مرّ القرون.”
ترقية العربية.. أولوية جزائرية
بذلت الدولة الجزائرية جهودا معتبرة، على مختلف الأصعدة، من أجل ترقية اللغة العربية، باعتبارها مكوّنا رئيسا من مكوّنات الهوية الوطنية. وبعد نجاح الجزائريين في حماية لغتهم من المساعي الاستعمارية، كرست الجزائر المستقلة دساتيرها وقوانينها لتمكين اللغة العربية.
ونجد الدستور الجزائري (2020) يشدّد على كون العروبة (وبالتالي اللّغة العربية) من المكونات الأساسية لهوية الجزائر، ونقرأ في ديباجة الدستور أن أول نوفمبر 1954 وبيانه المؤسس كانا نقطتيْ تحوّل فاصلة “في تقرير مصيرها وتتويجا عظيما لمقاومة ضروس، واجهت بها مختلف الاعتداءات على ثقافتها، وقيمها، والمكونات الأساسية لهويتها، وهي الإسلام والعروبة والأمازيغية، التي تعمل الدولة دوما لترقية وتطوير كل واحدة منها، وتمتد جذور نضـالـهـا الـيـوم في شتى الميادين في ماضي أمتها المجيد”، وهو ما يؤكد ما سبق ذكره في هذا الصدد. وتضيف ذات الديباجة: “لقد تجند الشعب الجزائري وتوحد في ظل الحركة الوطنية، ثم انضوى تحت لواء جبهة التحرير الوطني التاريخية، وقدم تضحيات جساما من أجل أن يتكفل بمصيره الجماعي في كنف الحرية والهوية الثقافية الوطنية المستعادتين، ويشيد مؤسساته الدستورية الشعبية الأصيلة”.
كما وتنص المـادة الثالثة من الدستور على أن “اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية”. ونقرأ في ذات المادة: “تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. يحدث لدى رئيس الجمهورية مجلس أعلى للغة العربية. يكلف المجلس الأعلى للغة العربية على الخصوص بالعمل على ازدهار اللغة العربية وتعميم استعمالها في الميادين العلمية والتكنولوجية والتشجيع على الترجمة إليها لهذه الغاية”.
وفي سياق النصوص القانونية ذات العلاقة، نذكر القانون 91-05 المؤرخ في 16 يناير 1991، الخاص بـ«تعميم استعمال اللغة العربية”، والذي “يحدد القواعد العامة لاستعمال اللغة العربية في مختلف ميادين الحياة الوطنية، وترقيتها، وحمايتها” (المادة 01)، وينص القانون على أن “اللغة العربية من مقومات الشخصية الوطنية الراسخة، وثابت من ثوابت الأمة، يجسد العمل بها مظهرا من مظاهر السيادة، واستعمالها من النظام العام” (المادة 02)، كما “يجب على كل المؤسسات أن تعمل لترقية اللغة العربية، وحمايتها، والسهر على سلامتها، وحسن استعمالها” (المادة 03).
ولم تكتف المادة 08 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية، الصادر في 2008، بإلزام استعمال اللغة العربية في جميع مراحل التقاضي فحسب، بل نصت على عدم قبول الوثائق والمستندات بغير اللغة العربية أو مصحوبة بترجمة إلى هذه اللغة. ويعتبر د.محمد بومدين (جامعة أدرار) أن هذه المادة جسدت “نص المادة الثالثة من الدستور المتضمن اعتبار اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية للجمهورية الجزائرية”، ويضيف: “فرغم النص في الدساتير الجزائرية المتعاقبة على اللغة العربية كلغة رسمية، ورغم صدور قانون 91-05 المتضمن تعميم استعمال اللغة العربية، فإن نص المادة 08 (…) جسد السيادة الوطنية في مدلولها اللغوي الرسمي بشكل قاطع وشامل في المرفق القضائي”.
ومن بين المؤسسات التي تسهر على ترقية اللغة العربية بالجزائر، نذكر المجلس الأعلى للغة العربية، وهو هيأة استشارية تحت إشراف السيد رئيس الجمهورية، وكما سبق ذكره، فقد حدّد دستور 2020 في مادته الثالثة المهام الرئيسية للمجلس. ويعمل المجلس على تقديم أفكار بخصوص اللغة العربية في مقامها الحاضر، ومآلاتها المستقبلية، بما نص عليه الدستور من مهام “العمل على ازدهار اللغة العربية وتعميم استعمالها في العلوم والتكنولوجية والترجمة” لتحقيق الأهداف والمرامي التي أُنشئ من أجلها.
ولهذه المهام، فإن المجلس، وفقا لرئيسه البروفيسور صالح بلعيد، يحمل خريطة طريق موزعة على الآماد الثلاث، يروم من خلالها تطبيق منهجيات تحقيق مآلات اللغة العربية عن طريق تحبيبها والترغيب فيها، وخدمتها في ظل العولمة حيث البقاء للغات الحاملة للمكانز والمتون اللغوية، وللغات التي تتماهى في التقانات المعاصرة لتحقيق الذكاء الصناعي؛ وفاء للانتشار والأمن اللغوي، وهذه هي الخريطة التي يطبقها المجلس الأعلى للغة العربية من خلال المشاريع التي أنجزها تحقيقا للازدهار والتقدم الذي لا يكون إلا باللغة الأم.
أما المجمع الجزائري للغة العربية، فهو هيئة ذات طابع علمي وثقافي، ويتمتع بالشخصية المعنوية، والاستقلال المالي، تحت وصاية رئاسة الجمهورية. وقد تأسس المجمع عام 1986 بهدف خدمة اللغة العربية وتأكيدا على ما جاء في الدستور الجزائري.
ويمكن تلخيص أهداف المجمع في خدمة اللغة العربية، بالسعي لإثرائها وتنميتها وتطويرها، والمحافظة على سلامة اللغة الوطنية، والسهر على مواكبتها للعصر، والمساهمة في إشعاع اللغة العربية، باعتبارها أداة إبداع في الآداب والفنون والعلوم، وإحياء استعمال المصطلحات الموجودة في التراث العربي الإسلامي، واعتماد المصطلحات الجديدة التي أقرها اتحاد مجامع اللغة العربية، والتي يقرها في المستقبل، ونحت مصطلحات جديدة بالقياس والاشتقاق، وترجمة وتعريب المصطلحات، ونشر جميع المصطلحات في أوساط الأجهزة التربوية والتكوينية والتعليمية والإدارية.