إضافة جديدة ومتميزة للمكتبة الجزائرية، من خلال إصدار جديد يحمل عنوان “المقدس والعنف في فكر محمد أركون” للدكتور عبد النور شرقي. يسلط هذا الكتاب الضوء على موضوع شائك ومثير للجدل يتمحور حول العلاقة بين المقدس والعنف من منظور المفكر الكبير محمد أركون، الذي يعدّ من أبرز رواد الفكر النقدي الإسلامي في العصر الحديث. ويمثل هذا الإصدار إضافة نوعية للنقاش الفكري في الجزائر والعالم العربي، كما يفتح آفاقاً جديدة لفهم أعمق وأشمل لإرث أركون الفكري وأثره على الدراسات الحديثة في مجالات الدين، الفلسفة، والاجتماع.
يرى الدكتور عبد النور شرقي، ان إشكالية العلاقة القائمة بين المقدّس والعنف كانت إحدى الإشكاليات الهامة التي استرعت انتباه المفكر الجزائري محمد أركون، وكانت واحدة من المسائل الملحّة التي أثّثت مشروعه الفكري في نقد العقل الإسلامي، وقال في اصداره “فنجده يولي اهتماما كبيرا في الشق التطبيقي منه إلى مسألة تاريخية المقدّس ضمن معالجته للظاهرة الدينية؛ لقد تمتّع المقدّس في عهد النبوّة بقوة المعنى، متّجها في ذلك نحو إنتاج الدلالة، وقد اكتسى طابع الحوار والإقناع قبل أن يتحوّل بعد وفاة النبي محمد ﷺ إلى خطاب مدرسي، يؤمن بحقيقة واحدة ووحيدة مما ساهم في إنتاج ضروب من المواجهة العنيفة بين الفِرق والمذاهب الإسلامية، مثلما كان الشأن بعد ذلك مع الحروب الصليبية والصراعات المذهبية المسيحية (البروتستانت والكاثوليك).”
كما أشار المؤلّْف، إلى أن مسألة العلاقة بين المقدّس والعنف طرحت من قبل مع المفكر والأنثروبولوجي الفرنسي رينيه جيرار، من خلال مؤلفه الشهير “العنف والمقدّس” الذي أكّد فيه أن جميع الثقافات البشرية بحاجة إلى الذبح المطهّر (كبش الفداء) الذي يُهدئ من روع الجماعة ويجمعها من جديد، لكنه غلّب الديانة المسيحية على بقية الديانات التوحيدية، ورأى أنها الوحيدة التي تساعد على الخروج من العنف أكثر من أي ديانة أخرى.
«بينما أركون طرح العلاقة من زاوية أخرى، فالمثلث الأنثروبولوجي (عنف، مقدّس، حقيقة) يتجلّى في العلاقة القائمة بين أضلاعه الثلاث، بعدما أضاف الحقيقة؛ فكل مجتمع لديه مقدّسه الخاص، وللدفاع عنه وحمايته يلجأ في كثير من الأحيان إلى استعمال العنف، مؤمنا في ذلك بأن دينه أو مقدّسه يمثل الحقيقة الوحيدة الصحيحة، باعتبار أن المقدّس كلّما تشكّل في معتقدات ساكنة ثابتة ولا تتغير، فإنه سيؤدي إلى صياغة الحقيقة في خطاب ثابت غير قابل للتغيير، فالجماعة التي تؤمن بمقدّسها وتعتقد بواسطته أنها تمتلك الحقيقة تعمل على نشرها والدفاع عنها، في مقابل تسفيه مقدّسات الآخرين والحط منها.” يقول عبد النور شرقي.
وأضاف: “وقد اختار أركون تحليل سورة التوبة للبرهنة على صحة نظريته حول اشتغال المثلث الأنثروبولوجي (عنف -مقدّس -حقيقة) ليس بالنسبة للإسلام وحده، بل بالنسبة لكل الأديان والفضاءات الحديثة، إضافة إلى النزعات الأيديولوجية العرقية والدينية والقومية …إلخ.”
كما ذكر الكاتب، ان تصاعد وتيرة الصراع الديني وبروز الحركات والنزعات الأصولية المتطرفة (الدينية، العرقية، القومية، العلمانية، الهوية…إلخ) منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى غاية اليوم، كان سببا ملحا للبحث في إشكالية العلاقة القائمة بين المقدّس من جهة والعنف من جهة أخرى.
ومن الأسئلة التي يحاول المؤلف الإجابة عنها في كتابه: هل يوجد استعداد لدى الأديان لاستخدام القوّة والعنف؟ وما موقف الخطاب القرآني منه؟. هل ممارسة العنف راجع بالأساس إلى المقدّس ذاته (النص الديني) أم إلى نزاع/ اختلاف في تأويله؟. إضافة إلى هذا، هل بإمكان المُؤوِّل الاحاطة الشاملة بالمُؤوَّل فهمًا ودراية؟ وإذا كان ذلك ممكنا، فلماذا يختلف القراء في تأويل النص الواحد عبر أزمنة وأمكنة مختلفة؟. ما هي الآليات التي يمكن اعتمادها في سبيل تجاوز العنف والحد من انتشاره، وهل بإمكاننا التأسيس لفضاءات العيش المشترك؟.
وبحسب شرقي، جاء الفصل الأول من الكتاب: بمثابة المدخل التعريفي، الذي عالج من خلاله المفاهيم التي يحتويها أضلاع المثلث الأنثروبولوجي كما ذكرها أركون وكان عنوانه كالآتي: المقدّس والعنف، الإطار المفاهيمي والسياق التاريخي: قسّمه المؤلف إلى ثلاثة مباحث، حيث عالج في المبحث الأول مفهوم المقدّس وطبيعته، ومسارات التشكّل بداية مع الإنسان البدائي الأول ثم حضوره في الديانات الوضعية والتوحيدية، أما المبحث الثاني كان حول سيرورات العنف وتمظهراته، تناول فيه المقاربات التي تناولت المفهوم فلسفيا وأنثروبولوجيا، ومن نصوص الأديان التوحيدية، مشيرا إلى أحكام ممارسته، كما بحث في عملية تقنينه وتطبيقه مع الدولة الحديثة. وفي المبحث الثالث تطرق شرقي إلى مشكلة نسبية الحقيقة مع الفلسفة الحديثة حين تراجعت سيطرة الكنيسة، وبرز الدور المحوري للعلوم والمعارف وبناء مؤسسات الدولة الحديثة، وبما أن الحقيقة المطلقة لم يعد لها مكان مع مسارات التحول التي انتهجتها نظريات المعرفة الحديثة، فإننا سوف نلحظ نقدا راديكاليا للحقيقة الدينية في شقّها المبني على الدوغمائية والتعصب.
أما الفصل الثاني من الدراسة فقد عنونه الكاتب بـ: نحو إعادة قراءة التراث الإسلامي -تحليل المثلثات الأنثروبولوجية-، عالج من خلاله المواقع المعرفية لنقد العقل الإسلامي، وعمل على تحليل ثلاث مثلثات منها لأهميتها في الكتاب من جهة، ولتداخلها الوثيق فيما بينها من جهة أخرى، وهي: المثلث المعرفي: (الوحي، التاريخ، الحقيقة) منطلقا في هذا المثلث من معالجة مشكلة انتقال الوحي من المستوى المتعالي (اللوح المحفوظ) إلى المستوى المتجلّي، والنصوص الدينية (اليهودية، المسيحية، الإسلام) هي أجزاء متجلّية من الوحي المتعالي، وبالتالي هي جزء من الحقيقة وليست كل الحقيقة، أما بالنسبة للنصوص التي تأتي شارحة لها فيما بعد والتي أنتجتها الأمة المفسّرة، فهي نصوص ثانوية ولا تتمتّع بالمكانة نفسها التي يتمتّع بها الوحي. المثلث اللاهوتي-الفلسفي: (الإيمان، العقل، الحقيقة)، وبحث في العلاقة الجدلية بين العقل والإيمان، وفي نقده للعقل اللاهوتي (الأصولي والتفسيري) وضع أركون يده على مكامن الخلل في الاجتهادات التقليدية التي أحكمت قبضتها على الاجتهاد وأغلقت بابه، فاتحا بذلك الطريق نحو حرية الاجتهاد وتعدد التأويلات، وبالتالي الانتقال من الاجتهاد الكلاسيكي إلى نقد العقل الإسلامي. المثلث التجريبي: العقل، والمجتمع، والسلطة/ المشروعية العليا، كان بمثابة محاولة اكتشاف ما تقوم به السلطة السياسية من توظيف واستغلال للسيادة العليا وجعلها في خدمتها، ثم البحث في التداخل بين الروحي والزمني ليدافع في مشروعه الفكري عن العلمانية المنفتحة، وإعطائها بعدا معرفيا بدلا من الأبعاد الأيديولوجية التي ظهرت مع العلمانوية.
وفي الفصل الثالث من الكتاب والذي كان عنوانه: اشتغال المثلث الأنثروبولوجي (العنف، المقدّس، الحقيقة) -قراءة في سورة التوبة، ركز الكاتب فيه على دراسة سورة التوبة دراسة أنثروبولوجية، كما طرحها أركون في العديد من دراساته. وقد تناول الكاتب في المبحث الأول: الحقيقة بين رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، أين ميّزنا بين المعنى الأول الأصلي والثابت، وبين آثار المعنى اللاحقة والناتجة عن اختلاف أنظمة المعرفة السائدة التي أثّرت بشكل كبير ومباشر في تشكّل نظام الحقيقة-الشريعة بعد وفاة النبي ﷺ. أما المبحث الثاني: الذي حمل عنوان: العنف ضمن المدوّنة القرآنية، فقد ناقش ديالكتيك أضلاع المثلث ومدى التفاعل فيما بينها، ثم معالجة ما جاء في النص القرآني أو المصحف “المدونة الرسمية المغلقة” من دعوة مباشرة أو غير مباشرة لاستخدام العنف، وللدفاع عن الشريعة-الحقيقة تم اتخاذ –بحسب أركون- أربعة مواقف اتجاه مسألة اللجوء إلى القتال واستخدام العنف ضد المخالفين. بينما المبحث الثالث: سورة التوبة -قراءة تطبيقية، ناقش فيه عبد النور شرقي السياق الذي نزلت فيه السورة، ثم دراستها ومقاربتها تأويليا، فكانت القراءة الألسنية-السيميائية والتي -ألحّ عليها أركون- تهدف إلى تحرير القارئ من هيمنة النصوص المقدّسة، باعتبار أن النص الديني هو نص لغوي يستخدم مفردات اللغة البشرية، وإذا ما قمنا بهذه المهمّة فإن القراءة التاريخية-الاجتماعية تكون متاحة ومفهومة، وبعدها تأتي القراءة الأنثروبولوجية لـ: آية السيف؛ “فلا يوجد تأويل نهائي نحتكم إليه مهما كان، فكل ما مورس ويمارس لحد الآن من عنف وقتل باسم الدين، ومن استخدام لآية السيف كمرجعية أساسية في تشريع الأعمال العنيفة يعد إساءة إلى الدّين، ومن قام بذلك يُعتبر توظيفه في غير محلّه.”، يقول الكاتب.
وجاء الفصل الرابع والأخير بعنوان: آليات تجاوز العنف، نحو أفق للعيش سوياً، هذا الفصل كان بمثابة مخرج للأزمة وأفق للحلول التي رأى المؤلف أنها مناسبة، مشيرا إلى انه مقترح ناضل من أجله أركون في سبيل الحد من الصراع بين المجتمعات والأديان، لافتا إلى أن نقده كان نقدا مزدوجا، موجّها للحداثة الأوروبية من جهة، وإلى العقل الإسلامي من جهة أخرى، بغية تأسيس لاهوت إسلامي تحريري، وحتى يتسنى للذات أن تتفاعل مع الغير ثقافيا لابد من فتح فضاءات العيش المشترك والفضاء المتوسطي بإمكانه أن يكون نموذجا ومنطلقا نحو تحقيق هذا المسعى.
أما بخصوص الخاتمة فقد خصصها لتقييم المشروع الأركوني، انطلاقا من رؤيته الفكرية نحو الخروج من السياجات الدوغمائية، وما يتطلب من تكاتف جهود الكثير من الاختصاصات لترسيخ ثقافة السلام والعيش معا، بعيدا عن النبذ المتبادل المبني أساسا على النظرة الضيقة، وامتلاك الحقيقة المطلقة والاستحواذ عليها، وبعيدا كذلك عن الجو المشحون بالكراهية.
للإشارة، الدكتور عبد النور شرقي كاتب وباحث جامعي، تخصص فلسفة عربية وإسلامية رئيس فرع ولاية المسيلة للجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية عضو المكتب الوطني للجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، شارك في عدة ملتقيات علمية أكاديمية، وطنية ودولية. كما ساهم في العديد من الكتب الجماعية منها: فلسفة التاريخ، مدرسة فرانكفورت النقدية، الفلسفة الفينومينولوجية، الفكر العربي المعاصر..