تتأهب الجزائر بكفاءة وصرامة للانتقال إلى مرحلة جديدة من تعميم الرقمنة على مستوى عال وشامل من التعاملات المالية الحديثة، بالانفتاح على الابتكار والتكنولوجيا.
وينتظر من هذه الخطوة العملاقة، تعزيز الرقابة المالية والاستغلال الجيد للموارد، من خلال امتصاص الكتلة النقدية بالسوق الموازية، الهاجس المنتظر القضاء عليه بشكل تدريجي وبحلول نهائية، لتحل الرقمنة محل الأساليب التقليدية يتصدرها تقليل التعاملات النقدية واستبدالها بتعاملات حديثة، تبرز أكثر في البطاقات البنكية، مما يسمح ببروز قنوات إلكترونية مستقطبة وفورية ودقيقة، تمنع تراكم الموارد المالية في السوق الموازية.
ملف: فضيلة بودريش وهيام لعيون وفايزة بلعريبي
بدأت البنوك والمؤسسات المصرفية، تراهن بشكل تدريجي وتلقائي على الرقمنة. وتحولت عملياتها المالية تجاه تطبيقات ومنصات رقمية آمنة، بهدف تسهيل المتابعة الآنية للحركة النقدية في مختلف الحسابات بالعملتين الوطنية والأجنبية. وكل ما تحقق جعل الجزائر في رواق آمن، لأن رقمنة القطاع المالي يكرس الشفافية ويقضي على مختلف مظاهر الفساد ويجهض محاولات تبييض الأموال ويعد هدفا أسمى وضمن أولويات الجزائر في المرحلة الراهنة.
المنظومة المالية والمصرفية في سباق مع الزمن من أجل مواكبة التطور السريع والمتقدم الجاري في المنظومة العالمية، حيث شرعت الجزائر في خوض ثورة جذرية لرقمنة منظومتها المالية، انطلاقا من قطاع الجمارك إلى الضرائب وصولا إلى أملاك الدولة. ونجحت، على ضوء تعليمات رئيس الجمهورية، في تحقيق الكثير من المكاسب، محدثة فارقا معتبرا من المنتظر أن يفضي إلى مرونة غير مسبوقة في تبسيط المعاملات المالية وسرعة أدائها، بفضل الإصلاحات والتعديلات السارية على قدم وساق.
ينبغي التذكير هنا، بالإجراء التاريخي الأخير الذي نص على الرفع من منحة السفر إلى 750 أورو وهذا ما يعول عليه لامتصاص ناجع للسوق الموازية.
التّحوّل المالي الإلكتروني..الجزائر تنتصر
يبرز مسار التّحوّل الرّقمي في القطاع المالي والمصرفي كحتمية وضرورة تفرضها الظرف والمستجدات والأسواق والتطور الجاري في المنظومات المصرفية العالمية، لكن اليوم صار واقعا محسوسا ولافتا، كشف عن تحوّل كبير ومهم، شقّت فيه الجزائر نهجها لتكون في مستوى النمو والتطور المسطر من الجزائر الجديدة إلى جزائر منتصرة تخطّط بدقة، وتنجز بخطوات سريعة وواثقة، ولعل من أبرز المعارك المستمرة رقمنة القطاع المالي، وتسارعت وتيرته بقانون نقدي ومصرفي جديد.
يمثّل القانون النقدي والمصرفي همزة وصل ونافذة نحو انطلاقة قوية للبنوك لتكون في عمق المعركة التنموية، ولتؤدي دورها الريادي على عدة أصعدة، ويمكن القول إن القانون النقدي والمصرفي أزال جميع العراقيل، وجاء ليواكب التطور التكنولوجي الرهيب في أسواق المال الإقليمية والعالمية، وعلى ضوئه يمكن ترقب أقصى حد من المرونة، ومن المتوقع أن تكتسيها المنظومة المالية والمصرفية الوطنية، ومن ثم الذهاب بعيدا في تحقيق أهداف الشمول المالي والدقة في متابعة حركة الأموال على وجه الخصوص، والبداية جاءت مع التأسيس لبنية تحتية رقمية تدعم أهداف الجزائر وخطتها المرسومة بدقة.
وممّا لاشك فيه، أنّ الجباية تعد من مصادر تمويل الميزانية، ومن الطبيعي أن تحتل رقمنة قطاع الضرائب، أولوية مطلقة في برنامج رئيس الجمهورية إلى جانب الجمارك وأملاك الدولة، وعلى اعتبار أنّ السوق الموازية تخفّض من حجم عملية تحصيل الضرائب، والرقمنة جاءت لتصحّح الاختلالات وتمنع التهرب الضريبي، وتسهل سيران الموارد المالية في قنواتها الطبيعية والمتمثلة في دائرة البنوك، فضلا عن جودة الخدمة المنتظر أن تقدم للمتعاملين الاقتصاديين وكذا المواطنين على حد سواء، بما يكرّس بالعدالة الجبائية.
وتعتبر الحوكمة أسلوبا رقابيا محكما وفاعلا في الجهاز المصرفي، لذا جاء رهان الرقمنة وانطلق في تجسيده بمراحل، فتمّ إطلاق منصات رقمية عديدة إلى جانب سلسلة من التطبيقات الإلكترونية، وسمحت هذه الخطوة بإدراج تسهيلات كبيرة، وبالنسبة لقطاع الضرائب، صار يمكن التسجيل الجبائي عن بعد بالإضافة إلى إيداع واستعادة الوثائق كما الدفع الإلكتروني للرسوم، خاصة بفعل استحداث نظام “جبايتك”.
وفي قطاع الجمارك، استفاد من مركز البيانات ومن شبكات الاتصالات إلى جانب مشروع البرمجيات، وسمح هذا الأخير بإطلاق نظام معلومات جديد عصري، يدير جميع عمليات التخليص الجمركي، ويتكفّل بمهمة نشر كل المعلومات عن التجارة الخارجية، إلى جانب ترقية مختلف آليات مكافحة الغش والتهريب. ويتطلب من تجربة المالية الإلكترونية أن تعكف على تقييم أداء آليتها وأنظمتها الإلكترونية، والقضاء على أي خلل بشكل استباقي.
وينبغي التأكيد أنّ التحول الرقمي يوجد في المتناول، وينتظر قريبا أن يصل إلى المستوى المطلوب، خاصة بعد مراجعة الترسانة التشريعية والنجاح في توسيع عمليات الدفع الالكتروني، وإدراج العملة النقدية في القانون النقدي والمصرفي، على خلفية أنه يسمح بإنشاء شركات متخصصة لتطوير الدفع الالكتروني، علما أن القانون النقدي والمصرفي حسم في التعجيل بالتحول المالي الالكتروني
التّحوّل الرّقمي.. خطوات عملاقة للشّمول المالـي الآمـن
قال المستشار في التحول الرقمي، فاتح بورصاص، إنّ الجزائر قطعت خلال السنوات الأخيرة الماضية “خطوات معتبرة” في هذا المسار، حيث شهدت تسريعا في مسار الرقمنة، وبأوامر من رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، تمّ تحديث العديد من القطاعات الرئيسية، بما في ذلك رقمنة الخدمات المالية والمصرفية، وتشجيع الابتكار من خلال دمج التكنولوجيا بقطاع المالية.
أفاد المختص في مجال الرّقمنة، أن هذا التحوّل تحقق بفضل الجهود التي بذلتها السلطات العمومية فيما يتعلق بالربط بشبكات الألياف البصرية والجيل الرابع والربط بالساتيليت، التي تمثل الجوهر الحقيقي لتكنولوجيا الاتصالات الحديثة، حيث تُقدّم مزايا غير مسبوقة من حيث السرعة والموثوقية وقابلية التوسع، مبرزا أنّ “انتشارها يعد حافزا للتغيير والتقدم نحو عصر تصبح فيه الاتصالات عالية السرعة في متناول الجميع، ويصبح المجتمع أكثر شمولاً مع بنية تحتية أكثر مرونة”.
التحوّل الرّقمي..خطوات كبيرة
وحول العملية الشاملة للتحول الرقمي التي تعدّ من أولويات برنامج رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، والتي تحدّث عنها مؤخرا وزير المالية لعزيز فايد، أفاد المختص في الرقمنة، أنّ “عملية الشمول الرقمي قد حقّقت خطوات كبيرة في جميع القطاعات الحكومية، حيث لا نجد قطاعا واحدا لم تشمله العصرنة، وتمّ الاعتماد على عالم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على مستوى الوزارات والمؤسسات العمومية الإدارية منها والاقتصادية، فوضعت السلطات المعنية إستراتيجيات رقمية، كإنشاء مواقع على الواب وعصرنتها بما يسمح بخلق التفاعل بينها وبين المواطنين، وتوفير المعلومات الكافية لنشاطاتها واحتياجاتها اليومية وفقا لمعايير المرونة، السرعة والأمان.
وفي هذا الإطار، أبرز بورصاص أنّه تمّ إنجاح عملية الولوج إلى الرقمنة في عدة قطاعات إدارية واقتصادية خاصة خلال السنوات الأخيرة كقطاع التربية، التعليم العالي والبحث العلمي، المالية، الداخلية، الدفاع الوطني والأمن السبيراني، مشيرا إلى أنّ “استحداث هيئات عليا تعنى بالرقمنة والابتكار في الجزائر ونشاطاتها الدؤوبة، عزّز من انتشار الوعي واستقطاب الكفاءات اللازمة لدى الجماهير والمؤسّسات، لما لها من دور كبير تلعبه في المحيط الاقتصادي والاجتماعي، وفي ظل توجيهات رئيس الجمهورية أصبح التحدي حقيقة لدى الكثير من القطاعات”.
أمّا في مجال رقمنة الخدمات المالية والبنكية وتشجيع الابتكار، فقد أكّد الخبير الرقمي، أنّ الجزائر قطعت أشواطا هامة من خلال تمكين التجار والمهنيين من الحصول مجانيا على نهائيات الدفع الإلكتروني بواسطة الوكالات البنكية ومكاتب البريد، فأصبح بإمكان المواطنين والزبائن القيام بإجراء عمليات شراء لسلع وخدمات بطريقة آنية، رقمية ومؤمّنة.
كذلك – يضيف محدّثنا – فقد تمّ تفعيل الدفع عبر الانترنيت من خلال ربط بعض المواقع الإلكترونية لشركات تجارية وخدماتية بالبنوك والتأمينات، لتمكين الزبائن من دفع فواتير الكهرباء والماء على سبيل المثال، إلى جانب الاتصالات كذلك والخدمات المختلفة، ممّا سهّل حياة المواطن والمؤسّسات من جهة، وقلّل من تكاليف الإدارة من جهة أخرى.
خدمات مصرفية بنقرة واحدة
وبخصوص مجال الجباية والضرائب والجمارك والبنوك وشركات التأمين، أوضح المتحدّث أنّ “الخدمات حقّقت تحوّلا رقميا، حيث بات الحصول على مختلف الخدمات بنقرة واحدة عبر مواقعها الإلكترونية وتطبيقاتها الآمنة، ويتم تسديد الحقوق وأعبائها عبر منصات متطورة، وموصولة بمراكز بيانات عصرية موطّنة في الجزائر، ممّا يسمح بمعالجة المعلومات المالية والاقتصادية بسرعة وفعالية عالية، ممّا حقق الربح في الوقت والجهد والتكاليف المتنوعة سواء للمواطنين أو للإدارات التابعة لوزارة المالية.
وحول سؤال يتعلق بتطورات المجال المصرفي الرقمي، أفاد بورصاص أنّه خلال شهر جويلية المنصرم، تمّ الإعلان عن البنوك العمومية المعنية بإجراءات تجهيزها بنظام معلوماتي مندمج، تضاف إلى ثلاثة بنوك عمومية أخرى تمتلك نظاما معلوماتيا مطابقا للمعايير البنكية العالمية.
وأضاف “سيحقّق هذا التحول للنظام المعلوماتي على مستوى البنوك العمومية الستة قيمة مضافة كبيرة، سواء داخليا من خلال رقمنة عمليات البنك التجارية والإدارية، أو خارجيا من خلال تحسين نوعية الخدمات الموجهة للزبائن، وتقريب البنوك من المتعاملين ومرافقتهم، ممّا يمكّن المؤسّسات البنكية من خفض تكاليف استثماراتها، وكذلك يحسّن جودة أدائها لتتفرّغ للجوانب التسويقية والابتكار، وعقد شراكات مع المؤسّسات الناشئة في إطار إستراتيجية مواكبة المالية التكنولوجية، وإرساء قواعد الرقمنة الحقيقية في البلاد”.
كما أنّ استعمال المواقع الإلكترونية التفاعلية وتغذيتها بالمعلومات اللازمة للتعامل مع الزبائن من المواطنين والمؤسسات، يعدّ مؤشرا فعّالا للنمو الرقمي الذي عرفته المؤسّسات البنكية في السنوات الخمس الأخيرة، يقول بوصاص، الذي يؤكّد أن
«الحضور البارز للبنوك في وسائط التواصل الجماهيري، وتفاعلها المستمر والمنظم مع الأحداث والترويج للخدمات البنكية والإعلام، يعتبر أداة حقيقية للإقلاع الرقمي في مجال التسويق، الذي تغيّر كثيرا مقارنة بالسنوات السابقة”.
محاربة تزوير العملة والفساد المالي
ومن شأن تكريس الدفع الإلكتروني والعملة النقدية الالكترونية للبنك المركزي، الذي تضمّنه القانون النقدي والمصرفي، والذي يسمح بإنشاء شركات متخصّصة لمزوّدي خدمات الدفع، بتطوير الدفع الرقمي جاء لمحاربة تزوير العملة والفساد المالي، إضافة لتبسيط المعاملات المالية ما بين الفاعلين في المجال التجاري والاقتصادي، وقد عملت الحكومة على توفير الأجهزة الرقمية المخصّصة للدفع الرقمي “TPE”، وتمكين التجار والمهنيين منها ومجانا”.
وأشار في السياق، إلى “أنّها خطوة ممتازة من الحكومة لكنها تحتاج للتحسيس والتوعية، وجب مواكبتها بتعديلات تشريعية تمكّن المواطن من التعامل رقميا، والقيام بعمليات التسديد للآداءات والخدمات والمنتوجات في فضاءات التجارة والخدمات”.
كما أنّ توفير منصّات الدفع عبر شبكات الانترنيت، هي الأخرى جعلت الأمر مبسّطا ومرنا وفي متناول الجميع، مواطنين ومؤسسات مختلفة، حيث أصبح الدفع بنقرة واحدة وفي ظروف أكثر أمنا سبيرانيا ومرونة وبأقلّ التكاليف، على حدّ تعبير محدّثنا.
وأوضح أنّ “هناك فرصة أكثر نجاعة أقرّتها الحكومة تتمثل في الدينار الرقمي في قانون القرض والنقض، حيث بعد طرح العملة للتداول وطنيا سيكون بإمكان المواطنين والمؤسسات الوطنية ملء محافظهم الرقمية بالأموال وتداول “المال الرقمي”، علما أنّ الدينار الرقمي له وجود قانوني مثله مثل الدينار المعدني أو الورقي العادي، وهو محمي ومسموح التعامل به عكس العملات المشفّرة، حيث وجب استصدار تشريعيات تتعلق باستعمالات الدينار الرقمي، ومختلف الإجراءات التقنية المرافقة لإطلاق الدينار الرقمي للتعامل.
تسريع وتيرة الشّمول المالي
وبخصوص دور الدفع الإلكتروني في تسريع وتيرة الشمول المالي، أفاد بورصاص أنّ “الدّفع الإلكتروني جاء لتبسيط المعاملات المالية، ولمحاربة تزوير العملة والفساد المالي، كما يساهم بشكل كبير في خلق فرص العمل وربط المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ببعضها البعض في الجوانب المالية والتنظيمية بكل أمان ومرونة”.
كما أنّ الدفع الإلكتروني – يضيف – يعجّل بإطلاق مشاريع التجارة الإلكترونية وتطويرها، ويساهم في تحصيل الأموال للشركات والمؤسسات التجارية، وبالتالي له دور فعال في تحقيق مقاربة الشمول المالي الرقمي.
أما عن دور خدمة الدفع الالكتروني في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والوصول إلى خدمات مالية آمنة، أبرز ذات المتحدث أنّ “الوصول إلى توفير خدمات رقمية آمنة ومرنة يتطلّب مضاعفة جهود الأمان الرقمي، ومطابقة التشريعات الوطنية والعالمية المتعلقة بالحق في الاتصال الرقمي وحماية البيانات الشخصية”.
وأوضح “كما أنّ نجاح خدمات الدفع الرقمي وتنويعها في الجزائر، لها ميزات كثيرة على غرار توفير مناصب شغل مبتكرة وراقية، وحتى صديقة للبيئة دون تسجيل اختناق مروري، مع التخلي عن أطنان من الورق والمطبوعات، والابتعاد عن الضغوط النفسية والتعب جراء المعاملات التقليدية، وبالتالي ستكون هناك قيمة مضافة حتما لهذا التغيير في سلوك المستهلكين والتجار أو المستعملين الرقميين في آن واحد”.
قوانين لاستخدام التكنولوجيا الماليـة
وفيما يخص دور أنظمة الدفع وتوسيع استعمال أدوات الدفع الحديثة في التقليص من حجم الاقتصاد الموازي، ومحاربة تزوير العملة وتوسيع الشمول المالي، وكذا الوقاية من مخاطر تبييض الأموال والفساد ومحاربتها، أشار محدثنا إلى أن “الدفع الرقمي أو الإلكتروني يساهم في شكل فعال في إمكانية تتبع العمليات المالية من طرف الفاعلين في الشأن الرقابي والمحاسباتي، والتحكم في أشكال الفساد والحدّ من مخاطر تبييض الأموال والتقليص من حجم الاقتصاد الموازي، وكذلك محاربة تزوير العملة الوطني وتحقيق الشمول المالي الرقمي في الجزائر لأول مرة.
وفي هذا الشأن، تحدّث بورصاص عن ضرورة تعزيز ثقافة ربط التكنولوجيا المالية (FinTch) بالقطاع المالي غير البنكي كمسعى لتحقيق الشمول المالي، مستشهدا بتجارب لدول إفريقية وعربية ناجحة في المجال، حيث أنّ الأمر يستلزم استحداث قوانين وتشريعات تتعلق بتنظيم وتنمية استخدام التكنولوجيا المالية في الأنشطة المالية غير البنكية لأول مرة في الجزائر لاستهداف تحقيق الشمول الرقمي المالي.
الخبير حيمران: الجزائر الجديدة.. شفافية المعاملات المالية ومصداقية الأرقام
اتخذت الجزائر، على غرار باقي دول العالم، بحكم ارتباطها بالنظام المالي العالمي، جميع التدابير الاستراتيجية والتنظيمية من أجل تحقيق التحول الرقمي على مستوى مؤسساتها المالية ووسط المحيط الاجتماعي والاقتصادي لمواطنيها، بدءاً بإدراج عدة إجراءات ضمن قانون النقد والصرف الجديد، أهمها الدينار الرقمي وتحصين المنظومة المصرفية من التلاعبات غير المشروعة، والحد من السيولة النقدية لتحديد مسار الأموال بدقة.
أوضح الخبير المالي محمد حيمران، أن عصرنة قطاع المالية بات أمرا حتميا، نظرا للأهمية الكبيرة التي يكتسيها النظام المصرفي والدور الذي يلعبه في تمويل الاقتصاد الوطني عبر تنويع وتعزيز المنتجات المالية. مؤكدا، أن عصرنة النظام المصرفي ورقمنته ستسمح بتحقيق الشمول المالي وزيادة الادخار، إضافة إلى امتصاص السيولة المتواجدة خارج النظام المصرفي.
وبالمقابل، ستمكن عملية العصرنة، التي تسابق وزارة المالية الزمن من أجل تعميمها على مستوى جميع مديرياتها والمؤسسات المصرفية التابعة لها، تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، ستمكن من توفير خدمات الدفع الإلكتروني أو الخدمات “عن بعد” وهو ما نهدف من خلاله -يقول حيمران- إلى زيادة تدفق رؤوس الأموال المتواجدة بالخارج ومضاعفة الاستثمارات الأجنبية ببلادنا.
وأشار إلى أنه، وفي نفس الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة رقمنة المنظومة المصرفية، تعرف الصيرفة الإسلامية رواجا وتطورا كبيرين، بالنظر إلى الزيادة المعتبرة التي سجلتها المعاملات المصرفية وفق هذا النوع الصيرفي الذي استقطب عددا كبيرا من المواطنين.
منظومة رقمية لكبح التجاوزات
وعن رقمنة مختلف الأجهزة التابعة لقطاع المالية، يرى الخبير المالي أن رقمنة المديرية العامة لأملاك الدولة أمر استراتيجي، بالنظر لحساسيته التي تفرض تحيينا منتظما للمعلومة، تفاديا للفوضى والتجاوزات. وأشار المتحدث، إلى أن هذه الأخيرة تحصي لحد الآن 9 تطبيقات معتمدة من أجل تنظيم مصالحها الخارجية، حيث تم دمج مصلحة دمج الأراضي والحفظ العقاري ضمن مصلحة مشتركة.
كما تم إطلاق نظام رقمي يسمى “Thec Don”، يهدف إلى رقمنة شاملة للمديرية العامة وتحصين الموارد العامة. إضافة إلى تطبيق إلكتروني خاص بالمحجوزات، يعمل على متابعة المحجوزات من بداية حجزها إلى غاية عرضها للبيع. وهناك تطبيق إلكتروني خاص بالمصادرة وآخر خاص بأملاك الدولة المتواجدة خارج التراب الوطني، وتطبيق خاص بالمحافظات العقارية.
وقد علق محمد حيمران عن الخطوات التي تم تجسيدها إلى حد الآن على مستوى مديرية أملاك الدولة، بالضرورية والمهمة من أجل الإسراع في توفير المعلومات بشكل يضع حدا للخلافات المتعلقة بملكية العقارات وتسهيل تنظيمها بين الأقاليم الجغرافية من بلديات وولايات.
من جهة أخرى، تعمل مديرية الضرائب على الرفع من وتيرة رقمنة مصالحها، من خلال استحداث عدة تطبيقات إلكترونية، عدد المتحدث بعضا منها، على غرار تطبيق “جبايتك” و«مساهمتك” و«SGF”، المعتمدة على مستوى الولايات. ويقترح الخبير المالي، التفكير في كيفية التخفيف من الضغط الذي تعاني منه هذه التطبيقات، خلال المواعيد المخصصة للتصريح والمقدرة بـ20 يوم بالنسبة للتصريح الشهري الخاص بالتصريح الضريبي.
في هذا المجال، نوه ذات المتحدث بالمستوى المتقدم المسجل على مستوى المديريات العامة لمختلف القطاعات، من حيث التصريح الضريبي عن بعد، ما يعبر عن انتشار ثقافة التعاملات الإلكترونية عن بعد وسط المحيط الإداري، حيث يوفر على المتعاملين الكثير من عناء التنقل وتخفيف الضغط على مكاتب الدفع المتمركزة على مستوى العاصمة.
العملة الرقمية.. تحصـين المنظومة المصرفية
وبما أن الحديث يتعلق برقمنة المنظومة المصرفية، فإن التطرق إلى الشق المتعلق بالعملة الرقمية، التي تستند على تقنية “البلوك تشان”، يفرض نفسه كأحد المحاور المهمة التي جاء بها قانون النقد والصرف الجديد، إلى جانب كونه تحديا عالميا، حيث تكهّن تقرير بنك التسويات الدولية لسنة 2020 -مسبقا- في دراسة استشرافية، قيام البنوك المركزية بإطلاق عملات وطنية رقمية، يقول محمد حيمران، الذي يتوقع أن يحدث الدينار الرقمي ثورة في نماذج التعاملات وتفعيل روابط اقتصادية جديدة قائمة على اللامركزية والشفافية.
وأفاد في السياق، أن هذا النمط الجديد من التعامل المصرفي، سيشمل بالدرجة الأولى منظومة الدفع الإلكتروني، والمدفوعات والتحويلات الخارجية، كما سيسهل من عمليات الدفع، إلى جانب التقليل من تكاليف المعاملات المالية.
من جهة أخرى، اعتبر الخبير المالي رقمنة نظام المدفوعات، من أهم التعديلات التي جاء بها القانون النقدي والمصرفي الجديد، وخطوة جريئة أقدمت عليها الجزائر من أجل إصلاح المنظومة النقدية والمصرفية التي ظلت ثابتة لأكثر من عقدين من الزمن، دون أن يطالها أي تعديل، بالنظر للتغيير الاقتصادي والتنظيمي عبر العالم، رغم أنها إحدى الآليات الأساسية لتطوير الاقتصاد.
ويرى حيمران، أن الإجراءات الرقمية تهدف إلى تعميم وسائل الدفع الإلكتروني وتوفير نظام بيئي مالي داعم لتوسيع التكنولوجيا المالية، التي ينتظر أن تتم وفقها التحويلات المالية وتسويات السيولة بين المؤسسات المالية، من خلال البروتوكولات المالية المتداولة، بدلا من التحويلات عبر الطرق التقليدية التي عادة ما تستغرق وقتا طويلا، ما يؤثر سلبا على حركة السيولة المالية.
كما سيسمح اعتماد الدينار الرقمي من طرف البنك المركزي، أردف ذات المتحدث، بتتبع مسار السيولة بكل دقة وتحديد نوعية التعاملات التي تتم عبرها من وسائل دفع، أكانت بواسطة الشيكات، أو البطاقات أو دفع إلكتروني.
الدفع الإلكتروني.. ثقافة وليدة العصرنة
وبتطرقه إلى مسألة الدفع الإلكتروني، كرهان تعمل السلطات العمومية على تعميمه خلال آجال قياسية، شدد حيمران على أهمية نشر ثقافة المعاملات الإلكترونية وسط جميع شرائح المجتمع، وما تمثله من معيار مهم للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وضرورة توسيع دائرة الدفع الإلكتروني من أجل تحقيق أهداف الشمول المالي، من خلال تطوير المنشآت الأساسية لدعم التكنولوجيا المالية وإشراك أوسع للشبكة البريدية، والتعديل بعصرنة الأنظمة الإلكترونية للحد من السيولة النقدية وتشجيع التجارة الإلكترونية وأدوات تطويرها، بما فيها القوانين المتعلقة بتأطيرها وتنظيمها، والتحفيزات الجبائية المرافقة للتجارة الخارجية عبر الدفع الإلكتروني.
في هذا الصدد، أفاد حيمران بأن مؤسسة بريد الجزائر، التي حققت نقلة نوعية -تحسب لها- في مجال الخدمات الإلكترونية، قد انتقلت ما بين سنتي 2020-2024 بنسبة 100% إلى المعاملات الإلكترونية، حيث تضاعف عدد حاملي البطاقات الذهبية من 6 ملايين إلى 13 مليون بطاقة ذهبية خلال السداسي الأول من سنة 2024. إلى جانب تسجيل 98% من العمليات التي تتم إلكترونيا.بالمقابل، حقق القطاع المصرفي نقلة نوعية تم من خلالها تعزيز التغطية البنكية، أرجعها الخبير المالي إلى الجهود المبذولة من طرف المؤسسات المالية العمومية التي تمثل 85% من مجموع المؤسسات المالية والبنوك المتواجدة ضمن المنظومة البنكية الجزائرية.
وبلغ عدد الوكالات البنكية نهاية 2023، حوالي 1800 وكالة بنكية، تقابلها 6500 نقطة بيع لمؤسسات التأمين التي تدعم بدورها القطاع المصرفي، و4 آلاف وكالة تابعة لبريد الجزائر، أين تجاوز عدد الحسابات المصرفية 12 مليون حساب بقيمة 3600 مليار دج.في هذا الصدد، دعا حيمران إلى تشجيع القطاع البنكي الخاص على اعتماد النظم الإلكترونية والذكاء الاصطناعي، ما يرفع من كفاءة الخدمات المالية وزيادة جودتها، وتحقيق الانتقال من الخدمات المالية الكلاسيكية إلى العصرية، من أجل تحقيق الشمول المالي والتنمية الاقتصادية.
تبييض الأموال.. جرائم أثرت على المصارف
وعن جانب آخر من المعاملات البنكية، لطالما شكل خطرا على المال العام وهاجسا لدى السلطات العمومية، متمثلا في الجرائم المتعلقة بتبييض الأموال، حذر محمد حيمران مما أسماه “الجريمة البيضاء”، كونها تلوث المؤسسات المصرفية والبنكية، باعتبارها صمام أمان المال العام وأموال المواطنين.
وأكد حيمران، أن تبييض الأموال قد ارتبط تاريخيا ومنذ زمن طويل، بالنظام المصرفي، ما يلزم البنوك في مواجهتها لهذه الجريمة، بأن تطوّر استراتيجيتها وفقا لمنظومة إلكترونية مؤمَّنة، قادرة على التصدي للتنامي المستمر للأنشطة غير الشرعية وغير القانونية.
فاليوم، يتابع حيمران، يقع على عاتق البنوك مسؤولية اعتماد بطاقات الائتمان أو ما يسمى “بالنقود البلاستيكية”، وأجهزة الصرف الآلي “ATM”، والبطاقات الذكية التي تتيح للعملاء سحب الأموال دون حاجز المكان، كأساليب حديثة فرضها التحول الرقمي، مؤكدا على ضرورة توخي الحذر عند الاستعمالات غير المشروعة لها. ليصبح التحول الرقمي سلاحا ذا حدين.