لم يوفّق الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا يوم الاثنين الماضي، في كبح حنقه ومداراة غيظه بسبب الأزمات التي تعيشها بلاده في الداخل والانتكاسات التي تقع على رأسها في الخارج، فاختار بكل عنجهية وغطرسة أن يسلك في قوله سلوكا هجوميا فظا تجاه دول بعينها قصد الإساءة والإيذاء والازدراء، متجاهلا بأنّ فعله القبيح هذا، لن يمكّنه مطلقا من إعادة الاعتبار لفرنسا التي أفل نجمها وأصبحت، ليس فقط عاجزة عن لعب أي دور مؤثر في العالم، بل وباتت منبوذة حتى في مناطق نفوذها السابقة بإفريقيا التي اضطرت إلى مغادرتها صاغرة بعد أن ثارت الشعوب السمراء ضدّها وقرّرت التحرر من سيطرتها والتخلص الفعلي من وصايتها وهيمنتها الاستعمارية.
ماكرون “أخطأ الحقبة الزمنية” تماما كما قالها الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي إتنو، فهو مازال على ما يبدو يعتقد بأن زمن الامبراطوريات الاستعمارية مستمر إلى الآن، وبأن سطوة المستعمر القديم مازالت فارضة ذاتها على الشعوب المستعمرة، وبأن هذه الشعوب ليس أمامها غير الرضوخ والخنوع الدائم للسيّد الفرنسي، لهذا فقد أطلق سيّد الإليزي الذي يعتبر أسوء رئيس في تاريخ فرنسا التي فقدت قوتها وهيبتها وتراجع مستواها الاجتماعي والاقتصادي، العنان للسانه الجارح لينطق بتصريحات سامة مثيرة للاستفزاز والاشمئزاز وجّهها للجزائر وإفريقيا ودول أخرى، حيث كسّر كل القواعد الأخلاقية والبروتوكولات التي تحكم العلاقات بين الدول ليقحم نفسه بشكل سافر ولا مسؤول في مسائل داخلية تعني الجزائر السيّدة وحدها.
لكن الردّ جاءه قوّيا، حيث استنكرت الجزائر، سلطة وشعبا، تصريحاته الاستعلائية المرتبطة بالذهنية الاستعمارية المؤذية والبعيدة عن احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ودعته للتخلي عن ممارسة أسلوب الوصاية والابتزاز التي طبعت الخطاب والسلوك الفرنسي الرسمي باستمرار. معبرة، من موقعها كدولة مستقلة حرّة، عن تمسكها بمبدأ السيادة على مواقفها وخيارتها وعلاقاتها، لاسيما تلك المرتبطة بمختلف الاتفاقات الثنائية والبينية والحق في حماية الأمن القومي والاستراتيجي.
الردّ المزلزل صدر أيضا عن دول إفريقية استنكرت هي الأخرى ترهات ماكرون المسيئة، التي تجرّد فيها من كل الأعراف الدبلوماسية والقواعد الأخلاقية ووضع نفسه في موضع البطل المنقذ الذي لولاه، كما زعم، لكان الإرهاب قد ابتلع دول الساحل ولما كان لها وجود اليوم، لهذا فهو ينتظر منها تقديم الامتنان والشكر.
ماكرون، وبدون حياء ولا خجل، قال بأنّ “القادة الأفارقة نسوا أن يقولوا شكرا لفرنسا على تدخّلها عسكريا في منطقة الساحل ضدّ الإرهاب منذ عام “2013. واعتبر أنّه “لولا التدخّل العسكري الفرنسي لما كان لأيّ من هؤلاء القادة الأفارقة أن يحكم اليوم دولة ذات سيادة”، مضيفا بنبرة ملؤها السخرية واللؤم “لا يهمّ، سيأتي هذا الشكر مع الوقت”.
الزمن تغير وباريس لا تدري
الرئيس الفرنسي حاول بنرجسية لا متناهية أن يحدّث الأفارقة من برج عالي معتقدا بأنه مازال في ذات الحقبة التي كانت فرنسا تمنح فيها الدروس والأوامر وتوزّع الاهانات على مستعمراتها السابقة، لكن الردّ الافريقي كان بمثابة الصفعة التي أيقظته من سباته وصدمته بالواقع الذي لم تعد فيه فرنسا تلك الدولة المهيمنة ذات الدور الفاعل والوازن على الساحة الدولية، بل باتت مكانتها تنحصر وتتراجع يوما بعد يوم، حتى أصبحت تطرد وتلفظ من مستعمراتها السابقة، وهو الكابوس الذي يثير رعب ومواجع فرنسا وساستها.
لقد أبدى الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي إتنو استياءه لتصريحات ماكرون، معتبرا أن نظيره الفرنسي “أخطأ في الحقبة الزمنية”. وقال: “أوّد أن أعرب عن استيائي من التصريحات التي أدلى بها مؤخرا الرئيس ماكرون وتصل إلى حد الازدراء تجاه إفريقيا والأفارقة”.
وأضاف ديبي: “أعتقد أنه أخطأ في الحقبة الزمنية”، في إشارة ضمنية إلى ما يعتبرها مراقبون صحوة إفريقية في التعامل مع مستعمرها السابق، خصوصا في ظل جيل جديد من القيادات المناهضة لباريس.
ومساء الإثنين، أعربت نجامينا عن القلق البالغ من تصريحات الرئيس الفرنسي التي تعكس، بحسب بيان أصدره وزير الخارجية التشادي عبد الرحمن كلام الله، “موقف ازدراء تجاه إفريقيا والأفارقة”. وأكّد الوزير التشادي أنّه «ليست لديه أيّ مشكلة مع فرنسا»، لكن بالمقابل «يجب على القادة الفرنسيين أن يتعلموا احترام الشعب الأفريقي».
وشدّد عبد الرحمن كلام الله على الدور الحاسم لأفريقيا وتشاد في تحرير فرنسا خلال الحربين العالميتين وهو دور «لم تعترف به فرنسا أبدا»، فضلا عن «التضحيات التي قدّمها الجنود الأفارقة». وأضاف كلام الله «خلال 60 عاما من الوجود الفرنسي، كانت مساهمة فرنسا في كثير من الأحيان مقتصرة على مصالحها الاستراتيجية الخاصة، من دون أيّ تأثير حقيقي دائم على تنمية الشعب التشادي».
كما أدانت السنغال بدورها، تصريح ماكرون، وأكد رئيس وزرائها عثمان سونكو، في بيان، أنّه لولا مساهمة الجنود الأفارقة في الحرب العالمية الثانية في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي «لربّما كانت فرنسا اليوم لا تزال ألمانية».
وهاجم رئيس الوزراء السنغالي الرئيس الفرنسي بسبب تهمة «الجحود» التي وجّهها سيّد الإليزيه لقادة هذه الدول الأفريقية. وقال سونكو إنّ «فرنسا لا تمتلك لا القدرة ولا الشرعية لضمان أمن أفريقيا وسيادتها. بل على العكس من ذلك، فقد ساهمت في كثير من الأحيان في زعزعة استقرار بعض الدول الأفريقية مثل ليبيا، ممّا أدّى إلى عواقب وخيمة لوحظت على استقرار وأمن منطقة الساحل».
وبالنسبة لسونكو الذي أعلنت بلاده في الأسابيع الأخيرة إنهاء أيّ وجود عسكري فرنسي على أراضيها خلال العام الجاري فإنّ ما أدلى به ماكرون خاطئ بالكامل، إذ «لم يتمّ إجراء أيّ نقاش أو مفاوضات حتى الآن بخصوص الانسحاب الفرنسي، والقرار الذي اتّخذته داكار نابع من إرادتها الوحيدة، كدولة حرة ومستقلة وذات سيادة».
دول الساحل تضع نقطة النهاية
وأعلنت السنغال وتشاد الشهر الماضي إنهاء الوجود العسكري الفرنسي على أراضيهما لتلتحق بأربع مستعمرات فرنسية سابقة، هي النيجر ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، طلبت بين عامي 2022 و2023، من باريس سحب قواتها من أراضيها.
وفي نهاية نوفمبر المنصرم، ألغت نجامينا اتفاقيات التعاون الدفاعي والعسكري التي كانت تربطها بالقوة الاستعمارية السابقة، وأمهلتها حتى 31 جانفي الجاري لحزم حقائبها والرحيل. وجاء في بيان لتشاد بالخصوص:
أنّ “هذا القرار الذي اتُّخذ بعد تحليل معمّق، يمثّل نقطة تحوّل تاريخية. في الواقع، بعد 66 عاما على إعلان قيام جمهورية تشاد، حان الوقت لأن تؤكّد نجامينا سيادتها الكاملة، وأن تعيد تحديد شراكاتها الاستراتيجية بناء على الأولويات الوطنية”.
لكن الخطوة التشادية زلزلت كيان فرنسا وقصمت ظهرها لأنها تجرّدها من آخر قلاعها الحصينة في الساحل الإفريقي. فبعد صدور قرار انسحابها من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، لم تكترث باريس كثيرا للأمر لأنها كانت تعتقد بأن المهم هو حفاظها على قواعدها العسكرية التي أقامتها في تشاد منذ 40 عاما، لكن الصّدمة أوقعتها أرضا بعد قرار نجامينا الانضمام إلى نادي “الرافضين للوجود الفرنسي” وهو بالطبع ما يترجم حجم الوجع الذي جاء بين ثنايا تصريحات ماكرون، لأن انهاء وجودها العسكري سيفقد فرنسا حتما القدرة على حماية مصالحها الاقتصادية والسياسية في المنطقة التي تشهد سباق نفوذ دولي حامي الوسيط.
ولأن المصائب في الغالب لا تأتي فرادى، فقد طلب الرئيس السنغالي باسيرو ديوماي هو الآخر من فرنسا سحب قواتها وإنهاء وجودها العسكري ليكون القرار بمثابة المسمار الأخير في نعش الهيمنة العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل بأكملها.
وداعا “سياسة فرنسا الافريقية”
الاتفاقيات الدفاعية الفرنسية مع البلدان الافريقية تتساقط تباعا كأحجار الدومينو، والوجود الفرنسي في إفريقيا يعيش آخر مراحله وسط موجة من العداء الشعبي المتنامي، ففرنسا لم تعد اليوم تمثّل النموذج الذي يتطلع إليه الأفارقة، في ظل صعود نماذج بديلة أكثر جذبًا، تقدم شراكات اقتصادية وتجارية مغايرة.
الدول الأفريقية، التي لم تعد تتردّد في رفع صوتها بوجه باريس لتقول لها بكل وضوح أنها لم تقدّم شيئا لتنمية إفريقيا بل ظلّت طول العقود الماضية تستنزفها لخدمة مصالحها، حسمت أمرها وقلّبت الطاولة على المستعمر القديم، فمالي اعتمدت دستورًا جديدًا في 2023 يتخلى عن اللغة الفرنسية كلغة رسمية، كما استبدلت رواندا اللغة الفرنسية باللغة الإنجليزية في المدارس والجامعات، في حين انضمت توغو والغابون إلى الكومنولث في عام 2022.
ما يعني أن إفريقيا تريد طلاقا بائنا من مستعمرها القديم الجديد الذي ظلّ جاثما على صدرها واضعا قبضته على ثرواتها.
وقد حان الوقت لباريس وماكرون أن يدركا بأن سياسة فرنسا التقليدية تجاه القارة السمراء وصلت إلى طريق مسدود. ولا يمكن إثارة حماسة الأفارقة بسياسة رد القطع الأثرية المنهوبة من أفريقيا أثناء الحقبة الاستعمارية.
كما حان الوقت لتدرك فرنسا بأن إفريقيا، وعكس ما تجلى من تصريحات ماكرون الساخرة، قد نضجت كثيرا بفعل نمو الوعي العام لأبنائها والرغبة المتزايدة في بناء الذات الأفريقية بعيدًا عن الهيمنة أيًا كان مصدرها.
والمؤكد أن الخسارة الفرنسية الكبيرة في القارة السمراء عسكريا واقتصاديا، ستفاجئنا في قادم الأيام بتصريحات استفزازية مثل تلك التي أصرها ماكرون والتي لم تسئ في واقع الأمر إلا لصاحبها.