شهدت ولاية سطيف معارك عديدة، منها معركة جبل قاسي في أفريل 1958، بنواحي بوقاعة، بقيادة الحاج لمطروش رفقة مجاهدين.
يقع جبل قاسي، جنوب غرب بوقاعة بـ 8 كلم، وهو جبل صخري صعب شديد الانحدار، تتوفر به مواقع طبيعية مثل الكهوف والمغارات المنيعة، فضلا عن الغطاء النباتي الذي توفره الغابات والأحراش والأشجار، وبسبب موقعه المميز ولاعتبارات أخرى كان مكانا مناسبا لتجمعات المجاهدين، ومصدر انطلاقهم لنصب كمائن للعدو، والهجوم على منشآته العديدة المنتشرة عبر الناحية، وقد زاد من أهميته أنه يحتضن في بعض نقاطه مجموعة من القرى تسكنها العديد من الأسر تعتمد في حياتها بالدرجة الأولى على الفلاحة.
وكانت هذه المنطقة، التي شهدت معركة جبل قاسي أفريل 1958 نواحي بوقاعة، تنتمي إلى القسم الثالث الناحية الأولى الولاية الثالثة، وتشكلت وحدات جيش التحرير الوطني، التي خاضت المعركة من فرق كومندو الناحية، يبلغ عدد أفراده 37 جنديا، وقاد المعركة الحاج لمطروش، إلى جانب قادة الأفواج والفرقة الذين هم من نخبة المجاهدين نذكر: عمار مرناش، عبد الله كراغل المدعو بورقيبة، والعربي عباس، كما كان في الجبل ما يزيد عن 75 فردا من التنظيم السياسي والمدني للمجاهدين كانوا ينشطون في هذه المنطقة.
كانت هذه الفرق مسلحة بأسلحة حديثة لاسيما قادة الأفواج، الذين يمتلكون قطع من نوع 24 / 29، و بران، و فام بار، وكمية أخرى من القنابل اليدوية التي كانت بحوزة المجاهدين، منها من كانت غنائم من جيش العدو أو أدخلت من الحدود الشرقية من تونس.
جرت أحداث هذه المعركة بعد وشاية مفادها أن اجتماعا عاما لمسؤولي الناحية والمنطقة سوف يعقد في الأسبوع الأخير لشهر أفريل، وإثرها جهز الجيش الفرنسي قوات ضخمة من فيالق برية، وسرب من الطائرات الحربية بما فيها الطائرات العمودية الخاصة بالإنزال، قدر عدد القوات البرية الفرنسية المشاركة بالمئات في هذه الحملة، تم تجميعها من مراكز بوقاعة، وبني وسين، وبوعنداس، وبني ورثلان، وعين لعروس، وثكنة عين آرنات.
وقد شاركت القاعدتان الجويتان في عين آرنات، بالنسبة للطائرات العمودية، وتلاغمة بالنسبة للطائرات الحربية الضخمة، من مقنبلات وقاذفات، ومطاردات وغيرها، وقد عرفت جهة جبل قاسي، نشاطا ثوريا مكثفا منذ نهاية 1958، منها الزيارات الميدانية التي قام بها العقيد عميروش، بعد عودته من الولاية الثانية، وأيضا الزيارات التي قام بها قائد المنطقة الأولى العربي تواتي، وزيارة الشهيد عبد القادر البريكي، وقيادته لمعركة ضد العدو في جبل عقار.
وتلقى الحاج لمطروش، قائد فرقة الكومندو أمرا بالتنقل إلى جبل قاسي، حيث تجري الاستعدادات لعقد الاجتماع، تحضره إطارات الناحية التي كانت بقيادة الشيخ العيفة بورقبة، ووصل إلى جبل قاسي رفقة فرقة الكومندو، ووجد بعض المسؤولين قد وصلوا، وفي الوقت نفسه تحركت قوات الجيش الفرنسي ليلا من مراكزها مستغلة ظروف الليل، ووصلت إلى ميدان العمليات منذ الصباح الباكر، وانتشرت عبر قمم الجبال ونقاطها المناسبة، وقبل أن تصبح الرؤية ممكنة كان العدو قد أحكم حصاره.
في حين لم يكن المجاهدون على علم بما يجري حولهم ويدبر ضدهم، ولم يستطيعوا اكتشاف العملية قبل وقوعها، وفي صباح يوم 26 أفريل اكتشف المكلفون بالحراسة تواجد قوات العدو في نقاط عدة، لكن الوقت لم يكن كاف لبحث الموضوع بكيفية أنجع، أقلها الخروج من المأزق لأن كل المؤشرات تؤكد بأن الخروج منه بسلام يعد ضربا من الخيال، خاصة بتواجد قواته في قمم الجبال والمرتفعات في جبل عقار المقابل لجبل قاسي، وفي نفس الوقت تسربت قوة أخرى مع مجرى وادي بوسلام، والذي يتوسط الجبلين، وعلى هذه الصورة تسارعت الأحداث نحو الاصطدام المؤكد.
وقد بادر الجنود المكلفين بالحراسة بإعطاء صورة عامة عن مواقع انتشار العدو، وقررت قيادة الجيش بضرورة التصدي والمواجهة رغم قلة الإمكانيات، والإبقاء على عناصر النظام المدني والسياسي داخل الكهوف، والتركيز على المسالك المؤدية إلى وسط الجبل، والتركيز على سلاح قطع من نوع 24 / 29، حيث تم صد تقدم الجيش الفرنسي.
وما زاد من تعقيد الوضع والموقف هو عملية الإنزال الجوي التي شرع فيها العدو، وفي حدود الساعة العاشرة بدأت المعركة بقوة واستخدم العدو ما لديه من إمكانيات مادية وتكتيكية في محاولة يائسة للقضاء على عناصر فرقة الكومندو المحاصرين بالغار.
ولكن رغم ما بذله فقد استعصى عليه الاقتراب من مواقع نيران المجاهدين، عند ذلك عمل الجيش الفرنسي على قصف الموقع بواسطة البازوكا، ولكن المحاولة لم تفلح بسبب كثرة الصخور بالمنطقة، وعلى هذا الشكل تواصل القتال وبشكل عنيف إلى غاية اقتراب الظلام، حيث بدأ الهدوء يخيم لكن تمكن العدو من تجسيد سيطرته على نسبة كبيرة من الجبل، وتمكن من أسر وقتل الكثير من المجاهدين.
وبحلول الظلام تجمعت قوات الجيش الفرنسي في نقاط معينة، وتبين للمجاهدين أن قوات العدو في حالة انهيار معنوي كبير بعد القتال الدامي طوال اليوم، وقامت قوات جيش التحرير بدراسة الوضع على ضوء المستجدات، وتقرر الرأي في النهاية بضرورة تنفيذ هجوم مباغت وقوي على إحدى تجمعات العدو لاختراقها والتسرب عبرها خارج نطاق ميدان العمليات، ونفذت الخطة بعد حلول الظلام.
ونفذت الخطة على الجانب الأيمن للجبل مما سمح لعناصر النظام المدني والسياسي داخل الكهوف بالخروج اتجاه جبل لعنيني الواقع جهة الشرق، كما خرج المجاهدون بعدهم، وانتهت المعركة باستشهاد ثلاثة مجاهدين هم: لمنور، وقرنان الطيب، والحواس بن عاشور محافظ سياسي، وأصيب عدد آخر بجروح متفاوتة منهم قائد الفرقة الحاج لمطروش، وعبد الله تواتي، ورماضنة لحسن المدعو عمر صحراوي، وسي سعيد، وعبيد برشي.
وخسر الجيش الفرنسي خلال هذه المعركة عددا من جنوده بين قتيل وجريح، لكن لظروف المعركة تعذر على المجاهدين معرفة العدد الحقيقي للقتلى والجرحى، كان تأثير المعركة ووقعها على الفرنسيين كبيرا، حيث بعد أسبوع قتل تسعة شبان في جبل عقاب، وقام بحملة أخرى دامت مدة شهر، تعرضت خلالها المنطقة لعملية مسح شامل، وتم فيها تحطيم وتخريب وحرق كل القرى وترحيل السكان إلى المناطق وجمعهم في محتشدات أقيمت بالقرب من مراكزه العسكرية.