ستبقى التّجارب النّووية الفرنسية في الجزائر جريمة وحشية، لا تسقط بالتّقادم، يدقق فيها التاريخ، وتذكرها السياسة كجريمة تتناقلها الأجيال عن مستدمر فرنسي تجاوز حدود الاستعمار التقليدي بكثير من المجازر والتجاوزات والإبادات للبيئة والإنسان..
ملف: آسيا قبلي وعلي مجالدي وحياة كبياش وكمال زقاي وسفيان حشيفة
الإبادة البيئية في تجارب فرنسا في الصّحراء الجزائريّة
لم تنته جرائم فرنسا الاستعمارية بعد طردها من الجزائر بفضل ثورة أول نوفمبر المجيدة، إذ ما زالت آثار التفجيرات النووية في صحراء الجزائر تشكّل منذ ستينات القرن الماضي كارثة بيئية بكل المقاييس، بل إنّها ترقى إلى جريمة إبادة بيئية بفعل الترسبات والغبار النوويين، وكذا المخلّفات التي تمّ دفنها، وتتحفّظ فرنسا على أماكن طمرها وترفض الكشف عنها، وهي المسألة التي شهدت دعوات أممية ودولية للكشف عنها قصد معالجتها.
في 13 فيفري 1960، نفّذت فرنسا أوّل جريمة نووية على التراب الجزائري ضمن سلسلة بلغت 57 تجربة، فجّرت فيها 17 قنبلة نووية، أهلكت بها الزرع والنسل في المناطق المعنية، بل وامتدّت آثارها إلى مساحات واسعة في الساحل وإلى أوروبا. وتشير تقارير منظمات حماية البيئة في أوروبا إلى أن نتائج تلك التجارب يمكن تصنيفها في إطار جرائم إبادة البيئة.
قانون الإبادة البيئية الأوروبي
وكان البرلمان الأوروبي اعتمد بالإجماع قانون الجرائم البيئية المعروف بقانون الإبادة البيئية، في 29 مارس 2023، ويعرّفها على أنّها كل “سلوك يسبّب أو يحتمل أن يسبّب الوفاة أو ضررا جسيما لصحة أي شخص أو ضررا كبيرا لنوعية الهواء، ونوعية التربة أو نوعية المياه، والتنوع البيولوجي، وخدمات ووظائف النظام البيئي أو للحيوانات أو النباتات، يُشكّل جريمة جنائية عندما يكون غير قانوني ويتم ارتكابه عمدا. ويجب على الدول الأعضاء التأكد من أنّ أي سلوك يسبّب ضررا جسيما وواسع النطاق، أو شديدا وطويل الأمد، أو جسيما لا يمكن إصلاحه، يتم التعامل معه على اعتباره جريمة ذات خطورة خاصة، ويُعاقب عليه وفقا للأنظمة القانونية للدول الأعضاء”. وهو ما ينطبق فعلا على حالة الجرائم النووية الفرنسية في الجزائر،غير أن هذا القانون لا يتطرّق إلى ما وقع في الماضي.
ورغم أنّ هذا البرلمان يقر بالجرائم البيئية، ويمكن على أساسه تصنيف التجارب النووية الفرنسية في الجزائر ضمن جريمة الإبادة البيئية، إلا أنه لا يطلع بمهامه، وينحو كعادته إلى التدخل في الشؤون الداخلية للدول الغير، وفي مسائل من اختصاص خالص لمؤسسات تلك الدول، على غرار تدخله في قضية المدعو “بوعلام صنصال”، والمطالبة بإطلاق سراحه رغم أن المسألة بين يدي القضاء الجزائري الذي يلتزم بالمواثيق الدولية.
وأمام الاصرار الفرنسي على السّكوت عن جرائمه النووية، ورفض رفع السرية عنها، وعدم اعتراف القانون الفرنسي بالتجارب النووية كملوث للبيئة، وأمام تمسّك الجزائر بمطالب تحمّل فرنسا مسؤوليتها في رفع النفايات النووية، والكشف عن أماكنها، يرى مختصّون أنّه بإمكان الجزائر اللجوء إلى اتفاقية حظر انتشار السلاح النووي التي تعتبر عضوا فيها، بالتوقيع عليها سنة 2017، ودخولها حيز النفاذ العام 2022، للحصول على مساعدة تقنية لمكافحة التلوث النووي.
مطالب دولية ضد فرنسا
وكان مقرّرون أمميّون من مجلس حقوق الإنسان، طالبو فرنسا في رسالة شهر سبتمبر 2024، الحكومة الفرنسية بتزويدهم بجميع المعلومات والبيانات المتعلقة بتجاربها النووية في الجزائر، بما فيها المواقع المحدّدة للنفايات المشعّة، وتوضيح ما إذا كانت هذه المعلومات قد كُشفت بالكامل وبشفافية للجزائر وأصحاب الحقوق المعنيين، وأعرب الخبراء عن قلقهم الشديد بشأن العواقب الجسيمة على صحة السكان المحليين، والتي تمتد آثارها إلى أجيال عديدة.
كما دعت منظّمات وحملات أوروبية، فرنسا بتحمّل مسؤوليتها عن جرائمها النّووية، على غرار الحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية، ومنظمة “شعاع لحقوق الإنسان”. ويتعلق الأمر برسالة وجّهها المقرر الخاص المعني بحقوق الإنسان والنفايات الخطرة ماركوس أوريلانا، والمقرر الخاص المعني بتعزيز الحقيقة والعدالة والجبر، وضمانات عدم التكرار البروفسور فابيان سالفيولي، والخبيرة المستقلة المعنية بحقوق كبار السن كلوديا ماهلر، إلى الحكومة الفرنسية.
وبالتزامن مع ذلك، مع إقرار الجزائر تضمين تحميل فرنسا مسؤولياتها في إزالة المخلفات الكارثية للتفجيرات النووية بالجنوب إبان الفترة الاستعمارية بشكل “واضح وصريح” ضمن التشريعات البيئية الوطنية لتعزيز حقوق الأجيال الحالية والقادمة.
وفي هذا السياق، أكّدت وزيرة البيئة وجودة الحياة، نجيبة جيلالي، أنّ القانون الجديد “يكتسي أبعادا تتجاوز التحديات البيئية الحالية، ليحمل في طياته رسائل قوية تتعلق بالعدالة التاريخية والبيئية” ضد المستعمر الغاشم، الذي ترك “المخلّفات الكارثية للتفجيرات النووية التي أجراها في صحرائنا”، مع مواصلة العمل “على هذا الملف بكل الوسائل المتاحة بما يضمن انتزاع الحق لشعبنا وحماية بيئتنا من هذه الآثار المدمرة”.
جريمة وحشية لا تسقط بالتّقادم
ما زالت قضية التجارب النووية الفرنسية إبان الاستعمار في الصحراء الجزائرية تُثير جدلاً سياسيًا وقانونيًا، حيث تعكف الجزائر على إعادة هذا الملف إلى الواجهة من أجل تحقيق العدالة التاريخية، وتأتي هذه الجهود في سياق التطورات الأخيرة، حيث ترأّس رئيس المجلس الشعبي الوطني، إبراهيم بوغالي، اجتماعًا تنسيقيًّا لتحضير الملتقى البرلماني حول التفجيرات النووية الفرنسية التي جرت إبان الاستعمار، والذي يعتبر خطوة هامة لتسليط الضوء على أبعاد هذه القضية من الناحية الإنسانية والبيئية والقانونية.
خلّفت التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في مناطق مثل رقان وإن إكر بالصحراء الجزائرية بين عامي 1960 و1966، أضرارًا بيئية وصحية لا تزال آثارها مستمرّة حتى اليوم، وقد عانى سكان هذه المناطق من أمراض خطيرة، منها السرطانات والتشوهات الخلقية، إلى جانب التلوث الإشعاعي الذي أثّر على البيئة لعقود.
وفي ظل هذه الأوضاع، تسعى الجزائر إلى إدراج مطالبها ضمن الأطر التشريعية الوطنية، حيث أكّدت وزيرة البيئة، نجيبة جيلالي، أن تحميل فرنسا مسؤولية إزالة المخلفات الإشعاعية سيتم إدراجه بشكل صريح في القوانين البيئية لتعزيز حقوق الأجيال الحالية والمستقبلية، كما أكّدت الوزيرة على أن هذه المطالب تشمل الاعتراف بالضرر وتعويض الضحايا، بالإضافة إلى إزالة المخلفات الإشعاعية التي لا تزال تشكّل خطرًا على السكان والبيئة.
الأبعاد السّياسية والقانونية
من الناحية القانونية، تعتمد الجزائر على قواعد القانون الدولي، والتي تفرض على الدول المتسبّبة في أضرار بيئية جسيمة تحمّل المسؤولية عن أفعالها، بما في ذلك تعويض الضحايا وإصلاح الأضرار الناجمة، كما أن معاهدة حظر الأسلحة النووية والتي انضمّت إليها الجزائر تعطي زخمًا لهذه المطالب المشروعة، حيث تنص صراحة على ضرورة التزام الدول الأطراف بمساعدة ضحايا التجارب النووية وإعادة تأهيل البيئات المتضررة، أما فيما يتعلق بالقيمة المادية للتعويضات المحتملة، سواء للأفراد المتضررين أو للأضرار البيئية التي لحقت بالأرض والهواء والمياه، فإنّها قد تصل إلى مليارات الدولارات، ذلك لأنّ تلك المساحات الشاسعة أصبحت غير صالحة للحياة، وتستوجب مراقبة مستمرة بسبب التلوث الإشعاعي. وما يترتّب على ذلك من تكاليف تشمل إنشاء أنظمة مراقبة دائمة، وتخصيص موارد بشرية وتقنية للإشراف والتوجيه. وقد تحمّلت الجزائر هذه الأعباء على مدى عقود طويلة، ما يضيف بُعدًا آخر للمسؤولية التي يجب أن تتحمّلها فرنسا.
أمّا سياسيًا، فالجزائر تطرح هذه القضية بشكل مباشر ضمن اللقاءات الثنائية مع فرنسا وفي المحافل الدولية، ما يعكس تصميمها على إيجاد حل شامل لهذه القضية، والملتقى البرلماني المرتقب يُعدّ فرصة لتوحيد الجهود الوطنية والدولية، حيث سيتم تقديم تقارير وشهادات توضح الأضرار التي خلفتها تلك التجارب، إلى جانب المطالبة باعتراف فرنسا بهذه الجرائم وتعويضها للشعب الجزائري.
كما أنّ ما تسعى إليه الجزائر لا يرتبط فقط بإزالة المخلفات الإشعاعية وتعويض المتضرّرين، بل أيضًا بتحقيق عدالة تاريخية تعترف من خلالها فرنسا بما ارتكبته من أخطاء وبشاعة الاستعمار، كما أن هذا الاعتراف ليس مجرد خطوة رمزية، بل يشكّل أساسًا لمعالجة آثار الماضي وبناء علاقات مبنية على الاحترام المتبادل والمسؤولية المشتركة، للمضي قدما بالعلاقات الجزائرية الفرنسية.
وتظل قضية التجارب النووية الفرنسية ملفًّا حسّاسًا يفرض نفسه على العلاقات الجزائرية – الفرنسية. ومع استمرار الجهود الجزائرية من أعلى مستوى وعلى المستويين القانوني والسياسي، تبقى المطالب واضحة متمثلة في إزالة المخلفات الإشعاعية، تعويض الضحايا، والاعتراف الرسمي بهذه الجريمة التي لا يمكن محو آثارها دون تحمّل المسؤولية الكاملة.
بودهان: لا بديل عـن تحريك دعوى قضائية لمطالبة فرنسا بالتعويضات
كان الهدف من التّفجيرات النّووية في الصّحراء الجزائرية التي استباحت الإنسان، الأرض والحيوان، دخول النادي النووي العالمي، وأصبحت محطة من المحطات التي تسجّل تاريخ فرنسا الهمجي ضدّ الشعب الجزائري، وهي جرائم تصنّف على أنها ضدّ الإنسانية لا تسقط بالتقادم كما يؤكّده الخبراء في القانون.
أوضح أستاذ القانون الدستوري الدكتور موسى بودهان في تصريح لـ “الشّعب”، أن الجزائر يمكن أن تستعمل الآيات القانونية على الصعيد الداخلي من خلال مؤسساتها والآليّات القضائية على المستوى الدولي، على غرار محكمة الجنايات الدولية للضغط على فرنسا فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبتها خلال الفترة الإستعمارية، والمطالبة بالقصاص من مجرمي الحرب من قادة الجيش الفرنسي.
وأفاد بودهان في هذا الإطار أن منظمات المحامين والحقوقيّين وغيرها من المنظمات الأخرى ذات الطابع القانوني والقضائي، بإمكانها تحريك دعوات قضائية من خلال ملفّات قانونية مؤسسة، ومسندة بالأدلة القاطعة والبراهين الصادعة ضدّ مجرمي الحرب من الفرنسين الذين مارسوا أبشع أساليب القتل والتعذيب ضد الشعب الجزائري الأعزل، ولم يكتفوا بذلك بل استعملوا الأسلحة المحرّمة دوليا منها الأسلحة الكيمياوية والإشعاعية على غرار التفجيرات النووية التي كانت الصّحراء الجزائرية مسرحا لها في 13 فيفري 1960.
وأشار الخبير في القانون الدستوري إلى الإتفاقيّات التي تنص على حظر الأسلحة الكيمياوية، وتلك المتعلقة بزرع الألغام منها المضادّة للأفراد والمعدات، والتي رفضت فرنسا تسليم الخريطة المتعلقة بالأماكن التي زُرعت فيها، بالإضافة الى الإتفاقية المتعلقة بمنع استخدام أسلحة الدمّار الشامل وغيرها. وهي نفايات قاتلة ما يزال مفعولها مستمر لغاية الآن، لافتا إلى أن الجزائر التي وقّعت على هذه الإتفاقيات، ست قوانين ذات الصّلة على غرار القانون 05-01 المعدل سنة 2023 بمحاربة الإرهاب واستعمال هذا النوع الفتاك من الأسلحة.
ونظرا لما خلّفته التّفجيرات ليس على الإنسان فحسب، بل على البيئة كذلك وبشكل كبير لاتزال آثارها لحد الآن، فإنّ الخبير بودهان، يرى أن وزارة البيئة وجودة الحياة، إنطلاقا من مهامها وصلاحيّتها الموكلة إليها بموجب مراسيم تنفيذية، بإمكانها بمعية الجمعيات أن تتأسس كأطراف مدنية لمطالبة فرنسا بالتعويضات على الجرائم المقترفة في حق البيئة والطبيعة، بمنطقة رغان التي ما تزال آثارها باقية على أرض جرداء تأبى أن تزهر بالإخضرار، حتى الحجر أخذ لونا أحمرا مغايرا تماما للونه الأصلي.
ويذكر أن وزيرة البيئة وجودة الحياة، نجيبة جيلالي كانت قد أعلنت نهاية الأسبوع الفارط أنه سيتم إدراج مطلب الجزائر المتعلق بتحميل فرنسا مسؤولياتها في إزالة المخلّفات الكارثية للتّفجيرات النووية بالجنوب الجزائري إبّان الفترة الإستعمارية بشكل “واضح وصريح” ضمن التشريعات البيئية الوطنية لتعزيز حقوق الأجيال الحالية والقادمة، وذلك عقب مصادقة مجلس الأمة على نص القانون المتعلق بتسيير ومراقبة النفايات وإزالتها.
أبرزت الوزيرة جيلالي أن القانون الجديد “يكتسي أبعادا تتجاوز التحديات البيئية الحالية، ليحمل في طيّاته رسائل قوية تتعلق بالعدالة التاريخية والبيئية”، مشيرة في نفس السياق إلى “المخلّفات الكارثية للتّفجيرات النّووية التي أجراها المستعمر الغاشم في صحرائنا”.
واعتبرت أن هذه الكارثة البيئية التي خلّفتها التّفجيرات النّووية “انتهاكا آخرا في حق بلادنا وشعبنا” وأنه لابد على فرنسا تحمّل مسؤولياتها التاريخية والأخلاقية والقانونية كاملة في إزالة هذه النّفايات الإشعاعية و«الإعتراف بالضرّر الكبير الذي ألحقته ببلادنا وسكان مناطق أدرار ورقان وإين إكر وغيرها”، مع تشديدها على إدراج هذه المطالب في إطار واضح وصريح ضمن التّشريعات البيئية الوطنية، لتعزيز حقوق الأجيال الحالية والقادمة في بيئة صحية ومستدامة” مع مواصلة العمل “على هذا الملف بكل الوسائل المتاحة بما يضمن انتزاع الحق لشعبنا وحماية بيئتنا من هذه الآثار المدمرة”.
من جهته، دعا رئيس مجلس الأمة قوجيل توجيهات خلال جلسة عرض ومناقشة نص القانون المتعلق بتسيير ومراقبة النفايات وإزالتها الأسبوع الماضي، إلى تضمين التقرير “إبراز موقف الجزائر الذي تدعو فيه فرنسا إلى تحمّل مسؤوليتها الكاملة والثابتة عن إزالة نفايات التّفجيرات النّووية التي قام بها المستعمر الفرنسي في صحراء الجزائر إبّان الفترة الإستعمارية”، والى “ربط الحاضر بالماضي في إطار ترسيخ ذاكرة جماعية وتمجيد تضحيات الشعب الجزائري، من أجل جزائر منتصرة بقيادة رئيس الجمهورية”، كما يجري التحضير لتنظيم الملتقى البرلماني بالمجلس الشعبي الوطني، حول التّفجيرات النّووية الفرنسية في الجزائر إبّان الفترة الإستعمارية التي تعد جريمة ضدّ الإنسان والبيئة.
إدراج مطلب الإعتراف في التّشريعات.. انتصار قانوني
ثمّنت البروفيسور والناشطة السياسية نصيرة يحياوي، قرار إدراج مطلب الجزائر المتعلق بدعوة فرنسا إلى تحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية تجاه قضية المخلفات الكارثية والإشعاعات الخطيرة الناجمة عن التّفجيرات النّووية بالجنوب ضمن التشريعات الجديدة، معتبرة ايّاها “خطوة مهمة وأولية نحو مزيد من التشديد مستقبلا ضمن الأطر والمواثيق الدولية لإرغامها على الإعتراف والتعويض..
أكّدت الباحثة نصيرة يحياوي في قراءتها التحليلية الأولية لقرار إدراج مطلب اعتراف فرنسا بمسؤولياتها التاريخية تجاه قضية التّفجيرات النّووية بالجنوب الجزائري، وما خلفته من كوارث بيئية وصحية ضمن مشروع نص القانون المتعلق بتسيير ومراقبة النفايات، الذي صادق عليه أعضاء مجلس الأمة “أنه يعتبر استمرارا لسلسلة المطالب الجزائرية المتكررة منذ سنوات من أجل إلزام الجانب الفرنسي بتحمل مسؤولياته التاريخية والإنسانية وحتى الأخلاقية تجاه هذا الملف، لكنه هذه المرة جاء أكثر وضوحا وصراحة بصبغته القانونية التي تفتح الباب واسعا مستقبلا لممارسة المزيد من الضغوط بما فيها حق اللّجوء إلى الهيئات القانونية الدولية وفق الأعراف والمواثيق المصادق عليها منها اتفاقية جنيف”.
وأضافت الباحثة “أن القرار جاء في وقته إن لم نقل أنه تأخر كثيرا مقارنة مع حجم الجرم المرتكب من قبل فرنسا، التي داست على كل الأعراف والقوانين الدولية في مسألة التّفجيرات النّووية بالجنوب الجزائري ومخلفاتها الكارثية على الجانب الصحي والبيئي، حيث لا تزال إلى اليوم آثارها متواصلة وحولت المنطقة إلى بيئة عديمة الحياة، رغم تأكيد التشريعات والأعراف الدولية على المسؤولية القانونية والأخلاقية للدول المستعمرة تجاه مستعمراتها، فيما تعلق بتبعات قضية تصفية الإستعمار التي تشمل أيضا الجانب البيئي والإيكولوجي، وكل ما من شأنه الحفاظ على صحة وسلامة الإنسان وحقوق الأجيال القادمة للعيش في بيئة نظيفة مستدامة وغير ملوثة”.
كما اعتبرت البروفيسور يحياوي “أن القرار يحمل أيضا دلالات ورسائل قوية للجانب الفرنسي خصوصا في الوقت الراهن وما تشهده العلاقات الثنائية من تشنجات لكنه يعتبر من أدنى الحقوق الواجب الإعتراف بها والدفاع عنها داخليا وخارجيا في إطار القانون والتشريع الدولي الصريح في هذا الشأن، والعمل على اعلائها لتوعية الأجيال القادمة بحجم الجرم الإنساني المرتكب في حق شعبنا وبلادنا ومحاربة ثقافة النسيان والتّنكر التاريخي من أجل إرغام الجانب الفرنسي على إزالة هذه المخلفات النّووية الخطيرة وتحمل مسؤولية التعويض المادي كضريبة لحجم الضّرر المادي والنفسي لسكان منطقتيّ رقان وبشار وتداعياتها البيئية الخطيرة”.
الباحث بوحنية قوي: ستعاد قراءة التاريخ والمذنبون سيُساءلون
أفاد الخبير والباحث في الشؤون الإستراتيجية، البروفيسور بوحنية قوي، أن ما قامت به فرنسا من تفجيرات نووية في الجزائر يعادل من 4 إلى 5 مرات قوة تفجير قنبلة هيروشيما اليابانية، حيث ذهب ضحية تجربة ما سُمِّي آنذاك بالعربون الأزرق بالجنوب الكبير إبان الحقبة الاستعمارية، آلاف القتلى والمصابين والعاهات المستديمة وسرطانات الجلد والأجنّة المشوّهة، وغيرها من المضاعفات الصحية الخطيرة جدا.
أوضح البروفيسور بوحنية، في تصريح خصّ به “الشعب”، أنّ فرنسا تعاملت في الجزائر كقوة عظمى كولونيالية يحلو لها تجاوز كل الخطوط الحمراء، وهذا ما فعلته بكثير من أبناء الشعب الجزائري سواءً القاطنين في منطقة رقان بأدرار، أو أولئك الذين استجلبتهم من باقي ربوع الوطن، وأرادت أن تضعهم تحت الاختبار النووي لتقصّي ما سيجري على وضعهم الصحي والنفسي، وفق ما اقتضته العقلية الاستعمارية الاستعلائية.
وأبرز الخبير ذاته، أنّ فرنسا تصرّفت وفق هذه الرؤية كأنّها ذلك القوي الذي لا يمكن محاسبته لا في الوقت الحاضر ولا في المستقبل، وهي متناسية أن التاريخ سيُعاد قراءته، وسيخضع المذنبون الفرنسيون للمساءلة مهما طال الزمن، من خلال إعادة فتح ملف الذاكرة بين البلدين.
باريس تتلكّأ في الوفاء بالتزاماتها؛ لأنّ مثل تلك التجارب النووية تتطلب تعويضات مادية ومعنوية، وإقرار بالجريمة وتجريم الاستعمار، والاعتذار عن الجرم مكتمل الأركان تجاه الشعب الجزائري، وهو ما يرفضه اليمين المتطرف الذي يصنع القرار السياسي حالياً في قصر الإليزيه، بحسب قوله.
ومع ذلك، أكّد البروفيسور بوحنية قوي، أنّ الأمل ما زال معقودا وقائما على النخبة الفرنسية التي ربّما تُمسك صناعة القرار في المستقبل، وتنظر للتاريخ نظرة حيادية، وتُنصف ضحايا التفجيرات النووية، وتفتح ملف الذاكرة على مصراعيه حتى تُراجع ماضيها الاستعماري الأسود، وقد تتعامل كما تتصرف الشعوب المتحضّرة، ومثلما تعاملت كثير من الدول والمماليك الاستعمارية الأخرى تجاه مستعمراتها السابقة عبر الاعتراف والتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية.
وأشارت وزيرة البيئة وجودة الحياة، نجيبة جيلالي، مؤخّرا بمجلس الأمة، أنه سيتم إدراج مطلب الجزائر المتعلق بتحميل فرنسا مسؤولياتها في إزالة المخلفات الكارثية للتفجيرات النووية بالجنوب إبان الحقبة الاستعمارية، في إطار واضح وصريح ضمن التشريعات البيئية الوطنية، بغية تعزيز حقوق الأجيال الحالية والقادمة في بيئة صحية ومستدامة، مع مواصلة العمل على هذا الملف بكل الوسائل المتاحة بما يضمن انتزاع الحق للشعب الجزائري، وحماية البيئة من هذه الآثار المدمّرة.
كرونولوجيا التجارب النّووية الفرنسية في الجزائر
قبل قرابة 65 سنة خلت، قامت فرنسا بتفجير أول قنبلة ذرية لها في الصّحراء الجزائرية، التي تعتبر الأولى من بين سلسلة من التجارب النّووية ذات الآثار الكارثية على السكان المحليّين وعلى البيئة.
وقد أجرت فرنسا في المجموع 17 تجربة نووية جوية وتحت الأرض خلال الفترة الممتدة بين فيفري 1960 وفيفري 1967 في منطقة رقان وفي تجاويف جبال الهقار.
وفي 13 فيفري 1960 على الساعة السابعة وأربع دقائق تمّ تفجير أول قنبلة نووية فرنسية التي أطلق عليها اسم “اليربوع الأزرق” على مستوى الموقع النووي لرقان والتي بلغت قوتها 70 كيلوطن أي ثلاث أو أربع مرات أكثر قوة من تلك التي أطلقتها الولايات المتحدة الأمريكية على هيروشيما وكان للقنبلة آثار إشعاعية أطول من المتوقع.
وأشار تقرير للمفوّضية الفرنسية للطاقة الذّرية في سنة 1960 إلى وجود منطقة ملوثة طولها 150 كلم تقريبا.
وأظهر التقرير، الآثار الحقيقية لهذا التفجير الذي اعتبر من أسرار الدولة ورفعت عنه السرية في أبريل 2013، مدى شساعة المناطق المتضرّرة وذلك إلى غاية إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء وأواسط إفريقيا وحتى غرب إفريقيا. كما بلغت السّحابة الإشعاعية السواحل المتوسطية لإسبانيا وصقلية (ايطاليا)، وتختلف نسب النشاط الإشعاعي حسب تنقل جزيئات الغبار.
وبعد “اليربوع الأزرق” تمّ القيام بثلاث تجارب نووية في الغلاف الجوي على مستوى منطقة رقان ما بين أبريل 1960 وأبريل 1961.
– “اليربوع الأبيض” في 1 أبريل 1960.
– “اليربوع الأحمر” في 27 ديسمبر 1960.
– “اليربوع الأخضر” في 25 أبريل 1961.
وقد أرغم حجم آثار النشاطات الإشعاعية فرنسا على التخلي عن التجارب الجوّية لحساب التّجارب تحت الأرض، وقد اختارت فرنسا من أجل تجاربها الجديدة موقع في الهقار بالقرب من عين ايكر على بعد حوالي 150 كلم شمال تمنراست.
ومن نوفمبر 1961 إلى فيفري 1966 تمّ القيام بثلاث عشر تجربة في مغارات حفرت أفقيا في الجبل.
وفي تاريخ 7 نوفمبر 1961 أجرت فرنسا أول تجربة نووية تحت الأرض (أغات).
كما أجرت فرنسا في 1 ماي 1962 تجربتها النّووية الثانية إلا أن سحابة إشعاعية تسربت من فجوة الإطلاق خلال هذه التجربة. وهي حادثة بيريل باسم رمز التجربة.
وتم إجراء 11 تجربة أخرى في فجوة إلى غاية فيفري 1966 منها ثلاثة لم يتم احتواؤها كليا أو حبسها.
وأشار تقرير لمجلس الشيوخ الفرنسي بعد سنوات من التجارب المختلفة “”تم تقديم موقعي رقان وعين ايكر إلى الجزائر دون تقديم أي كيفية لمراقبة ومتابعة النشاطات الإشعاعية”.
كما أكّد تقرير للحملة الدولية لإزالة الأسلحة النّووية أنه “انطلاقا من بداية التجارب النّووية، مارست فرنسا سياسة طمر جميع النفايات تحت الرمال وبالتالي فإن كل ما ثبت تلوثه بالإشعاعات من طائرات ودبّابات أو أي عتاد آخر، قد تم طمره”.
وأضافت الوثيقة أن “مواد إشعاعية (رمال مزججة، صخور وحمم ملوثة) قد تركت في العراء معرّضة بالتالي السكان والبيئة إلى أخطار حقيقية”.
وتشير الحملة الدولية لإزالة الأسلحة النّووية إلى أن فرنسا لن تكشف أبدا عن مكان طمر تلك النفايات ولا كميتها.
وفي 5 يناير 2010 وبعد عشر سنوات من العمل الذي قامت به جمعيات ضحايا التجارب النّووية الفرنسية في الجزائر وفي بولينيزيا، صادق البرلمان الفرنسي على قانون حول الإعتراف بتعويض ضحايا التجارب أو الحوادث النّووية والذي سمّي قانون مورين.
وتطبيقا لقانون مورين تمّ استحداث إجراءات لتعويض الأشخاص المصابين بأمراض سرطانية تعتبر إشعاعية صادرة عن دراسات علمية مرجعية (أمم متحدة) والناتجة عن التعرض لإشعاعات ايونية.
كما تمّ إنشاء لجنة لتعويض ضحايا التجارب النّووية وتتكفّل هذه الهيئة الإدارية المستقلة بتقديم أو عدم تقديم تعويضات للأشخاص المصابين بأمراض ناتجة عن التعرض لإشعاعات التجارب النّووية الفرنسية التي تمهت في الصّحراء الجزائرية وفي بولينيزيا الفرنسية بين سنوات 1960 و1998.
وقد سجلت لجنة تعويض ضحايا التجارب النووية في المجموع 1598 ملفّا خلال الفترة الممتدة بين 5 يناير 2010 و31 ديسمبر 2019، حسب دراسة نشرتها الحملة الدولية لإزالة الأسلحة النووية في يوليو 2020.
وأوضح ذات المصدر أن 49 ملفّا فقط صدر عن سكان مقيمين في الجزائر خلال إجراء التجارب.
وخلصت اللّجنة الدولية لإزالة الأسلحة النووية إلى التأكيد، أنه إذا كان 75 اقتراحا لتقديم التعويضات صادرا عن ضحايا مدنيين وعسكريين أقاموا في الجزائر خلال فترة التجارب، فإن ضحيّة واحدة “تقيم في الجزائر” قد تحصّلت على تعويض في حوالي 10 سنوات.