ثورتنا عظيمة ومن قادوها عظماء، مثلما قال المجاهد أحمد جابر، رحمة الله عليه، زوج الأديبة والوزيرة السابقة زهور ونيسي. “إن ثورتنا كانت فريدة وحركة شعبية عارمة وشاملة قادها شباب يتمتعون بمؤهلات الزعامة والقيادة والحكمة، وبعد النظر فكانوا يتنقلون من نصر الى نصر ومن ربح الى ربح، فكانت هذه المكاسب والإنتصارات والمؤهلات تلهم الجماهير الفقيرة للسير ورائهم والثقة بهم”.
الإضراب كشف حقيقة الإستعمار المجرم
اضراب الثمانية أيام التاريخي في الـ28 جانفي 1957 إلى الـ4 فيفري 1957، من المحطات التاريخية الخالدة في ذاكراتنا أبطالها فئة التجار، والحرفيين والعمال، الذين لبوا نداء الإضراب لدعم عدالة قضيتنا متحدين الدبابات والمظليين الفرنسيين، والقمع، وإيصال صوت الجزائر المكافحة إلى مبنى الأمم المتحدة بنيويورك.
في هذا الصدد، تقول زهرة ظريف بيطاط :” لقد سمح الإضراب بتعرية ونزع القناع عالميا عن الطبيعة الحقيقية للحضور الفرنسي في الجزائر، وإظهار الإرتباط العميق لشعبنا بالحرية والكرامة والاستقلال”.
وضع مؤتمر الصومام القواعد التنظيمية للعمل الميداني السياسي والعسكري والإداري والإجتماعي، وحدد محتلف وسائل الكفاح لإيصال القضية الجزائرية لأروقة الأمم المتحدة، ، من بينها اضراب الثمانية ايام التاريخي.
شُرع في التحضير للإضراب من قبل لجنة التنسيق والتنفيذ، بعد اجتماع اعضائها في 22 جانفي 1957، بالقصبة في العاصمة، وبعد اقتراحات اتفق كل من عبان رمضان، العربي بن مهيدي، وبن يوسف بن خذة، على تحديد تاريخ 28 جانفي 1957 لبدء الإضراب لمدة ثمانية أيام إلى غاية الرابع فيفري من السنة نفسها، وهو تاريخ مصادف لعقد دورة استثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة.
وكلفت الولايات الست الثورية بالقيام بعمليات التحضير للإضراب، وتوزيع المناشير على مستوى كل ولاية، وشكلت لجان عديدة داخل المصالح والمؤسسات مهمتها التوعية ودعوة السكان للتزود بالمؤونة طوال أيام الإضراب، كما وزع نداء الإضراب العام من قبل لجنة التنسيق والتنفيذ يوم 25 جانفي 1957، على الساعة صفر، حسب ما تؤكده مصادر تاريخية.
وقد جاء نداء الأضراب: ” أيها الشعب المجاهد، أيها المواطنون من تجار وعمال وموظفين ومحترفين، أنكم ستستعدون لأسبوع الإضراب العظيم، أسبوع الكفاح السلمي للأمة، والتي خانها شرف الكفاح المسلح.. فأمضوا مصممين واصبروا للمحنة والبطش وأنواع العذاب.. وجبهة التحرير بجيشها العتيد من ورائكم تشد أزركم وتأخذ بأيديكم إلى النصر إلى الحرية إلى الإستقلال”.
وبحسب شهادة المرحوم المجاهد ياسف سعدي، الذي كلف بمهمة تنظيم الإضراب بالعاصمة لانه يعرف أحياءها وأزقتهاجيدا، فإن “الإضراب كان يتطلب اختيار الفئات المناسبة لتنفيذه والتركيز على المدن الكبرى، خاصة العاصمة، لأنها مركز تواجد الصحافة العالمية، التي ستنقل صور الإضراب إلى العالم”.
ويذكر ياسف سعدي، انه قبل شن الإضراب بأيام، إلتقى محمد العربي بن مهيدي، ووضع تحت تصرفه 10 ملايين فرنك فرنسي، لتسديد فاتورة المواد الغذائية للعائلات المعوزة في حي القصبة والتي لا تستطيع توفير الحاجيات الضرورية طول مدة الإضراب.
وتؤكد المجاهدة زهرة ظريف بيطاط، في كتابها بعنوان ” مذكرات مجاهدة من جيش التحرير الوطني، منطقة الجزائر المستقلة”، ” ان المناضل ياسف سعدي، استعان بالفنانات نظرا لشعبيتهن وشهرتهن ويحظين بالاحترام من طرف سكان العاصمة، واستطاع بمساعدة الفنان حبيب رضا، تنظيم اجتماع بحضور كل من زهرة ظريف، وجميلة بوحيرد، وحوالي 15 فنانة منهن كلثوم، فريدة، فضيلة الدزيرية، واختها قوسم، ووهيبة عويشات، حيث كلفهم بشرح أهداف الإضراب للنساء اللائي سيذهبن لزيارتهن في الأحياء الشعبية لمدينة الجزائر وضواحيها، وإعداد تقارير خاصة بإحصائيات العائلات المعوزة والتي ليس لها إمكانيات تخزين المواد الغذائية لمدة أسبوع كامل.
وعلى الصعيد العسكري، أعطيت الأوامر لجيش التحرير الوطني بتكثيف عملياته عبر كامل التراب الوطني، ومع إقتراب الموعد وزعت كل ولاية مناشير تحدد تاريخ بداية الإضراب ونهايته وتوجيه نداءات عبر الاذاعة السرية “صوت الجزائر المكافحة”، في أول بث لها في ديسمبر 1956، وتعدت الدعوة لتصل الى تونس والمغرب وفرنسا، لإنجاح هذا الإضراب.
النقابات العمالية من أدوات النضال الثوري
وكان للإتحاد العام للعمال الجزائريين، دور كبير في اضراب الثمانية أيام التاريخي، حيث كانت النقابات العمالية خلال ثورة التحرير المباركة أداة من أدوات النضال الثوري، التي وظفتها جبهة التحرير الوطني في معركتها ضد الإستعمار الفرنسي، حيث ساهمت في كسب التأييد الدولي للقضية الجزائرية.
وتشير مصادر تاريخية، إلى دور منظمة الإتحاد العام للعمال الجزائريين، في تعبئة العمال الجزائريين، اضافة الى اتخاذ احتياطات التموين تحسبا للإضراب ووجه الإتحاد العام للعمال الجزائريين تعليمات صارمة للعمال بالبقاء في منازلهم، وتجنب التجمهر في الخارج، والالتزام بالهدوء والسلم، وعدم مقاومة الشرطة الاستعمارية اذا اقتادتهم إلى العمل بالقوة.
كان من بين أعضاء الأمانة العامة للإتحاد العام العمال الجزائريين علي يحيي عبد النور، علال زيتوني، أحمد بورويبة، مبارك الجيلالي، وغيرهم، وكلفت كل ولاية بتوزيع مناشير تحدد توقيت بداية ونهاية الاضراب.
وشكلت لجان عمل داخل القطاعات الرئيسية مثل النقل، البريد، المواصلات، المصالح البلدية، والأسواق، وعملت هذه اللجان على اعلام السكان وتوفير المؤن والمواد الغذائية خلال فترة الاضراب، وتقديم مساعدات مالية للعائلات، وتوجيه نداءات سرية عبر اذاعة “صوت الجزائر “.
بتاريخ 26 جانفي 1957، أصدر الإتحاد العام للعمال الجزائريين،نداء للعمال نشر في العدد 13 من صحيفة “العامل الجزائري”، الناطقة بإسم الإتحاد، بعنوان “المعركة الكبرى”، حيث تطرق النداء إلى المساهمة الفعالة للطبقة العمالية منذ الفاتح نوفمبر 1954، من أجل التحرر الوطني، ودعا كل شرائح المجتمع من عمال، مزارعين، عمال النقل، عمال الأرصفة، الموانئ، المناجم، الحديد، الموظفين، إلى البرهنة على الشجاعة الثورية، ضد الإرهاب الفرنسي، وكسب معركة الأمم المتحدة.
وفي المقابل، كانت اذاعة “صوت الجزائر الحرة المكافحة”، تبث أخبار الإضراب كل مساء، ما أثار قلق السلطات الفرنسية ودفعها لمنح الجنرال ماسو، صلاحيات واسعة للحفاظ على الأمن وكسر الإضراب، وقد هدد ماسو، قائلا:” ستفتح المتاجر، وسيتم كسر الأبواب والستائر ولن نضمن سلامة الممتلكات“.
استجابة واسعة
تصف العديد من المصادر التاريخية، أنه صبيحة يوم الاضراب خيم صمت رهيب على المدن، وتشير الدكتورة لوافي سومية، من جامعة الجيلالي اليابس بسيدي بلعباس، في مقال نشر بمجلة المعارف للبحوث والدراسات التاريخية”، بعنوان” اضراب الثمانية ايام يرفع صوت الجزائر الى مبنى الأمم المتحدة”، الى أن الاضراب تعدى الى جماهير الشعب، التي قاطعت متاجر المعمرين القليلة، التي فتحت ورفض الجزائريون الشراء من المحلات المفتوحة التابعة للمعمرين، الذين اصابتهم حالة الذعر. وتضيف أنه في اليوم الثاني من الإضراب، قام حوالي عشرة الاف جندي من الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال ماسو، بتكسير ابواب المحلات التجارية واتلاف ما فيها ثم ارغموا التجار على العمل واعتقلوا بعشوائية الرجال والنساء.
وتؤكد مصادر تاريخية، أنه رغم الحملات المضللة للإدارة الإستعمارية، الا ان الإستجابة كانت واسعة.
وفي هذا الصدد يشير، تقرير لمجلة “فرانس أوبسارفاتور”، ان نسبة نجاح الإضراب بلغت 99%، النقل العمومي والمصالح الإدارية بـ100 بالمائة، ومستودعات ومراكز الصيانة بـ98 بالمائة، محطة الجزائر 100 بالمائة، المستشفيات المدنية 95 بالمائة، البريد والمواصلات، مصلحة توزيع الكهرباء والغاز، والمصالح الإدارية لبلدية الجزائر ب100 بالمائة.
وشمل الإضراب الجزائر العاصمة، قسنطينة، وهران، سطيف، برج بوعريريج، عين مليلة، بجاية، والمسيلة، وهذه المناطق كانت قريبة من معامل المعادن والمحاجر.
وتشير مصادر تاريخية، إلى ان الاضراب في العاصمة كان أكثر نأثيرا، حيث أغلق التجار محلاتهم، وتوقف عمال الميناء عن العمل، ولم يلتحق موظفو القطارات وعربات الترامواي والفنادق بمواقع عملهم، ما جعل المدينة تبدو شبه خالية.
وأشار تقرير اخر أعدته مصلحة الربط للشمال الإفريقي، معترفا ان الإضراب لقي استجابة كبيرة من طرف العمال الجزائريين، والتجار والحرفيين، ومس تقريبا كل المناطق الحضرية بمختلف المدن الجزائرية.
إجراءات صارمة ضد المضربين
استخدمت إدارة الاحتلال كل الوسائل والأساليب القمعية لكسر الاضراب، واتخذت إجراءات صارمة ضد المضربين وهي إجبار المعلمين والموظفين على الإلتحاق بأماكن عملهم، وقادت البعض منهم إلى مراكز الشرطة من أجل استجوابهم وفرضت على اخرين العمل في تنظيف الشوارع.
وتعرض مناضلو الإتحاد العام للعمال الجزائريين، للإعتقال ووضعوا في المعتقلات، كما توعدت حكومة لاكوست، بقطع رأس المنظمات التجارية والإقتصادية الجزائرية وإقامة نظام معلومات رسمي يهدف إلى معرفتهم والقبض عليهم، وقامت السلطات الفرنسية بحملة دعائية واسعة النطاق لتشويه الاضراب، واصفة إياه بأنه حركة تمردية.
تعذيب تجاوز كل القوانين الدولية
وسلطت أشد أنواع التعذيب على الجزائريين من عمال ونقابيين من طرف المظليين، الذين تجاوزوا كل القوانين والأعراف الدولية حول عملية التعامل مع المعتقلين واستنطاقهم للوصول إلى قادة الثورة والاتحاد العام للعمال الجزائريين، لهذا أصبح التعذيب في 1957 ممارسة يومية وعملية جد عادية عند الجلادين الفرنسيين، وكانت مراكز التعذيب موجودة في كل مكان.
واغتيل النقابي، عيسات إيدير، الذي نكلوا بجسده إلى درجة الحرق حتى الموت، وحسب التقارير، فإن حوالي 100 الف جزائري قتل خلال أحداث الإضراب وبعده، اما المصادر الجزائرية تشير إلى 400 الف شخص، وجاء في تقرير البعثة الدولية بعد قيامها بزيارة وضعية المعتقلات والمحتشدات وتفتيشها لاحظت تعذيب مفرط بواسطة التيار الكهربائي وشنق المساجين لإنتزاع منهم الإعترافات، وكتبت تقريرا أشارت فيه إلى أن هناك جنودا فرنسيين قد اعترفوا بممارسة التعذيب بأشكاله في حق المضربين، والأجانب الذين دافعوا عن النقابيين هم أنفسهم قد سجنوا في المعتقلات.
مشاركة معتبرة لجاليتنا بفرنسا
وبفرنسا احتضن المهاجرون الجزائريون الإضراب منذ اليوم الأول حيث سجلت نسبة مشاركة معتبرة وتشير إحصائيات اتحادية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، إلى أن نسبة المشاركة بلغت 40 بالمائة في اليوم الأول ووصلت إلى 80 بالمائة في اليوم الثالث، وتواصل الاضراب رغم حملة الإعتقالات والتفتيش ومضاعفة الرقابة في الأحياء المسماة بأحياء “شمال الإفريقيين”.
وبهدف عرقلة حركة الإضراب قامت الحركة الوطنية الجزائرية بفرنسا بتوجيه نداء لكل الجزائريين بمقاطعة الإضراب وفي الوقت نفسه شنوا اضراب لمدة 24 ساعة، في يوم 28 جانفي1957.
وبحسب شهادة المجاهد رابح زراري، المدعو كومندو عز الدين، مسؤول فرقة الكومندوس علي خوجة سنة 1957، ونائب رئيس هيئة الأركان لجيش التحرير الوطني في الفترة 1960-1961، ومسؤول المنطقة المستقلة في 1962، فإن اضراب الثمانية ايام لم يكن من أجل مطالب إجتماعية وأجور، وإنما اضراب في فترة الحرب للتأكيد على تطلعات الجزائريين للحرية، وتحقيق أهداف جبهة التحرير الوطني في القضاء على الإستعمار ببلادنا واسترجاع السيادة الوطنية.
وأبرز المجاهد زراري، أن الإضراب من هذا النوع في أوقات الحرب، لا يمكن ان يكون الا اضراب تمرد، ولإشعاله لابد من توفير الوسائل المادية للشعب بأكمله لإنجاحه. واشار كومندو عز الدين، الى ان الجزائريين دفعوا ثمنا غاليا، جراء الإضراب حيث اعتقل عشرات الألاف وفتحت مراكز ومحتشدات عبر كل التراب الوطني، لكنهم أثبتوا وقوفهم وراء جبهة التحرير الوطني. وتأسف المجاهد، عن أنه من بين انعكاسات الإضراب هو ضرب التنظيم الفدائي في العاصمة، حيث أعتقل الكثير من المسؤولين والمناضلين.
وصف الصحفي الفرنسي جاك لوبريفوس، في كتابه “معركة الجزائر” الصادر سنة 1958، إضراب الثمانية أيام التاريخي بتمرد شعبي من أجل الحرية. وقال أن الإضراب كان امتحان قوة وأهمية أولى، حيث أنه خلال اجتماع بتاريخ 26 جانفي 1957 بالعاصمة، كان قرار المسؤولينحازما وحاسماواعتبروا الاضراب البطاقة الأخيرة في معركتهم ضد المستعمر. وأشار إلى ان الفدائيين، الذي تراوح عددهم ما بين 500 الى 3000 فدائي، كانوا مستعدين للدخول في العمل المسلح ضد الجنرال ماسو، الذي انتهج سياسة قمعية ضد الجزائريين.
وتحدث لوبريفوس، عن رد فعل الدول العربية، حيث أنه في ذلك اليوم بثت كل الاذاعات العربية المناهضة لفرنسا، نداء جبهة وجيش التحرير الوطنيين، معلقة على أن هذا الاضراب يظهر الانخراط الشامل لكل الشعب الجزائري وراء جبهة التحرير الوطني الممثل الوحيد.
ردود الفعل العربية على الاضراب
رغم القمع نجح الإضراب في تحويل السجون والمعتقلات إلى مدارس للتثقيف السياسي للمعتقلين، وانضم آلاف الشباب الفارين من العنف إلى صفوف المقاومة في المناطق الريفية والحدودية، مما عزز تنظيم جيش التحرير الوطني.
دوليا، أسهم الإضراب في تبني الأمم المتحدة قرارا يدعو إلى حل سلمي ديمقراطي وعادل، ففي 15 فيفري 1957، وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على لائحة عبرت فيها عن أملها في إيجاد حل سلمي وعادل للقضية الجزائرية وفقا لميثاق الأمم المتحدة بالتعاون بين الأطراف. كما لقي الإضراب دعما مغاربيا خاصة من النقابات.
فقد أعلنت التنظيمات في تونس اضرابا عاما يوم 30 جانفي 1957، دعما للاتحاد العام للعمال الجزائريين،وتشهيرا للقضية الجزائرية عبر الإعلام التونسي.
وفي القاهرة أذاعت محطة “صوت العرب”،بلاغا وجهته جبهة التحرير الوطني الى الشعب الجزائري المسلم تمجد فيه موقفه الرائع في تنفيذ قرارات الإضراب التاريخي.