تحيي الجزائر في 18 فيفري من كلّ عام اليوم الوطني للشهيد، وهي محطة تاريخية تتجاوز البعد الرمزي إلى تأكيد ارتباط الأجيال بتاريخها النضالي، واستحضار تضحيات أبطال الثورة التحريرية والمقاومات الشعبية التي سبقتها.
هذا اليوم الوطني يمثل ذاكرة حية للتذكير بالمآسي التي خلّفها الاستعمار الفرنسي، والتأكيد على ضرورة إبقاء الوعي الوطني حاضرًا لدى الأجيال القادمة، حتى لا تُمحى آثار النضال التحرّري للأمة الجزائرية، والذي امتدّ منذ 1830 إلى 1962، مرورًا بمجازر وحملات إبادة ممنهجة استهدفت الشعب الجزائري بأسره.
لم يكن الاستعمار الفرنسي للجزائر مجرّد سيطرة عسكرية، بل كان مشروعًا استيطانيًا قائمًا على الإبادة المنظمة للشعب الجزائري برمّته. وقد شهد التاريخ الحديث مجازر بشعة على غرار مجازر 8 ماي 1945 في قالمة، سطيف، وخراطة، والتي أسفرت عن استشهاد أكثر من 45 ألف جزائري خرجوا في مظاهرات سلمية للمطالبة بحقوقهم، فجوبهوا بآلة قمع وحشية من قبل القوات الفرنسية المستعمرة.
لكنّ جرائم فرنسا في الجزائر لم تقتصر على فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل تمتدّ إلى أبعد من ذلك، حيث شهد القرن التاسع عشر مذابح مروّعة، كان أبشعها مجزرة الأغواط سنة 1852، والتي تُعدّ واحدة من أكبر جرائم الحرب التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر. ففي ديسمبر 1852، أقدمت القوات الفرنسية، المكوّنة من 6 آلاف جندي مدجّجين بالسلاح والمدفعية الثقيلة، على حصار المدينة، وواجهوا مقاومة شرسة من سكانها.
وبعد سقوط المدينة، ارتكبت القوات الفرنسية إبادة جماعية بحقّ السكان، حيث تشير المصادر التاريخية إلى مقتل ثلثي سكان المدينة، أيّ ما يزيد عن 2500 شهيد، في عملية إبادة لم تقتصر على القتل المباشر، بل استُخدمت فيها الأسلحة الكيميائية لأول مرة في التاريخ، حيث لجأ الجيش الفرنسي إلى الغازات السامة للقضاء على السكان المختبئين في المغارات والمنازل.
الاعتراف وحده لا يكفي
ورغم مرور أكثر من ستة عقود على استقلال الجزائر، إلا أنّ الجرح الذي خلّفه الاستعمار الفرنسي لا يزال مفتوحًا، ولا يمكن طمسه بمجرّد تصريحات دبلوماسية أو اعترافات شكلية. فقد أثبت التاريخ أنّ الاعتراف دون إجراءات فعلية لا يُحدث أثرًا حقيقيًا، خاصّة وأنّ فرنسا تواصل إنكارها للعديد من الجرائم البشعة، ومنها التجارب النووية في الصحراء الجزائرية، والتي خلّفت آلاف الضحايا، وألحقت كوارث بيئية وصحية كارثية لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم.
ويرى المؤرخون أنّ الجرائم ضدّ الإنسانية لا تسقط بالتقادم، وأنّ فرنسا تتحمّل مسؤولية قانونية وأخلاقية وسياسية عن ممارساتها الإجرامية في الجزائر. من هذا المنطلق، فإنّ الاعتراف الرسمي يجب أن يتبعه تعويض عادل للشعب الجزائري، سواء تعلّق الأمر بتعويض عائلات الضحايا، أو تحمّل فرنسا تكاليف إزالة آثار الإشعاعات النووية في الصحراء الجزائرية، التي تقدّر بملايير الدولارات، خاصّة وأنّ الجزائر ظلّت منذ 1962 تتحمّل وحدها الأعباء المالية والبيئية لهذه الجرائم.
علاوة على ذلك، يرى العديد من الخبراء السياسيين أنّ العلاقات الجزائرية الفرنسية لا يمكن أن تُبنى على المصالح الاقتصادية فقط بدون المرور بالتاريخ وملف الذاكرة، بل يجب أن تكون قائمة على الاحترام المتبادل والاعتراف بالجرائم أولا، كخطوة أساسية لتحقيق مصالحة حقيقية. لاسيما وأنّ وقائع التاريخ تثبت أنّ فرنسا لم تكن مجرد قوة استعمارية كلاسيكية، بل كانت قوة استيطانية استهدفت إبادة الهوية والأمة الجزائرية، من خلال طمس الثقافة، وتشريد السكان، وارتكاب مجازر إبادة جماعية.
بالتالي، فإنّ أيّ محاولة لتجاهل هذا الماضي الدامي من شأنها أن تعرقل أيّ تقدّم في العلاقات بين البلدين، لأنّ الشعب الجزائري لا ينسى، ولن يرضى بأقلّ من الحقيقة والعدالة. ولذلك، يبقى اليوم الوطني للشهيد مناسبة لتجديد العهد مع الذاكرة الوطنية، واستمرار النضال من أجل انتزاع الاعتراف الكامل بالحقائق التاريخية، وفرض تعويضات مستحقّة، لأنّ الذاكرة الوطنية لا تُشترى بالمجاملات الدبلوماسية.
اجتياح قتل إبادة تشريد، كارثة لا توصف أبشع استعمار عنصري ضد الانسانية