تمرّ اليوم 54 سنة على بسط الجزائر سيادتها على ثرواتها من المحروقات، خاضت خلالها معركة التحدي لاستكمال سيادتها السياسية، باستقلال اقتصادي، وأصبحت فاعلا طاقويا يتطلّع إلى تعزيز موقعه في الأسواق الدولية، والجزائر اليوم مموّن مهم للغاز الطبيعي في العالم، حتى آفاق سنة 2050..
ملف: علي مجالدي وهيام لعيون وفايزة لعريبي وفضيلة بودريش وسهام بوعموشة
من السّيادة الطاقوية إلى الإستقلال الإقتصادي.. مسار إنتصار
تحيي الجزائر اليوم، 24 فيفري، الذكرى المزدوجة لتأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريّين وتأميم المحروقات، وهي محطة تاريخية تكتسي أبعادًا تتجاوز الإطار الاحتفالي إلى قراءة معمّقة لمسار السيادة الاقتصادية الذي انتهجته الجزائر منذ 1971.
تأتي هذه الذكرى 54، في سياق داخلي ودولي خاص، حيث تعمل الجزائر على تعزيز استقلالها الاقتصادي والطاقوي في مواجهة التحديات العالمية، وهو امتداد طبيعي لحركة التحرّر الوطني التي لم تنتهِ عند الاستقلال السياسي، بل تواصلت مع فرض السيادة الوطنية على الموارد والثروات الطبيعية. وتتزامن الذكرى مع تنامي دور الجزائر في تكريس الأمن الطاقوي العالمي، من خلال ضمان تدفّق الإمدادات نحو شركائها وفق القواعد التجارية الدولية بعيدا عن التجاذبات أو الاستقطابات الحاصلة، ومن خلال استراتيجية واعدة لإنتاج الطاقة النظيفة (الهيدروجين الأخضر).
وأقرّ رئيس الجمهورية، منذ 2020، برنامجا خاصا، يقوم على تشجيع إنتاج الطاقة الأحفورية والطاقات المتجدّدة واستهداف التصدير في هذا المجال، وفقا لالتزامه 20..هذا التوجّه بدأ يؤتي ثماره، حيث استعادت شركة “سونطراك” توازناتها المالية، وتمكّنت من إبرام صفقات ضخمة مع شركات دولية في مجال الاستشكاف والاستغلال.
وتستعد الجزائر لاستقطاب استثمارات دولية كبرى في مجال المحروقات، عبر إطلاق المناقصة الدولية “ألجيريا بيد راوند 2024”، والتي تم تمديدها إلى غاية جوان المقبل، وذلك لفائدة 20 شركة عالمية مؤهّلة مسبقا. وتسير الجزائر بخطى ثابتة لتعزيز أمنها الطاقوي والحفاظ على حصصها في الأسواق الدولية، مع رفع تلك المتعلقة بالغاز، وذلك وفق رؤية شاملة تتعلّق بالتأكيد على استقلالها الاقتصادي، حيث تتبنى نهجًا واضحًا في مراجعة الشراكات الاقتصادية غير العادلة، كما هو الحال مع الاتحاد الأوروبي الذي اعترف بعدم عدالة اتفاق الشراكة الموقّع مع الجزائر منذ 2005.
وبعد سنوات من عدم التوازن في التبادلات التجارية، وجدت الجزائر نفسها في موقع تفاوضي قوي، حيث دفعت بشركائها الأوروبيّين إلى الجلوس مجدّدًا على طاولة الحوار لإعادة النظر في الاتفاق بما يضمن مصالحها الوطنية، خاصة فيما يتعلّق بتسويق المنتجات الفلاحية والصناعية في أحد أكبر الأسواق الاستهلاكية في العالم. ويعكس هذا التحول بوضوح أنّ الجزائر لم تعد كما كانت سابقًا، بل أصبحت لاعبًا اقتصاديًا إقليميا يفرض شروطه وفق رؤيته التنموية، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التبعية التي كرّستها بعض الاتفاقيات السابقة.
مسار لا رجعة فيه
وفي سياق متّصل، يوضّح أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، الدكتور بوحاتم مصطفى، في تصريح لـ “الشّعب”، أنّ ذكرى تأميم المحروقات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلاقات الجزائرية الفرنسية، حيث شكّل قرار الرئيس الراحل هواري بومدين في 24 فيفري 1971، والذي قضى بتأميم المحروقات ومصالح الشركات الفرنسية مثل “ألف إيراب”، “ألف أكيتان”، و«توتال”، لحظة فاصلة في تاريخ استعادة الجزائر سيادتها الاقتصادية. ولم يكن هذا القرار مجرّد خطوة منفردة، بل تحول إلى نموذج ألهم دولًا أخرى لاسترجاع سيادتها على مواردها الطبيعية.
وتواصل الجزائر اليوم المسار ذاته، مدركة أنّ استقلالها الحقيقي لا يكتمل إلاّ بالتحكم في مقدراتها الاقتصادية ورفض أي شكل من أشكال الهيمنة، خاصة تلك التي تتخذ طابعًا اقتصاديًا للضغط السياسي. وفي هذا الإطار، لا يمكن إغفال الأبعاد الاقتصادية للخلاف الجزائري الفرنسي الحالي، حيث فقدت فرنسا مكانتها كشريك اقتصادي أوّل للجزائر، وهو ما دفعها إلى تبني سياسات غير متوازنة في المنطقة، من بينها دعمها لما تصفه بهتانا بـ “الحكم الذاتي” في الصّحراء الغربية، في محاولة للتأثير على الموقف الجزائري، غير أنّ الجزائر التي تدرك أهمية تنويع شراكتها الاقتصادية، لم ترضخ لهذه المناورات، بل توجّهت نحو تحالفات جديدة أكثر انسجامًا مع مصالحها الوطنية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، استثمارها في منجم “غارا جبيلات”، أحد أكبر مناجم خام الحديد في العالم، بالشراكة مع الصينيّين وهو مشروع يمتد إلى تطوير شبكة سكك حديدية بطول يفوق 920 كلم، وواضح أنّ القرار يحمل دلالة واضحة على أنّ الجزائر تبحث عن شراكات قائمة على المصالح المتبادلة، وليس على منطق التبعية الذي عفا عليه الزمن.
ويضيف بوحاتم أنّ السياسة الجزائرية لا تتوقف عند تعزيز استقلالها الاقتصادي على المستوى الوطني فقط، بل تمتد إلى القارة الإفريقية، حيث تلعب الجزائر دورًا محوريًا في تعزيز مفهوم “إفريقيا أوّلًا”، وهو توجّه يقوم على ضمان استفادة الأفارقة من ثرواتهم الطبيعية في إطار تنموي شامل، بعيدًا عن الاستغلال التقليدي من قبل القوى الخارجية.
ويؤكّد الدكتور بوحاتم أنّ الجزائر، من خلال تحركاتها داخل الاتحاد الإفريقي، تعمل على ترسيخ رؤية جديدة للشراكة الاقتصادية، تقوم على مبدأ “رابح – رابح”، حيث تسعى إلى تطوير استثمارات مستدامة، مع رفض أي تدخلات أجنبية غير مبرّرة، خاصة العسكرية منها، والتي أثبتت التجربة أنها لا تؤدي إلّا إلى تعميق الأزمات وإعاقة التنمية. كما أنّ استعادة السيادة الاقتصادية لا تقتصر فقط على حماية الموارد الوطنية، بل تشمل أيضًا تعزيز مكانة الجزائر في محيطها الإقليمي والدولي كدولة قادرة على فرض شروطها في المعادلات الاقتصادية الكبرى. فكما نجحت الجزائر في فرض مراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، فإنها اليوم تسعى إلى بناء تكتلات اقتصادية إفريقية قادرة على كسر هيمنة القوى الكبرى على مقدرات القارة.
الجزائر لاعب رئيسي في أسواق الطاقة
تؤكّد التقارير الطاقوية الدولية أنّ الجزائر حافظت على مكانتها كمموّن مهم للغاز الطبيعي في العالم، خاصّة في السوق الأوروبية وعلى المدى الطويل، إلى آفاق سنة 2050؛ إذ تعتبر أحد «الفاعلين التاريخيين» منذ أن بسطت سيادتها الطاقوية، من خلال تأميم المحروقات سنة 1971.
تبرز الجزائر، اليوم، كأكبر الفاعلين والمؤثرين في سوق الغاز الطبيعي على المستويين الإقليمي والعالمي، بفضل السياسة الطاقوية المنتهجة، خاصّة خلال السنوات الأخيرة، ممّا جعل من إمدادات البلاد من الغاز الطبيعي تنتعش وتحتلّ مكانة متميّزة، حيث احتلت المرتبة السابعة عالميا من حيث كميات الغاز الطبيعي المصدّرة، بإجمالي 52 مليار متر مكعب، وصدرت ما مجموعه 18 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال و34 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عبر خطوط الأنابيب في عام 2023، وفقا لما أورده الاتحاد الدولي للغاز العام الماضي.
وقد باتت الجزائر تلعب دورا كبيرا في سوق الغاز، باعتبارها أحد أهم الموردين الموثوقين على مستوى العالم ورقما مهما كأحد الموردين لدى الإتحاد الأوروبي، حيث لم تتأثر إمداداتها نحو السوق الأوروبية، بل شهدت منحى تصاعديا، خلال السنوات القليلة الماضية.
قد عرفت أداء متميّزا في صادراتها من الغاز الطبيعي المسال، ما كرّس مكانتها كمموّن موثوق، وجعل منها أكبر مصدّر لهذه المادة في إفريقيا، متخطية نيجيريا، حيث استطاعت أن تحتلّ المراتب الأولى، خلال سنة 2023 مسجلة نسبة نموّ في هذه الصادرات هي الأعلى عربيا، وهو ما أوردته منظمة الأقطار العربية المصدّرة للبترول أوابك.
ومن بين أهم العوامل التي جعلتها تتفوّق على نيجريا قاريا، تعويض الأنبوب الذي كان ينقل الغاز الطبيعي إلى اسبانيا ـ حوالي 6 مليار متر مكعب، بتصدير الغاز المسال نحو الدول الأوروبية.
ولا تكتفي الجزائر بتصدير الغاز الطبيعي إلى إسبانيا أو إيطاليا أو فرنسا فحسب، بل تصدّره لدول أخرى، على غرار تركيا التي استفادت من واردات للغاز المسال الجزائري وأصبحت من الزبائن التقليديين للجزائر في استيراد هذه المادة.
حيث استوردت نحو 4.3 مليون طن، بما يزيد عن الالتزامات التعاقدية بين الجانبين التي تبلغ 2، 3 مليون طن في السنة، وهو ما يؤكّد مكانة الجزائر كمورد معتمد للسوق التركية.
وتضمّ قائمة كبار المستوردين من الجزائر، فرنسا التي جاءت في المرتبة الثانية بإجمالي 2، 3 مليون طن، وإيطاليا في المرتبة الثالثة بإجمالي 1.8 مليون طن، وإسبانيا في المرتبة الرابعة بإجمالي 1.4 مليون طن، منظمة الأقطار العربية المصدّرة للبترول. «وفق أوابك»
وبلغة الأرقام، فقد بلغ إجمالي صادرات الجزائر من الغاز الطبيعي خلال عام 2023، أكثر من 13 مليون طن، وهو أعلى معدل لهذه الصادرات منذ عام 2010، مقابل 10.2 مليون طن خلال سنة 2022، أي ما يمثل «نسبة نموّ سنوي بـ26.1 بالمائة، وهي نسبة النمو «الأعلى والوحيدة على مستوى الدول العربية خلال عام 2023».
مموّن رئيسي لجنوب أوروبا
وتعدّ الجزائر، اليوم، المموّن الرئيسي لجنوب أوروبا بالغاز الطبيعي، حيث أنّها تخصّص حوالي 70% من صادراتها إلى هذه السوق عبر قنوات الغاز و30% المتبقية في شكل غاز طبيعي مميّع.، علما أنّها قد صدّرت في سنة 2022 ما مجموعه 52 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عبر أنابيب الغاز وفي شكل غاز طبيعي مميّع، حيث أنّ غالبية الصادرات الجزائرية من الغاز الطبيعي المميّع كانت وجهتها أوروبا. حسب إصدار الثامن من تقرير «توقعات الغاز العالمية 2050 لمنتدى البلدان المصدّرة للغاز.
ويتواصل الأداء المتميّز للجزائر، حيث احتلت مكانة ثاني مصدّر للغاز عبر الأنابيب نحو أوروبا، مسجلة نسبة النموّ هي الأعلى والوحيدة على مستوى الدول العربية خلال عام 2023، واستحوذت سنة 2023 على حصة 19 بالمائة من الغاز الطبيعي المصدّر عن طريق الأنابيب نحو الاتحاد الأوروبي، لتحتلّ المرتبة الثانية بعد النرويج التي جاءت في المرتبة الأولى وهذا بفعل عوامل عدّة أهّلتها لاحتلال هذا المركز.
ولذات الوجهة، فقد صدّرت من حيث الكمية، في المجموع 10 ملايين طن من الغاز الطبيعي المميّع، مع حوالي 9.2 مليون طن إلى أوروبا، لتكون بذلك رابع أكبر مموّن للقارة الأوروبية بالغاز الطبيعي المسال.
وهو ما يبرز أهمية الجزائر في سوق الغاز الأوروبي، حيث حرصت العديد من الدول الأوروبية مثل تركيا وإيطاليا على تجديد تعاقداتها وإبرام تعاقدات جديدة، ما يسمح للجزائر من زيادة صادراتها من الغاز الطبيعي، خلال السنوات المقبلة.
مموّن هام للسوق الأوروبية آفاق 2050
ويتوقّع أن تحافظ الجزائر على مكانتها كمموّن هام للغاز الطبيعي للسوق الأوروبية، سواء من خلال التصدير عبر الأنابيب أو من خلال الغاز الطبيعي المميّع، إلى غاية سنة 2050، حيث أنّ غالبية الصادرات الجزائرية من الغاز الطبيعي المميّع كانت وجهتها أوروبا.
وحسب أرقام منتدى البلدان المصدّرة للغاز، فإنّ الإنتاج الجزائري من الغاز الطبيعي سيبقى في مستوى 100 مليار متر مكعب في آفاق 2030، في إطار تكثيف الجهود المبذولة للرفع من الإنتاج، في وقت تعرف فيه بلادنا اكتشافات جديدة بالقرب من أكبر حقل غازي في البلاد والمتمثل في حاسي الرمل، والتي ستسمح بإضافة كمية تقدر بـ3.5 مليار متر مكعب، وهذا بفضل تطوير الحقول المستغلة وتسريع استغلال الاكتشافات الجديدة التي حقّقتها سوناطراك.
ومن أبرز العوامل التي جعلت بلادنا تحتلّ هذه المراتب المتقدّمة في السوق العالمية والأوروبية للغاز الطبيعي، اكتشافات آبار الغاز الطبيعي التي حقّقتها خلال السنتين الماضيتين، ما ساهم في زيادة الإنتاج من الغاز الطبيعي، إضافة إلى موقعها الإستراتيجي الهام القريب من أوروبا، علما أنّ نموّ صادرات الغاز الطبيعي المسال يعكس نجاح الجزائر في زيادة إنتاج الغاز والتصدير وتسويقه في الأسواق العالمية خاصّة الأوروبية منها.
كما تسعى الجزائر إلى الرفع من إنتاجها السنوي من الغاز الطبيعي ببلوغ إنتاج حوالي 200 مليار متر مكعب سنويا، خلال الخمس سنوات المقبلة، علما أنّ متوسط الإنتاج السنوي من الغاز الطبيعي قد بلغ خلال السنوات الأخيرة ما قيمته 137 مليار متر مكعب.
الاستثمارات الخارجية.. تحدّ جديد ينسجم مع قرار التأميم
تقود سونطراك باعتبارها أهمّ شركة طاقوية إقليمية سلسلة من المسارات التنموية الرائدة في الجزائر، وتبنّت خلال السنوات الأخيرة نهجا قائما على تقوية الأداء الطاقوي، ودعما أكبر للاقتصاد الوطني من خلال تمويل المشاريع الضخمة والهياكل القاعدية شريان المنظومة الاقتصادية، وفوق ذلك تقوم بدور عملاق في تغطية الأسواق الخارجية بالطاقة خاصّة الغاز، وتنفتح على استثمارات تاريخية خارجيا، تتصدرها الطاقة النظيفة.
شكّلت محطة تأميم المحروقات بتاريخ 24 فيفري، صفحة ناصعة وانطلاقة حاسمة في تاريخ الجزائر الطاقوي والاقتصادي، وبعد خبرة تزيد عن ستة عقود كاملة، اكتسبت سونطراك مهارة وكفاءة عالية وسمعة إيجابية بارزة في سوق الإنتاج والتنقيب والتموين، أهّلتها للتواجد في التنقيب والإنتاج بعدّة بلدان، ومن أسرار هذا النموّ والتطوّر اللافت، اهتمامها بالتحوّل التكنولوجي لمواكبة التطوّر السريع والتعويل على الابتكار والتكوين للمورد البشري. إلى جانب استقطاب رواد الأعمال المبتكرين وإبرام الشراكات لتطوير نسيج أدائها، وبالموازاة مع ذلك قادت سونطراك بنجاح كبير أحيانا بمفردها وأحيانا أخرى عن طريق الشراكات الأجنبية، استكشافات مهمّة عزّزت من ثروتها الطاقوية ورفعت من ضخّها للنفط والغاز، ونجح هذا المجمع الإفريقي العملاق، في تحقيق 14 اكتشافا من النفط والغاز خلال عام 2024، في مناطق عديدة من بينها بشار، وعين صالح، وجانت، وإليزي.
وسيتعزّز مستقبل الشركة بتوسيع الحقول الغازية في حاسي الرمل، على سبيل المثال والجدير بالإشارة، فإنّه ينتظر من هذه الاكتشافات الهامة، تجديد احتياطات الطاقة في الجزائر وتوسيع قائمة الزبائن من المستهلكين. وكلّ ذلك شكّل مفتاحا قويّا لتحكمها في أحدث التقنيات وخوّل لها البحث عن صفقات خارجية، ونالت العديد من الاستثمارات الخارجية.
الوفاء للانتماء القاري
برز طموح سونطراك ليجتاز نطاق الاستثمار في الثروات المحلية الضخمة المتوفرة بالجزائر، لتنقل خبرة طويلة ومهارة عالية إلى العديد من دول الجوار والبلدان الصديقة، على غرار ليبيا ومالي والنيجر والتشاد وموريتانيا والبيرو لتنال حصتها كشركة عالمية من أسواق خارجية، وتنافس في الاستثمار والتنقيب تماما على غرار كبرى الشركات.
ويمثل قرار انفتاحها خطوة تاريخية لافتة وسّعت من محفظتها الاستثمارية، لتحقيق المزيد من القيمة المضافة وطرح ثروة طاقوية أكبر للأسواق العالمية، وينظر إلى هذه الاستثمارات الخارجية، وانطلاقها بثقة بمثابة التحدّي الجديد المنسجم مع قرار التأميم والمكمل لأهدافه المسطّرة، لتكون الجزائر من خلال سونطراك منتجة ومستثمرة ومنقبة عن مختلف أنواع الطاقة وعبر العديد من البلدان. بداية الاستثمار الخارجي لأكبر مجمع طاقوي إفريقي وعالمي جزائري، بدأ بقوّة دون شكّ من البوابة الإفريقية، وفاء لانتمائها القاري، وحرصا على تقديم كلّ ما تحتاجه الدول الصديقة والجارة من خبرة ورؤية، تتقاسم معها النجاح والانطلاقة القوية في إنتاج الطاقة لتخفيف تعطّش الأسواق وكذا تعطّش إفريقيا لاستغلال مواردها بالشكل الصحيح.
مكانة جذّابة بالخارطة الطاقوية
تمضي سنة أخرى عن محطة مفصلية حاسمة في تاريخ الجزائر والمتمثلة في ذكرى جديدة عن اتخاذ قرار استراتيجي، تبنّته الجزائر المستقلّة، شكّل ثورة حقيقية في قطاع الطاقة، وعبر كلّ هذا المسار الطويل، اكتسبت زبائن أوفياء وأصدقاء من المنتجين والمستثمرين وأسواق خارجية تستثمر فيها بخبرتها.
ورغم انطلاقها في تحقيق هذا الهدف منذ سنوات، إلا أنّ عام 2024 شكّل العلامة الفارقة، من خلال بداية ارتسام ملامح تحوّلها إلى محور رئيسي في منطقة جنوب المتوسط وإفريقيا للتموين بالطاقات المتجدّدة.
وتوصف وجهة الجزائر الطاقوية بالجذّابة والناجعة بفضل ما تتمتع به من موارد وموقع، وكان من الطبيعي أن يقع خيار العديد من الشركات العالمية الكبرى في العالم، على الجزائر من أجل الاستثمار بل وإطلاق استثمارات ضخمة بالشراكة مع مجمع سونطراك.
ولعلّ بداية بناء المحور الطاقوي النظيف بين أوروبا والجزائر، انطلق منذ نحو خمسة أشهر عبر طرح دراسة جدوى، انصهر فيها اهتمام دول أوروبية وشركات عملاقة لتزويد القارة الأوروبية بكميات معتبرة من الطاقة المتجدّدة والهدروجين الأخضر، عكسها التوقيع على مذكرة تفاهم تعدّ الأولى من نوعها في العالم بين مجموعتي سوناطراك وسونلغاز وشركات «في أن جي» الألمانية و»سنام» و»سي كوريدور» الإيطالية و»فيربوند غرين هيدروجين» النمساوية، لإنتاج الهيدروجين الأخضر.
وبداية هذا المشروع الاستراتيجي، ستكون مع إعداد مشترك لدراسات ضرورية، من شأنها أن تسمح بتقييم جدوى دقيقة، ومع تحديد مردودية مشروع متكامل، يهدف إلى إنتاج الجزائر للهيدروجين الأخضر وتموين السوق الأوروبية عبر محور «ساوث 2 كوريدور». وكما تحتلّ هذه الخطوة المهمّة تحوّلا استراتجيا لمجمع سونطراك نحو التنويع ليضمّ إلى جانب التفوّق والريادة الإفريقية وفي منطقة البحر المتوسط في الطاقة الأحفورية، إلى البروز كأهم دولة متوسطية قادرة على تموين قارتين أو أكثر بالطاقة المتجدّدة ويتعلّق الأمر بكلّ من أوروبا وإفريقيا ولما لا آسيا مستقبلا. وانخراط الجزائر في هذا المشروع مرشّح أن يشجّع دولا إفريقية على البحث للاستفادة من تجربة الجزائر في هذا المجال وبناء استثمارات مهمّة، القارة الإفريقية في أمسّ الحاجة إليها. وسيكون هذا المشروع حلقة متينة ومرجعية في إفريقيا.
التأسيس لصناعة متطوّرة للغاز
وبنظرة شاملة يمكن اختزال قوّة الجزائر وموقعها الهام والمؤثر في سوق الغاز العالمية، بفضل احترافية شركة سونطراك. أداء مهم مكّنها من التأسيس لصناعة متطوّرة للغاز، وحوّلتها هذه الصناعة إلى خزّان للكفاءات، وتعمّقت وفق هذه الحلقة الأساسية في تشييد البنى التحتية، وذهبت بعيدا في هذا المجال، وأما في الوقت الراهن مازالت في كلّ مرة تطوّر من صناعة الغاز، سواء بالاعتماد على المهارات المحلية أو بإقامة شراكات مع شركات تملك الخبرة وتحول لها أحدث التقنيات التكنولوجية، وهذا ما جعل خبرتها تكتمل وتصبح قابلة للترجمة والتحويل.
وخلال ستة عقود كاملة، احتلّت الجزائر من خلال سونطراك، مكانة مهمة وراسخة في الإنتاج والمرونة في التموين، وبالموازاة مع ذلك تحكّمت في تسويق الغاز المسال، وحرصت على رصد 7 بالمائة من إجمالي استثماراتها لفائدة تطوير وتحسين مردودية الحقول الغازية.
ويمثل تقدّم الأشغال في أنبوب الغاز «الجزائر- النيجر- نجيريا»، رافعة طاقوية جديدة تدعم قوّة سونطراك ومكانة الجزائر كأهم وأكبر مستثمر ومنتج ومورد، يساهم في تثمين موارد الطاقة في القارة السمراء.
وخلاصة القول أنّ ولوج سونطراك للاستثمار في خارج الجزائر بعد محطات قويّة، جاء ليعكس نضجها وقوّتها وريادتها العالمية كأفضل 12 مجمّعا طاقويا عالميا.
رئيـس الجمهورية أولى أهمية بالغة لتطوير المحروقات
تمرّ اليوم 54 سنة على بسط الجزائر سيادتها على ثرواتها من المحروقات، خاضت خلالها معركة التحدي من أجل استكمال سيادتها السياسية، باستقلال اقتصادي وأضحت فاعلا طاقويا يتطلّع إلى تعزيز موقعه في الأسواق الدولية. وتمكّنت الجزائر بفضل جهود وطنية مخلصة، من مواكبة التطورات التكنولوجية والمتغيّرات الاقتصادية على المستوى العالمي، حيث باتت تتجهّز لبعث استثمارات كبرى في مجال الطاقات المتجدّدة.
تواصل الجزائر، وبإرادة قوية لرئيس الجمهورية، السيد عبد المحيد تبون، ما بدأته قبل أزيد من نصف قرن في استغلال الموارد الطاقوية، وفق نظرة وطنية محض، ترمي من خلالها إلى تعزيز موقع البلاد في الخارطة الطاقوية العالمية. وبعد استعادة شركة “سونطراك” لتوازنها قبل خمس سنوات، ونجاحها في تحقيق استكشافات جديدة، تواصل المسار المشرّف الذي يلي قرار تأميم المحروقات في السبعينات ولم تحدّ عنه، ما يجعل من الجزائر اليوم رائدا طاقويا.
محطّات فاصلة..
ومن باب ضرورة التوقف عند بعض التفاصيل المتعلّقة بالمحروقات الجزائرية خلال فترة ما قبل الاستقلال، وسلسلة المفاوضات التي توّجت بتأميم المحروقات الجزائرية في 24 فيفري سنة 1971، يجب الإشارة إلى أنّ استغلال المحروقات – قبل الاستقلال – كان خاضعا للقانون الفرنسي، ومسيّرا من طرف الشركتين الفرنسيّتين “ريبال” و«سي أف بي أس”، وشركة “كريبس” المتخصّصة في استكشاف وإنتاج البترول، إضافة إلى شريكتي “توتال” و«أيكتان”، اللّتين أدمجتا فيما بعد ضمن مجموعة “توتال”. بالمقابل، كانت عملية تكرير البترول، من نصيب الشركتين الأمريكيّتين “موبيل” و«أيسو”، في حين تكفّلت شركة “غيتي” الأمريكية بتوزيع المحروقات الجزائرية.بعد الاستقلال، وبحنكة دبلوماسية ومواقف ثابتة للدولة الجزائرية، تم خوض مفاوضات صارمة مع الشركات الفرنسية المسيطرة على البترول الجزائري، من أجل التمكّن من التحصيل الجبائي للمحروقات لصالح الجزائر، خاصة وأنّ اتفاقيات “إيفيان” لم تتضمن أي بند متعلق بالمحروقات. مفاوضات كانت ثمرتها تأميم المحروقات ذات 24 من فيفري 1971، لتدخل بعدها الجزائر منعرج التحدي بسواعد وكفاءات جزائرية، كان للمعهد الجزائري للمحروقات دور محوري في تكوين مهندسين وفنيّين، منذ تاريخ إنشائه سنة 1965، حيث حقّق حصيلة مشرّفة من خلال تكوينه لخيرة الإطارات الجزائرية في مجال المحروقات، تمكّنت من تحصيل مناصب قيادية في كبرى الشركات الطاقوية العالمية، وفي عدة تخصّصات كالجيوفيزياء، الجيولوجيا، الحفر، التكرير، وغيرها من المجالات التي شكّلت حجر الزاوية لبناء صرح طاقوي بحجم “سوناطراك” التي أنشئت سنة 1963.
أما بالنسبة لمحتوى قرار التأميم، فقد تضمّن محورين أساسيّين، الأول متعلّق بالتأميم، فيما تعلّق المحور الثاني بالإطار القانوني للشراكة بين “سوناطراك” والشركات الأجنبية، بالخصوص الفرنسية منها، المتواجدة بالجزائر في تلك الفترة، ممّا يكفل للجزائر حقوقها فيما يتعلّق بسيطرتها على ثرواتها الباطنية من خلال القاعدة 49/51، حيث طالما شكّلت هذه القاعدة رمزا للسيادة الوطنية وصمام أمان المؤسسات الاقتصادية الجزائرية.
مصداقية عالمية..
وقد شكّلت سنة 1972، منعرجا مهمّا في تاريخ الجزائر الطاقوي، حيث استحوذت الشركة الجزائرية للمحروقات “سوناطراك” على ثلاثة أرباع النشاط البترولي، مقابل استحواذ كلي بنسبة، 100% من الإنتاج الغازي، وبنسبة 100% من النقل عبر الأنابيب، لتشمل مهامها كلا من نشاطات، الاستكشاف، الإنتاج، النقل عبر الأنابيب، التكرير والتسويق، حيث تشير الإحصائيات المسجّلة انطلاقا من سنة 1972، أين صدّرت “سوناطراك” لأول مرة منذ إنشائها 24 مليون طنّ من البترول، مقابل 10 ملايين طنّ تم تصديرها قبل قرار التأميم السيادي. ليعرف بعدها البترول الجزائري رواجا عالميا على مستوى السوق الطاقوية العالمية، وهو ما ترجمه الكم المعتبر لعقود التوريد التي تمكنت “سوناطراك” من إبرامها، ممّا شجعها على بعث المزيد من الاستثمارات البترولية في مجال الطاقة، حيث استثمرت في تلك الفترة 90 مليون دولار، من أجل تطوير حقول البترول بالجنوب الجزائري، في حين لم تتجاوز استثمارات الشركات الفرنسية قبل قرار التأميم 60 مليون دولار.ولم تلبث هذه الاستثمارات أن أتت ثمراتها منذ السبعينيات، أين سجّلت “سوناطراك” أداء عاليا فيما يخص إستراتيجيتها الخارجية. وهو ما أكّدته تقارير منظمة الدول المصدّرة للنفط “أوبك”، التي صنّفت الجزائر في المرتبة الأولى من حيث صادراتها من الغاز، متقدمة في ذلك على نيجيريا صاحبة المرتبة سابقا، حيث تعتبر وفرة المخزون وقوة الإنتاج والقدرة على توفير نقل شحنات الغاز من المورد إلى الزبون، ضمن المعايير المعتمدة لتحديد ترتيب الدول المصدّرة للغاز، وهي المعايير نفسها التي مكّنت الجزائر من الريادة من حيث خزان الغاز بامتلاكها 2400 مليار متر مكعب كخزان ثابت من الغاز، متمركزة خاصة بحاسي رمل كثالث أكبر حقل عالمي، بقدرة إنتاج تتجاوز 50% من الكمية الكلية المنتجة في الجزائر، وقدّر إنتاجه من الغاز سنة 2022، 127 مليار متر مكعب ليقفز إلى 136 مليار متر مكعب سنة 2023، ثم 140 مليار متر مكعب سنة 2024، صدر منها ما يزيد عن 56 مليار متر مكعب.
الهيدروجين.. ورقـة رابحة
مركز مستحق بالنظر إلى المجهودات التي تبذلها الجزائر من خلال إستراتيجية اقتصادية أرادها رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، متنوعة ومواكبة للسياق الاقتصادي والتكنولوجي العالمي. وتعزيزا لمركز الجزائر الإقليمي الذي تربّعت عليه خلال أربع سنوات من الصرامة في تجسيد تغيير أقرّه رئيس الجمهورية منهاجا للجزائر الجديدة، اعتمدت السلطات العمومية إستراتيجية طاقوية تدمج بين الطاقات الأحفورية والمتجدّدة، شملت ثلاثة محاور متمثلة في تطوير النفط والغاز والطاقة المتجدّدة والهيدروجين الأخضر، من خلال تخصيص 50 مليار دولار لمشاريع الهيدروجين خلال السنوات الأربع القادمة.وتهدف الجزائر إلى التحول إلى مركز عالمي لتطوير الهيدروجين، من خلال شركتيّ “سوناطراك وسونلغاز”، اللّتين وقّعتا مؤخّرا مذكرة تفاهم مع عدة شركات أوروبية، بما فيها مشروع ممر الهيدروجين SoutH2، الذي تشترك به كل من تونس، ألمانيا، النمسا، وإيطاليا، حيث تسعى الجزائر من خلال هذا المشروع إلى تلبية 10% من الطلب الأوروبي على الهيدروجين الأخضر، من خلال إنتاج 2 مليون طنّ من الهيدروجين الأخضر ما بين 2030 و2040، وتحقيق مداخيل تقدر بـ 10 مليار دولار/سنويا، بحلول 2040، وذلك ضمن الإستراتيجية الوطنية للهيدروجين التي أعلنتها في مارس 2023.
رسائل ودلالات في الذكرى المزدوجة لتأسيس المركزية النقابية وتأميم المحروقات
24 فيفري.. الذّكرى المزدوجة لتأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريّين وتأميم المحروقات..محطّتان خالدتان تحمل في طيّاتهما رمزية عالية في تاريخ الجزائر، إذ تمثّلان معاني تضحية الشعب الجزائري وصموده وإصراره على تقرير مصيره، واستكمال بسط سيادته على ثرواته وخيراته، وتسخيرها لرسم مستقبله وتحقيق تطلعاته المشروعة في التقدم والتنمية، مثلما قال رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، في خطابه العام الماضي بمناسبة هذه الذكرى.
يستكمل جيل اليوم مسيرة النضال التي خاضها أجدادهم بالأمس، للانعتاق من قيود الظلم والتقتيل والتعذيب والتشريد الذي فرضته الآلة الاستعمارية، وسيبقى الرصيد النضالي للعمال الجزائريّين وتضحياتهم خالدة في ذاكرة الجزائريّين. كان العامل الجزائري، خلال الاحتلال الفرنسي، مهمّشا مهضوم الحقوق، ما دفع جبهة التحرير الوطني ممثّلة في عبان رمضان، بعد مؤتمر الصومام إلى تكليف الشهيد عيسات إيدير، رمز الحركة النقابية بالجزائر، إلى تأسيس الإتحاد العام للعمال الجزائريّين بتاريخ 24 فيفري 1956، ليصبح فضاءً اجتماعيّا وسياسيّا للدفاع عن حقوق الجزائريّين ومساندة الكفاح التحرّري الوطني.
ويوضّح الدكتور بوعلام بن حمودة، في كتابه بعنوان “الثورة الجزائرية: ثورة أول نوفمبر 1954، معالمها الأساسية”، أنّ المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام للعمال الجزائريّين انعقد بمقر الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، بالقرب من جامع كتشاوة بالعاصمة، وقد وضع القانون الأساسي لدى محافظة الجزائر، وكان الهدف الرّسمي الدفاع عن المصالح المادية والمعنوية للعمال الجزائريّين، لكن المقصود ضمنيّا تجنيد العمال حول الثورة التحريرية، يؤكّد الباحث. أدركت إدارة الاحتلال الفرنسي دور العمّال والنقابيّين في الثورة التحريرية، فشنّت عليهم حملة اعتقالات وزجّت بهم في معسكرات البرواقية وبوسوي، وسلّطت عليهم تعذيبا وحشيا.
الطّبقة العاملة تدعم الثّورة المباركة
استطاع الاتحاد العام للعمال الجزائريّين كسب تأييد الطبقة العاملة في العالم للقضية الجزائرية، والمرافعة ضد الجرائم التي ترتكبها فرنسا بالجزائر، وارتبطت هيكلة الاتحاد بهيكلة جبهة التحرير الوطني بالداخل والخارج. تشكّلت المركزية النقابية من نقابيّي المؤسسات والورشات، الاتحادات المحلية، الاتحادات الإقليمية الخاصة بالمناطق، والاتحادات الوطنية الوظيفية، وبعد إلقاء القبض على عناصر من السكريتارية العامة، أصبحت تنظيمات إدارة الاتحاد العام للعمال الجزائريّين تتكوّن من لجنة تنفيذية مكوّنة من 43 عضوا، مكتب الجزائر يضم مكلفين بالخزينة، وتعليم الإطارات، إضافة إلى العديد من الممثليات تختص بالتجنيد، الدعاية والصّحافة، سكريتارية النيابة ولجنة رقابة.
أنشأ الاتحاد في مارس 1957، الودادية العامة للعمال الجزائريّين بفرنسا، بدافع تنظيم المغتربين في العمل التحرّري الذي تقوده جبهة التحرير الوطني، وأعلن عن تنظيم 150 ألف عامل في 100 نقابة تابعة له، حسبما يشير إليه الأستاذ بجامعة باتنة، عيسى ليتيم، في دراسة بعنوان “دور نقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريّين في تدويل المشكلة الجزائرية: الجامعة العالمية للنقابات الحرة نموذجا”.
ويضيف الباحث: “دعا الاتحاد لمساندة إضراب الثمانية أيام التاريخي، الذي دعت إليه جبهة التحرير الوطني لدعم طرح القضية الجزائرية في الأمم المتحدة في جانفي 1957”، وقد صرّح رشيد عبد العزيز السكرتير العام وقتها، قائلا إنّ “الاتحاد لن يقبل بأي شرط تضعه فرنسا أمام المفاوضات” وإنّ “الحل الوحيد لوقف إطلاق النار هو القبول بتأسيس حكومة ستكون كفيلة بمناقشة ذلك”. وطالب رشيد عبد العزيز باعتراف الحكومة الفرنسية بالاتحاد العام للعمال الجزائريّين وإطلاق سراح مناضليه.
اعتقالات بالجملة في حق النّقابيّين
وبسبب إضراب الثمانية أيام التاريخي، تعرّض الاتحاد إلى موجة اعتقالات شديدة وإغلاق مقرّاته وملاحقات قضائية للعديد من مسيّريه، وفرض الإقامة الجبرية على آخرين، ما أدى إلى تأسيس ممثلية خارجية لهذا التنظيم، مقرّها بساحة محمد علي بتونس، وكان من أعضائها في أكتوبر 1958 مولود قايد، خلفا لعبد العزيز رشيد، وضمّت الأمانة العامة سافي بوديسة، أحمد دمرجي، دحمون دكار، أمبارك جيلالي عبد القادر، ومعاشو.
عيسات إيدير.. شاهد وشهيد
تجمع شهادات كل من ناضل مع الشهيد عيسات ايدير، أنه تميّز بصفة القيادة في كل المواقف، وكان ملتزما بالدفاع عن المحبوسين، ويمارس دوره النقابي والتنظيمي من داخل السّجن، عبر تنظيم المعتقلين والدفاع عن حقوقهم أمام الجلادين الفرنسيّين. وكان للشهيد ورفاقه المعتقلين دور في مساندة إضراب الثمانية أيام التاريخي، بالإضراب عن الطعام، وتعرّضوا للتعذيب بأنابيب النار. ساهم عيسات ايدير في تأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريّين وكان أوّل أمين عام له، عيّن عضو في المجلس الوطني للثورة في مؤتمر الصومام إلى غاية اعتقاله في 23 ماي 1956، لتبدأ رحلة معاناته في السّجون والمعتقلات الفرنسية.
ولد عيسات إيدير في قرية جمعة الصهاريج ببلدية مقلع بولاية تيزي وزو، بتاريخ 11 جوان 1915، فَقَد والدته وهو في السادسة من عمره، ما ترك في نفسه حزنا كبيرا، حسبما تذكر مصادر تاريخية. تلقى الشهيد عيسات ايدير، الدروس القرآنية في المسجد القريب من المنزل العائلي، وحفظ شيئا من القرآن..التحق بالمدرسة الابتدائية وتحصّل على منحة الالتحاق بالمدرسة الابتدائية العليا بتيزي وزو، عام 1930، لم يستفد من النظام الداخلي، ممّا أجبره على طلب المساعدة من البعثة التبشيرية البروتستانتية، يؤكّد الدكتور محمود آيت مدور، في مقال نشر بالعدد 44 ديسمبر 2015، من مجّلة التواصل في العلوم الإنسانية والاجتماعية بعنوان “عيسات إيدير: مسار ومصير”.
ويضيف: “عيسات إيدير كان يلقّب بإيدير العاقل من قبل زملائه، إذ لم يكن يصدر منه أيّ تصرف عنيف، كان متمكّنا في الرياضيات ويتقن الفرنسية. لم يتمكّن من متابعة الدراسة في بوزريعة والتحق بخاله في تونس، أين تابع دراسته في المحاسبة، كما تلقّى معارف في القانون والعلوم الاقتصادية، ثم جنّد في الجيش الفرنسي برتبة رقيب، وبعدها عاد إلى الجزائر حاملا شهادة جامعية”. وُظّف الشهيد في ورشات الصناعة الجوية بالدار البيضاء كمحاسب بداية من 28 أوت 1939، ثم جُنّد خلال الحرب العالمية الثانية وأُرسل إلى تونس، أين بقي إلى غاية جوان 1940، ليعود مرّة أخرى إلى منصبه.
وتذكر مصادر تاريخية أنّ عيسات إيدير كان خلال العشر سنوات التي قضاها في الورشات، محل تقدير كبير من قبل الإدارة والمواطنين، ومنحته الإدارة العامة شهادة شرفية عام 1949، بمناسبة الذكرى العاشرة لإنشاء الورشات، كما قدّم إيدير خدمات لشباب المنطقة عن طريق مساعدتهم في الحصول على وظائف في الورشات، لكن بعد اكتشاف أمر المنظمة الخاصة في 18 مارس 1950، عقب أحداث تبسة، قامت مصالح الأمن بعمليات بحث عن المناضلين الوطنيّين أسفرت عن اعتقال كثير منهم، واعتقلت إدارة الاحتلال إلى غاية 31 مارس 1950، 155 شخصا.
وتشير مصادر أخرى إلى اعتقال أكثر من 500 مناضل، وقد طالت عملية التوقيف عمّال الورشات ومن بينهم عيسات إيدير. غير أنّ بعض الكتابات تتحدّث عن أنّ توقيف عيسات إيدير رفقة شقيقه حسان، مع عدد من النقابيّين الآخرين كان على إثر الإضراب الطويل الذي قاموا به سنة 1951، وأفرج عنه بعد مضي عشرة أيام. وتم تسريحه، لكنه لم يعد إلى وظيفته الأولى، وإنما اشتغل في صندوق التعويض للبناء والأشغال العمومية. كما شارك عيسات إيدير في لجان شباب بلوزداد رفقة أحمد مهساس، ومحمد أعراب ومحمد بلوزداد وآخرين، كمتطوّع ما بين عامي 1943 و1945، كما شارك بعد ذلك في تحرير جرائد مثل جريدة “الأمة الجزائرية” عام 1946، ثم كلف بكتابة عمود البروليتاريا الجزائرية في جريدة “الجزائر الحرة”، خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 1949 و1954.
العمّال.. جبهة واحدة
كلّف عبان رمضان، عيسات إيدير بالتحضير لتنظيم العمال الجزائريّين في إطار مركزية وطنية هي الاتحاد العام للعمال الجزائريّين، وعقدت أول جمعية تأسيسية لها في 24 فيفري 1956، وقد ارتكز برنامجه على نقطتين أساسيّتين هما أولوية تنظيم العمال الفلاحين، فقد كان الشهيد يسعى إلى تفادي ردود الفعل الفرنسية العنيفة. وأمر الوالي كولافيري بتوقيف عيسات إيدير و250 مسؤولا نقابيّا ليلة 23 إلى 24 ماي 1956. وحسب شهادة عبد المجيد عزي، فإنّ إجراءات السّجن طالت كل النقابيّين سواء كانوا منتمين إلى الحركة الوطنية الجزائرية أو جبهة التحرير الوطني أو الحزب الشيوعي الجزائري، وقد أرسلوا برقية احتجاج إلى رئيس الحكومة الفرنسية في باريس آنذاك، نشرت في العدد الثالث من جريدة العامل الجزائري بتاريخ 8 جوان 1956، تضمّنت الحالة غير القانونية واللاّإنسانية وظروف حجز بمعتقل البرواقية المحاط بالأسلاك الشائكة، وانعدام شروط النظافة والتجهيزات الصّحية وقلّة المياه الشروب، ووجبات غذائية غير كافية، واكتظاظ في الحجرات، حيث يتراوح أعمار المعتقلين ما بين 16 و80 سنة، من بينهم مرضى، لكن دون رد.
كلّف مركز الاستخبارات العملياتية مديرية الأمن الإقليمي بالبحث عن عيسات إيدير، المدعو أمقران، بين المعسكرات وعُثر عليه في معسكر بوسوي، ونُقل إلى وهران للتحقيق المعمّق أين تعرض للتعذيب..نٌقل بعدها على متن طائرة عسكرية إلى مقر مديرية الأمن الإقليمي في العاصمة، وخضع للاستنطاق بتاريخ 26 فيفري، حيث استُعملت ضدّه كل وسائل التعذيب.
محاكمة بتهم باطلة
يشير الباحث مدور إلى أنّه في سبتمبر 1958، أُخذ عيسات إيدير مرة أخرى من بوسوي إلى سجن برباروس، من أجل محاكمته في جانفي 1959 بالمحكمة الدائمة للقوات المسلحة للجزائر، وكانت التهم الموجهة إلى مناضلي الاتحاد العام للعمال الجزائريّين المساس بأمن الدولة وتكوين جماعة الأشرار، وطالت إيدير جرّاء نشاطه سنتي 1955 و1956، وكان ردّ عيسات إيدير أثناء المحاكمة أنه كيف يشارك في مداولات المجلس الوطني للثورة الجزائرية وقد حُرم من حريته منذ ماي 1956، وقال: “ناضلت من أجل تنظيم دفاع العمال في إطار قانوني منذ أكثر من 15سنة، لكن وجدنا جدارا منيعا وهو الذي وضعته الإدارة…إنّ نتيجة هذه السياسة الفقر والبطالة وفلاحين بدون أرض والتمييز العنصري، والأمية..سيدي الرّئيس، نحن نقابيّون ولم يسبق أن اعتبرنا أنفسنا خارجين عن القانون..نطالب بحق العيش وأن نكون أناسا بأتم معنى الكلمة وليس عبيدا خاضعين ومهمّشين في بلدنا..الاتهام الوحيد ضدي هو إنشاء مركزية نقابية”.
كان قرار المحكمة البراءة، لكن بمجرد خروجه من سجن برباروس اختطف من طرف المظليّين الذين سلّموه للأشخاص المكلفين بالتعذيب في مركز بيرطرارية ضواحي العاصمة، وقامت بافتراء كذبة قيامه بمحاولة الانتحار. وبتاريخ 17 جانفي 1959، حول عيسات إيدير إلى المستشفى العسكري للعاصمة، وقد وُجد محروقا بالكامل في عدة مناطق من جسده، وأكّد محاميه كاريغاز، أنه لم يحاول أبدا الانتحار، ليكذّب ادعاءات فرنسا أنه قام بإضرام النار في أغطية فراشه، من أجل الانتحار. وتشير مصادر إلى أنه لم يتلق العناية اللازمة طيلة فترة الستة أشهر التي قضاها بمستشفى مايو، وكان من المفروض نقله للعلاج في فرنسا بمستشفى متخصّص في الحروق إلى غاية 26 جويلية 1959، تاريخ ارتقائه إلى الملإ الأعلى ونيل الشهادة الغالية.