أبرز البروفيسور حسان مغدوري، باحث بجامعة الجلفة، الدور التاريخي للعمال والنقابين إبان الثورة التحريرية، في الدفاع عن المطالب المشروعة، وشدّد في حوار مع “الشعب”، بمناسبة الذكرى المزدوجة لـ24 فيفري على ضرورة دعم الجبهة الداخلية باليقظة في مواجهة حروب الجيل الرابع، وأشار إلى أنّ اليمين المتطرّف الفرنسي يتغذّى من الأزمة الاقتصادية لفرنسا، ولم يستيقظ بعد من حلم الجزائر فرنسية.
الشعب: تاريخ تأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين، يوافق القرار الشجاع والتاريخي للرئيس الراحل هواري بومدين، بتأميم المحروقات، لاستكمال استرجاع السيادة على الثروات الطبيعية، ما الذي يمكن استخلاصه من هاتين المحطتين التاريخيتين؟
البرفيسور مغدوري: أولا ينبغي الحديث عن بدايات الحركة العمالية في الجزائر وتأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين، حيث أنّ النظام الاستعماري في الجزائر كان استيطانيا، وضع الثروات والسلطة ومقدرات البلاد في يد الوافدين الجدد من المستوطنين الذين تحكّموا في السلطة وفي تدبير الشأن العام، واعتبروا الجزائريين بموجب قانون الأهالي الذي أقرّته الإدارة الاستعمارية بعد إعلان قيام الجمهورية الثالثة سنة 1870، خارجين عن نطاق الحقّ العام، وهكذا عاش الجزائريون خارج مفهوم الحقوق، ولم يكونوا – في نظر المستعمر الغاشم – سوى رعايا، حتى لا يمكن إطلاق صفة العامل على الجزائري، ومن هنا، فرض الاستعمار على الجزائريين أن يكونوا “خمّاسين” في إطار نظام الخمّاسة الذي استحدثه الاحتلال ليستعبد الأحرار.
ومع التطوّر الذي عرفته الحركة النقابية في العالم، وانتشار أفكارها خاصّة على مستوى أوروبا وظهور التيارات الشيوعية بعد انتصار الثورة البلشفية في الاتحاد السوفياتي في 1917، احتكّ الجزائريون بالأطر النقابية في بلاد المهجر وعلى الخصوص في فرنسا، نجد بأنّ العشرينيات من القرن التاسع عشر كانت تمثل العصر الذهبي للنشاط النقابي على مستوى أوروبا، وفرنسا على وجه الخصوص، وعرفت الحركة النقابية توسّعا وانتشارا لفروعها في مختلف أنحاء فرنسا وبحكم الوضعية المأساوية التي كان الجزائريون يعيشونها، اقتربوا من هذه الأطر من منطلق أنّها أدوات للدفاع عن مطالبهم وعن وضعيتهم المأساوية كمهاجرين آنذاك، لكنّ اقترابهم كان بدون عنوان، لأنّهم لم يكونوا من الناحية المبدئية مواطنين في القانون الفرنسي، ولم يكونوا أجانب على غرار المهاجرين الذين يحملون جنسيات مختلفة ويعيشون في فرنسا، إذن..الجزائريون كانوا متواجدين فاعلين، وكانوا يتحمّلون كلّ أعباء الظلم باعتبارهم أهالي ومهجّرين أكثر منهم مهاجرين، بإرادة طوعية.
كانت هذه الأطراف النقابية بمثابة المجال، الذي يمنح لهم حرية التعبير عن مطالبهم ولذلك انخرط الجزائريون في تطوّر هذه الحركة النقابية، يمكن القول إنّ هذا النشاط النقابي والدفاع عن المطالب كان موجودا في الجزائر ونسجّله في القرن 19 في بعض مزارع الكولون، لكن كان عبارة عن مطالب في إطار رسائل كانت توجّه لملاّك الأراضي من أجل تحسين وضعيتهم، غير أنّ العمل النقابي، بالمفهوم التنظيمي، يمكن أن نشير إليه في المؤتمر التأسيسي لحركة انتصار الحريات الديمقراطية سنة 1947، في إطار هذا المؤتمر ظهرت ما يسمى بلجنة مكلفة بالشؤون النقابية والاجتماعية للعمال، وهذه اللجنة كانت مهمّتها الأولى هي تجنيد وتنظيم العمال في إطار التحضير لاحقا بعد تأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين، في 24 فيفري 1956، إلى توحيد كفاح العمال بهدف تحقيق الاستقلال الوطني. بمعنى أنّ النشاط النقابي الذي عرفه الجزائريون في المهجر وانتقل إلى الفروع النقابية عبر ما يسمى الكونفدرالية العامة للعمال الفرنسيين، جعل الجزائريين يفكرون في محاولة الخروج عن نطاق هذه الكونفدرالية باعتبار أنّهم لاحظوا أنّ الفرنسيين لم يكن يهمّهم وضع الجزائريين بمقدار ما كانوا يحاولون فقط تمتين الجبهة النقابية للدفاع عن مصالح الأوروبيين، ومن هنا، تنبّه الجزائربون إلى هذه المسألة وأخذوا من هذه الوسيلة أداة للدفاع عن مطالبهم أولا، وتجلّى ذلك في المؤتمر التأسيسي لحركة انتصار الحريات الديمقراطية مثلما ذكرت سالفا، والتي أوكلت مسؤولية اللجنة الخاصة لعيسات إيدير، كأول نقابي، وظهر كشخصية لامعة بمستواه التعليمي وبحركيته وبرصيده النضالي في الميدان، حيث أسّس الاتحاد العام للعمال الجزائريين وانتقل نحو تجنيد كلّ الطاقات في سبيل خدمة القضية الجزائرية.
الحركة النقابية الجزائرية كان لها دورين، الأول هو الدفاع عن المطالب والدور الثاني هو تجنيد العمال في سبيل خدمة القضية الوطنية والثورة الجزائرية من أجل الاستقلال الوطني، لذلك نجد أنّ القرار الذي اتخذته الجزائر في عهد هواري بومدين، والمتمثل في تأميم المحروقات يأتي استكمالا لخط النضال العمالي لإشراك الفئة العمالية في الدفاع عن المطالب والقضايا الوطنية الاستراتيجية، فالرمزية هنا تكمن في أنّ بناء الجزائر لا يقتصر فقط على جهة محدّدة، من فئات المجتمع بمقدار ما هو استراتيجية شاملة تعمد إلى استغلال كلّ الطاقات الوطنية في بناء المشروع الوطني، وهذا يعكس تماما ما ورد في بيان أول نوفمبر حينما دعا إلى تجنيد كلّ الطاقات السليمة، من أجل القضية الوطنية.
هذه الاستراتيجية هي التي أراد الرئيس الراحل هواري بومدين أن يكرّسها من خلال اختيار تاريخ 24 فيفري من عام 1971 من أجل تأميم المحروقات، لأنّ ذلك يعدّ تعزيزا لهذا المسعى، ولهذا الاستراتيجية التي ينبغي أن تشرك كلّ أطراف المجتمع في سبيل الدفاع عن المشروع الوطني.
المغزى من إحياء هذه الذكرى اليوم هو تكييف أبعادها الفلسفية، التي قامت عليها في إطار حماية مكتسبات الجزائر من جهة، وحماية التوجّهات الرشيدة التي تسعى القيادة السياسية في البلاد من أجل أن تضمنها لمستقبل الأجيال.
ما هو الدور المنوط بالحركة النقابية اليوم؟
مثلما كانت هذه الحركة النقابية في مرحلة تاريخية معيّنة مجرّد تجنيد وتنظيم العمال في سبيل المطالب المهنية، وجدناها قد وقفت موقفا ملتزما مع الموعد في التاريخ في 24 فيفري 1956 بأنّها قدّمت نفسها كعربون للثورة الجزائرية من أجل استرجاع السيادة الوطنية، اليوم كذلك هذه الحركة النقابية مطالبة بالانخراط في دعم مساعي الدولة نحو تحقيق طموحات الشعب الجزائري في مجال التنمية وحفظ الأمن الإقليمي والمجتمعي وأمن الوعي والذاكرة بالنسبة للشعب الجزائري.
نشهد اليوم حملة شرسة على الجزائر يقودها اليمين المتطرّف الفرنسي..كمؤرّخ ما هي خلفيات هذه الحملة؟
نحن ننظر إلى اليمين المتطرف الفرنسي على أنّه يعود في مرجعياته إلى المستوطنين الذين فرضوا سيطرتهم على الجزائر على امتداد 132 سنة، حيث أنّ 5 بالمائة من المستوطنين الذين يمثلون ملاّكا لكبار الأراضي في الجزائر، كانوا يحوزون ملكيات لا تقلّ عن 100 ألف هكتار، وكانوا متواجدين على مستوى كلّ مرافق القرار السياسي داخل الجزائر، مكّنتهم العائدات المالية الهائلة التي كانوا يتمتعون بها من أن يكون لهم جهازا إعلاميا بالجزائر مثلته كبريات الصحف على غرار “صدى الجزائر “ و “برقية الجزائر”، و«صدى وهران”، وغيرها من الجرائد السيارة، كما كان لهم نواب يمثلون مصالحهم في مختلف المجالس النيابية المحلية وأيضا على مستوى الجمعية الوطنية في فرنسا، وكانت لهم علاقات وثيقة مع كبار الرأسماليين في فرنسا، من خلال المبادلات الاقتصادية التي كانت بين الجزائر وفرنسا..الأصول التاريخية لليمين الفرنسي المتطرّف تعود إلى الفئة التي استوطنت الجزائر، لذلك فهؤلاء هم الذين كانوا وراء إفشال كلّ المفاوضات أثناء الثورة على امتداد الحكومات الخمس التي عرفتها الجمهورية الرابعة، وهم الذين جاؤوا بديغول بعد أزمة 13 ماي 1958، وأوصلوه إلى السلطة في جوان 1958، وراهنوا على ديغول باعتباره يحمل مشروعهم في الإبقاء على الجزائر فرنسية مثلما كانوا يحلمون.
بالنظر إلى سياسة ديغول، التي امتدّت من 1958 إلى 1962، نجد بأنّ هذا الرجل لم يدّخر جهدا في سبيل تحقيق طموحات المستوطنين الذين يمثلون هذا التيار اليمني المتطرّف..ربما أحلك فترة عاشتها الثورة الجزائرية كانت في عهد ديغول، من خلال المشاريع المتعدّدة والمتنوّعة التي أراد من خلالها إجهاض الثورة الجزائرية، على غرار المشروع العسكري الواسع من خلال تمسيح التراب الوطني عبر المناورات وتسييج الحدود فيما يسمى مخطط شال وموريس، وإنشاء مراكز تجميع الجزائريين، عبر استقدام الأسلحة المحظورة مثل النابالم، والتفجيرات النووية، والتجارب الكيميائية المحظورة التي كانت الصحراء مسرحا لها..منذ أيام، أحيت الجزائر الذكرى الأليمة للتفجيرات النووية برقان في 13 فيفري 1960، كما أنّ ديغول كان صاحب مشروع قسنطينة الشهير الذي أراد أن يخلق قوّة تدعمه في إطار حفظ التوازن دوما من أجل الحفاظ على الجزائر فرنسية.
وهناك ما يسمى بـ«سلم الشجعان”..المناورة السياسية التي أراد ديغول من خلالها إخماد روح الثورة بإغراء الثوار من أجل وضع السلاح، نلاحظ أنّ ديغول حاول أن يجاري مطالب اليمين المتطرّف على امتداد الفترة التي حكمها خاصّة السنتين الأولى والثانية، ولكن ديغول في النهاية، توصّل إلى قناعة بأنّ الثورة الجزائرية كانت حاضرة في الميدان، وأنّها كانت في مستوى من النضج والوعي، بحيث لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يمنع تقرير المصير الذي عزم الشعب الجزائري على تحقيقه من خلال استعادة سيادته، ولذلك حاول ديغول أن يقف عقلانيا في تقييم هذه المرحلة والسياسة، ولاحظ أنّ الثورة الجزائرية أصبحت تمثل تهديدا للجزائر المستعمرة كما كانوا يسمونها وتهديد كذلك للأمن في فرنسا على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي..ولا ننسى أنّ الثورة الجزائرية قامت بمبادرة نقل الثورة إلى ديار الاحتلال وهذه سابقة في تاريخ الصراع بين الدولة الاستعمارية الميتروبول، والمستعمرات ولكن الجزائريين حقّقوا ذلك، وديغول أدرك مبكّرا بأنّ الحلّ والخلاص بالنسبة للجزائريين وأمن ومستقبل الشعب الفرنسي هو الاعتراف بحقّ تقرير المصير، ولذلك رهن كلّ أحلام هؤلاء الكولون واليمين المتطرّف، لكنّ رأينا أنّ هذا الأخير حينما انتقل ديغول إلى فكرة تقرير المصير، عمدوا إلى إنشاء ما يسمى بمنظمة الجيش الفرنسي السرّي، ونفّذت أعمال إرهابية مروّعة في حقّ الجزائريين وحتى في حقّ الفرنسيين أنفسهم، ولكن ديغول تمكّن في النهاية من حسم قراره بالاعتراف بالأمر الواقع وهو استقلال الجزائر.
إذن..كانت هذه أول نكبة بالنسبة لهؤلاء، ولذلك تجدهم قد رحلوا عن الجزائر في إطار نزيف لم يكن متوقّعا، لكن نجد أنّ هذا اليمين المتطرف لم يمت وبقي خافتا يشتغل، وكانت أول عودة لهذا اليمين المتطرّف في عهد جورج بومبيدو، عام 1969، ودخلوا في إطار الاستحقاقات الانتخابية ومقايضة وبيع وشراء للأصوات من أجل نيل رضا بعض السياسيين الذين تعاطوا مع هذه المتاجرة الخبيثة في سبيل أن يمنّوا هؤلاء بأنّهم في يوم ما سيعملون على المحافظة على مصالحهم.
وهكذا بدأ هذا اليمين المتطرّف يشتغل تدريجيا إلى أن بلغ مستوى إقرار ما يعرف بقانون تمجيد الاستعمار في 23 فيفري 2005، هذا الأخير جاء بإيعاز من هذا التيار الذي بدأ يتصاعد تدريجيا، وحسب الإحصائيات، فإنّ هذا اليمين المتطرّف في العشر سنوات الماضية، لم يكن يتجاوز 3.5 بالمائة، وحاليا متواجد على الساحة بنسبة 32 بالمائة وهو يتغذّى من الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي تمر بها فرنسا ومن غياب الرؤية الإستراتيجية لمستقبل فرنسا، في ظلّ الأزمات المتعدّدة والمعقّدة على الصعيد الاقتصادي والسياسي، وفقدان فرنسا لنفوذها في إطار ما كان يسمى بالمستعمرات السابقة، خاصّة في إفريقيا، وبعد الأزمة التي قامت كذلك فيما يعرف بجزر بولينيزيا، وغيرها..نجد أنّ هذا اليمين المتطرّف يحاول توجيه القرار السياسي في فرنسا إلى الاتجاه المتطرّف الذي يحاول من خلاله الدعوة إلى المطالب القديمة، التي تحلم بالجزائر فرنسية..في اعتقادي أنّ ديغول، إذا كان قد أخذ قرارا حاسما برهن مصالح اليمين المتطرّف من أجل إنقاذ فرنسا وشعبها والعلاقات المتوازنة مع الجزائر في المحافظة على التعاون كما كان يقال في تلك المرحلة، فإنّ الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، إذا سار تحت تأثير هذا التيار اليميني، فسيسير حتما إلى تفجير المجتمع الفرنسي من الداخل بسبب نظرة اليمين المتطرّف العدائية للمهاجرين..وبكلّ أسف..حتى تجاه الذين يحملون الجنسية الفرنسية، اليوم، ويعتبرون ضمن مكوّنات الجمهورية الفرنسية في منظور اليمين المتطرّف ليسوا إلا بقايا لشعوب المستعمرات.
على ذكر قانون تمجيد الاستعمار..اليوم كثير من جمعيات المجتمع المدني ورؤساء أحزاب في الجزائر، يطالبون بإعادة تفعيل ملف قانون تجريم الاستعمار، ما قولكم؟
في اعتقادي، هذه المرحلة تقتضي أن نكون أكثر حزما أمام التحرّشات العدائية ضدّ الجزائر من طرف هذا اليمين المتطرّف الذي خرج عن قواعد اللباقة الدبلوماسية والأعراف السياسية، وهو يحاول أن يتصرف وكأنّ عجلة التاريخ متوقفة، لذلك فالجزائر اليوم مطالبة بإقرار نصّ قانوني يجرّم هذا الاستعمار حتى ننتقل إلى مجال “التقاضي”؛ لأنّ الاستعمار من حيث المبدأ، هو جريمة برمّتها في عقل وذاكرة الشعوب بصفة عامة، لاسيما في عقل الشعب الجزائري، فنحن في واقع الأمر لسنا بحاجة إلى قانون يجرّم الاستعمار حتى نقول بأنّه مجرم، ولكن في هذا الظرف الذي تصاعد فيه الانحراف الأخلاقي لهذا اليمين المتطرّف، فالمرحلة تقتضي أنّنا نحضر لمشروع تجريم الاستعمار حتى يكون في مستوى الردّ على ما يسمى بقانون تمجيد الاستعمار، وهذه من الحقوق المشروعة للشعب الجزائري.