قبل قرنين، من يوم الناس هذا، كان الجزائريون ولعقود متتالية، يمارسون عادات تستند في أساسها إلى قوانين، ليس فيها ما يفاجئ الأوروبي والأجانب، مثل غياب النساء عن الحياة العامة، واحتشامهن الشديد، فلا يسرن في الأزقة دون حجاب، مثلما يقول رحالة الماني زار البلاد وكتب عنها في رحلاته..
حظيت مدينة الجزائر في العهد العثماني باهتمام الرحالة والقناصل الأوروبيين، الذين عاشوا في الجزائر، في تلك الفترة ودونوا كل ما شاهدوه في كتاباتهم. ومن بين الدراسات التي تطرقت إلى أصول سكان الجزائر وموقع وتحصينات مدينة الجزائر وعادات سكانها، نجد كتاب قيم ترجمه المؤرخ الكبير الدكتور ناصر الدين سعيدوني، بعنوان “رحلة العالم الألماني ج.أو جابنسترايت، إلى الجزائر وتونس وطرابلس (1145ه-1732م).
مصدر تاريخي للحقبة العثمانية
يعتبر المؤرخ سعيدوني، مذكرات الرحالة وتقارير القناصل وحكايات البحارة، مصدرا تاريخيا من الدرجة الأولى، نظرا للمعلومات التي توفرها للباحث ولتنوع وجهات النظر، التي تعبر عنها والظروف التي كُتبت فيها.
ويؤكد أن هذه الكتابات لا تقل أهمية عن الكتابات المحلية وحتى السجلات الرسمية، قائلا: ” في غياب الوثائق الأرشيفية وشح المصادر المحلية تصبح مصدرا أساسيا لا يمكن أن يستغني عنه أي باحث في دراسته للحياة الاجتماعية والثقافية، إذ تعرفه على النشاط الإقتصادي والوضع السياسي للفترة الحديثة من تاريخ المغرب العربي” .
ويذكر في هذا الشأن، أسماء أوروبيين اشتهروا بكتاباتهم عن الفترة العثمانية من تاريخ المغرب العربي، وخاصة ما تعلق بتاريخ الجزائر، منهم القنصل الأمريكي وليام شالر، سيمون بفايفر الألماني، الدكتور توماس شو الإنجليزي، كوكوفتسوف الروسي.
وأيضا كتاب غرامون، الصادر في 1887، غير أن هذا المؤلف يعتبر الوجود العثماني في الجزائر استعمار، وأن الجهاد البحري قرصنة واعتداء، ويصور تصدي الحكام لمخططات الهيمنة الخارجية على أنها موقف عدائي غير مبرر.
وفي هذا الصدد، يتناول الطبيب الألماني وعالم النبات ج.أو هابنسترايت، الذي أرسل في بعثة علمية إلى شمال إفريقيا للتعرف عن كثب على نباتات وحيوانات تلك المنطقة، وجمع عينات منها لفائدة القصر الملكي، مختلف الجوانب الإجتماعية والاقتصادية المتعلقة بإيالة الجزائر خلال التواجد العثماني، منها منازل مدينة الجزائر وحماماتها ومساجدها، العدالة والقضاء، خزينة الجزائر، فدية الأسرى المسيحيين والغنائم، تنظيم الديوان وتقاليد الجزائر، موقع قسنطينة، قبر القديس أغسطين بعناية، وغيرها من المواضيع.
ويعتبر الدكتور ناصر الدين سعيدوني، كتابات هذا المؤلف أقرب إلى الإعتدال والموضوعية والنظرة المتزنة بالمقارنة مع باقي الكتابات المعاصرة لها.
اخترنا فصلا يتحدث عن صيام رمضان ومراسيم عيد الأضحى، يقول الرحالة الألماني هابنسترايت، إن “عادات وتقاليد الجزائر تحددها ضوابط الشريعة الإسلامية، فالمسلم الصالح يتوجب عليه حسن معاملة أصدقائه، كما يطلب منه أن يكون شديدا مع أعدائه رحيما بالمنهزمين”. ويضيف: ” يتمتع الكل في الجزائر بحرية المعتقد، فالأجانب يكرمون والكل في وضعية تمكنهم من القيام بما يرغبون فيه، والأسير المسيحي يستطيع أن يحصل على حكم عادل عن أية معاملة سيئة يتلقاها من سيده عندما يثبت ما يؤكد تظلمه، في الوقت الذي يلاقي فيه البحارة الجزائريون عقابا مضاعفا عندما يقعون في أيدي أعدائهم الأوروبيين، الذين هم في حرب لا هوادة فيها معهم”.
وعن عادات الجزائريين في شهر رمضان خلال الفترة العثمانية، يقول هابنسترايت، “إن اغلب العادات التي يمارسها الجزائريون تستند في أساسها إلى قوانين، وليس فيها ما يفاجئ الأوروبي، كغياب النساء عن الحياة العامة، واحتشامهن الشديد، فلا يسرن في الأزقة بدون حجاب، وحتى منازلهن تكاد أشعة الشمس لا تصل إليها، وعندما يسافرن على ظهور البغال يكن مختبئات في ستائر غريبة”.
إحتشام المرأة الجزائرية
ويصف درجة الاحتشام، الذي كانت عليه المرأة الجزائرية بالقول: ” لقد ترجاني أحد الأتراك من ذوي المكانة المتميزة أن أعالج زوجته، وعندما طلبت منه أن أرى المريضة أجابني من الأفضل أن تموت على أن يراها أحد”.
ويشير الطبيب الألماني إلى “أن الجزائريين من أتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الغيورين، يحجون إلى مكة المكرمة، وبعد أداء هذه الفريضة يرتدون الملابس الخضراء، التي تنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو اللباس الذي يميز الأشراف الذين يدعون بأنهم من سلالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يمتنع المسلمون الأتقياء عن شرب الخمر”.
ويضيف هابنسترايت: ” لقد صادف أن وصلت إلى الجزائر في الفترة التي تسبق الصيام، ولاحظت أن المسلمين يمتنعون عن الشرب والأكل أثناء اليوم طيلة الشهر، وحتى ظهور قمر الشهر التالي، وهذا الصوم ليس منهكا سوى للطبقة الدنيا وهي جماعة البرانية، الذين يلتزمون به رغم ما يقومون به من أعمال منهكة جدا، بينما الذين هم في منزلة أرفع وهم الحضر يتجنبون هذا الإجهاد ويهيئون في الليل ما يقومون بعمله في النهار”.
إطلاق المدافع إعلان لحلول عيد الفطر
ويصف الطبيب الألماني، أجواء التحضير لعيد الفطر المبارك، بالقول انه مع نهاية شهر رمضان وعند رؤية هلال العيد، يُنقل الخبر على جناح السرعة، إلى الداي ليأمر بإطلاق المدافع إعلانا بانتهاء شهر رمضان وحلول العيد، الذي يعرف لدى الأتراك بـ”بيرم”، وفي لغة الفرانكا يطلق عليه لفظ باساكا (Passaca)، لأنه يأتي على منوال عيد الصفح لدى النصارى.
ويضيف: “لقد جرت العادة في صبيحة اليوم الأول من عيد الفطر أن يذهب الناس إلى إلقاء السلام وتقديم التهنئة إلى الأفندي الأكبر أو الداي، وأثناء ذلك يكون هذا الأخير معرضا لأخطار كبيرة، لأن أعداءه يسهل عليهم الوصول إليه وتنفيذ مؤامراتهم، التي يكونون قد خططوها ضده، ولقد ذهبنا نحن بدورنا برفقة القنصل الإنجليزي لتقديم التهاني للداي، فوجدناه في لباس الحفل الرسمي جالسا على جلد نمر في قاعة المجلس وأعضاء الديوان يحيطون به، وقد وضعت أمامه مائدة يتناول عليها وجبة الغذاء في أطباق من الفخار، ويكون أول من يبدأ الأكل مع موظفيه السامين، بعدها يأتي دور قدماء الإنكشارية ويليهم الجند، وفي الأخير تترك الموائد للعامة لتناول غذائها قبل أن تقدم للجند القهوة والحلويات”.
ومن العادات أثناء عيد الفطر، يذكر الرحالة الألماني، تنظيم مبارزة رسمية، حيث اعتاد الأتراك القيام بها، بين بعضهم البعض، فيغطى المكان المخصص لهذه التمارين بالرمل، ويتقدم إليها المتصارعون عراة، إلا من سراويل قصيرة جدا من الجلد المدهون بالزيت مثل أجسادهم لتكون ملساء، وبعد الصلاة يتبارى المتصارعون واحدا بعد الآخر ويقومون حسبما جرت العادة بحركات تؤهلهم للفوز بالجائزة، فالذي يطرح خصمه على الظهر يعتبر منتصرا، وعندما لا تحسم المباراة تؤجل إلى آخر أيام العيد لإستئناف المصارعة من جديد.
وتكون مصحوبة، كما في اليوم الأول، بأنغام موسيقى الإنكشارية، وبجانب هذه المبارزة يتسلى الشعب أيام العيد بكل أنواع الألعاب، التي ليس فيها ما يثير الإنتباه.
الجباية والرسوم
يروي الرحالة الألماني، كيف تتم عملية حمل الجباية، والرسوم، من مراكز المقاطعات إلى مدينة الجزائر، والتي تعرف باسم الدنوش، حيث يتوجب على كل باي حمل الدنوش الكبرى بنفسه كل سنة، بينما ترسل الجباية في فصلي الربيع والخريف من كل سنة مع خليفة الباي، وتعرف بالدنوش الصغرى، وترتبط الدنوش الكبرى التي يحملها البايات بإجراءات خاصة، بحيث يستقبل البايات خارج مدينة الجزائر، وينزلون في جناح خاص من قصر الداي، فيحرصون على إرضاء الداي وأعضاء الديوان والشواش، حتى يتجنبوا المساءلة وحتى لا يتعرضوا إلى العزل أو ينفذ فيهم حكم الإعدام.