في إطار سلسلة الندوات التاريخية، التي تنظّمها المكتبة الوطنية «الحامة» خلال شهر رمضان، والتي تهدف إلى تسليط الضوء على الأبعاد الفكرية والفلسفية للتاريخ الوطني.
قدّم الدكتور مولود ڨرين، محاضرة قيّمة تناول فيها القيم الروحية والإنسانية في الثورة التحريرية الجزائرية، في إطار سلسلة الندوات التاريخية، التي تنظّمها المكتبة الوطنية «الحامة» خلال شهر رمضان.
أكد المحاضر، أنّ الثورة لم تكن مجرد صراع مسلح ضد الاستعمار الفرنسي، بل كانت مشروعًا حضاريًا شاملاً يحمل مبادئ سامية، مما جعلها في مصاف كبرى الثورات العالمية.
استهلّ الدكتور مولود ڨرين حديثه بالإشارة إلى أن الثورة الجزائرية كانت ذات طابع إسلامي واضح، حيث استمدّت مبادئها من تعاليم الدين الحنيف، وهو ما يتجلى في بيان أول نوفمبر، الذي نصّ على أن هدف الثورة هو استعادة السيادة الوطنية في إطار المبادئ الإسلامية.
وقال ڨرين، أنّ هذا التوجه لم يكن وليد الصدفة، بل كان انعكاسا للمرجعية الفكرية للنخبة الثورية التي تشبّعت بالقيم الإسلامية من خلال المدارس القرآنية، والمدارس العربية الحرة، والكشافة الإسلامية.
وقد كان 18 عضوًا من مجموعة الـ 22 التاريخية من خريجي مدارس الكشافة الإسلامية، ومن بينهم العربي بن مهيدي وديدوش مراد، كما أن العديد من قادة الولايات خلال الثورة كانوا من خريجي هذه المدارس.
استعرض المحاضر، الوثائق الأرشيفية التي تؤكّد أن الدعوة إلى الجهاد انطلقت من المساجد، وأشار إلى تقرير للشرطة الفرنسية وثّق خطبة الجمعة يوم 18 جانفي 1957 في مسجد «سانت أوجان»، حيث دعا الإمام إلى الجهاد، مؤكّدًا أنه واجب شرعي، وأن الفرار منه يعد من الكبائر.
أما على مستوى الميدان، يقول ڨرين «فقد ظهر هذا البعد الإسلامي في ممارسات جيش التحرير الوطني، بدءا من استخدام «عقبة» و»خالد» ككلمات سر ليلة أول نوفمبر، وإعلان بداية المعركة بهتاف «الله أكبر»، على غرار معارك النبي ﷺ. كما كان المجاهدون حريصين على أداء الصلوات وصيام رمضان، ولم يتهاونوا في معاقبة من يخالف تعاليم الدين».
قيم الإنسانية كرّستها الثّورة
وذكر المتحدث، أنّ القيم الروحية لم تقتصر على الثورة الجزائرية، بل تجسّدت فيها أيضا مبادئ إنسانية سامية جعلتها نموذجًا يُحتذى به.
وأكد أن الكفاح المسلح لم يكن هدفًا في حد ذاته، بل كان وسيلة اضطرارية بعد فشل كل المساعي السياسية لتحقيق الاستقلال. وقد عبّر بيان أول نوفمبر بوضوح عن استعداد جبهة التحرير الوطني للتفاوض لحل الأزمة، مما يعكس توجهها السلمي.
وأشار الدكتور مولود ڨرين، إلى تصريحات القادة الثوريين، ومنهم العربي بن مهيدي، الذي كتب في العدد الثاني من جريدة «المجاهد»: «الشعب الجزائري يحمل السلاح مرة أخرى لطرد المحتل الاستعماري، وليؤسس لنفسه جمهورية ديمقراطية اجتماعية، تضمن السلام في المغرب العربي…إن الأمة الجزائرية تحت قيادة جيش التحرير الوطني ستواصل زحفها المنتصر نحو الاستقلال الوطني، وستبدد الاستعمار الرجعي إلى الأبد، محققة انتصار الحريات الإنسانية».
وأوضح المتحدث، أنّ الثورة الجزائرية قامت على مبدأ التسامح والتعايش بين جميع مكونات المجتمع، بغض النظر عن الدين أو العرق، وهو ما أكده بيان أول نوفمبر وميثاق مؤتمر الصومام، حيث ضمنا حقوق جميع المواطنين دون تمييز.
وشدّد على أن جبهة التحرير الوطني التزمت بحماية الأقليات الأوروبية بعد الاستقلال، وأكدت مرارًا أن كفاحها لم يكن موجّهًا ضد الديانات الأخرى. بل إن الجبهة أرسلت رسالة إلى الأقلية اليهودية في الجزائر، جاء فيها: «إن جبهة التحرير الوطني، بصفتها الممثل الحقيقي الوحيد للشعب الجزائري، ترى أنه من واجبها التوجّه مباشرة إلى جماعة الإسرائيليين لتطلب منهم أن يصرّحوا علنًا بانتمائهم إلى الأمة الجزائرية…لقد كانت الجزائر مأوى لجميع اليهود وأرض حرية يفرّون إليها من القمع والاضطهاد الديني».
ومن المبادئ الراسخة في الثورة الجزائرية – بحسب مولود ڨرين – مبدأ الأخوة والتضامن، حيث نصّ البند التاسع من المبادئ العشر لجيش التحرير الوطني على ضرورة تعزيز روح التضحية والعمل الجماعي بين المجاهدين، أشار إلى أنها حرصت على تقديم الخدمات للمدنيين، مثل الرعاية الصحية المجانية عبر مصالح الصحة التابعة للثورة، والتعليم في المدارس العربية الحرة التي أشرفت عليها.
وأكد الدكتور ڨرين، أنّ جبهة التحرير الوطني التزمت بالقوانين الدولية للحرب، خاصة معاهدة جنيف لعام 1949، من خلال معاملة المدنيين والأسرى بطريقة إنسانية، مشيرا إلى شهادة الصحفي الفرنسي الذي قضى 50 يومًا مع المجاهدين، حيث ذكر أن قادة جيش التحرير كانوا يحرصون على إبعاد المدنيين قبل أي هجوم، وقال: «سمعت من أفواه العديد من الجنود أن قائد وحدتهم أمرهم في بعض الكمائن بإيقاف إطلاق النار، عندما شاهد سيارة مدنية وسط القافلة العسكرية، وصاح فيهم: لا ترموا المدنيين!».
أما فيما يخص الأسرى، فقد أكّد المحاضر أن جيش التحرير عاملهم معاملة إنسانية راقية، بشهادة الأسرى أنفسهم، مثل الجندي الفرنسي «جاكوب جان»، الذي قال «لقد خجلنا من أنفسنا، نحن الذين ندّعي أننا جيش نظامي، بينما لا نتورع عن تعذيب الأهالي والتنكيل بهم. أما الجزائريون، فقد علّمونا درسًا كبيرًا في الأخلاق».
واختتم الدكتور ڨرين محاضرته، بالتأكيد على أن هذه القيم الإنسانية الراقية التي تميّزت بها الثورة الجزائرية جذبت العديد من المثقفين الفرنسيين ورجال الدين المسيحيين إلى صفها، حيث ساندها العديد منهم، ومن أبرزهم: روني كابيتون (أستاذ الحقوق بجامعة الجزائر)، الذي تأثر بمقتل الطالب الجزائري علي بومنجل عام 1958. وفرانز فانون (الطبيب والمثقف)، الذي انضم إلى الثورة عام 1957 وقدم لها دعمًا كبيرًا. بالإضافة إلى فرانسيس جانسون وزوجته كوليت جانسون، اللذان نشرا كتاب «الجزائر خارج القانون»، مما أحدث ضجة كبيرة في فرنسا وأوروبا.
وأضاف، “أما رجال الدين فقد برز من بينهم الكاردينال دو فال، الذي أرسل رسالة إلى أساقفة الجزائر في 20 جانفي 1955، دعاهم فيها إلى التنديد بجرائم الإبادة التي تمارسها السلطات الفرنسية ضد الجزائريين، حيث كتب «نحن لسنا عميانًا ولا صمًّا ولا منكمشين داخل كنائسنا، بل نعرف كل ما يجري. الكثير من جنودنا يأتون للاعتراف، ويحكون لنا عن الأشخاص الذين يعذبونهم، والنساء اللاتي يهتكون أعراضهن…!».