وقف إطلاق النار.. عيد النصر الموافق لـ 19 مارس 1962..هذا اليوم طوى صفحة مظلمة من تاريخ الجزائر، وفتح الآفاق أمام الجزائريين لاسترجاع السيادة الوطنية.
دحلب: يوم تاريخي وانتصار للدّيمقراطية بن خدة: الوفد المفاوض كان في مستوى مجاهدي جيش التّحرير
سبع سنوات من الكفاح المسلح في الجبال والعمل الفدائي في المدن والدبلوماسية الثورية في الخارج تُوّجت باسترجاع السيادة الوطنية التي لم تسترد بالسهولة، دفع ثمنها الملايين من الشهداء، سقت دماءهم أرض الجزائر الطاهرة.
يقول سعد دحلب عن 19 مارس 1962، وهو أحد المشاركين في المفاوضات: إنه نهاية العهد الاستعماري، وبداية عهد الانعتاق، وانتصار الديمقراطية..إنه دخول الجزائر الرسمي في مجموع الدول الحرة المستقلة، وتدشين سياسة السلم والمحبة والتعاون الدولي، لهذا يجب علينا الاحتفال بيوم 19 مارس 1962 كيوم تاريخي من الأيام التاريخية الكبرى”.
في هذا الصدد، يوضح الدكتور بشير سعدوني في مقال نشر بمجلة آفاق للعلوم بجامعة الجلفة بعنوان “اتفاقيات ايفيان 18 مارس 1962، وردود الفعل المختلفة حولها”، حول الظروف التي سبقت اتفاقيات ايفيان، أنه عند انطلاق الثورة الجزائرية حدد بيان أول نوفمبر 1954، أهدافها، وهي إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن المبادئ الإسلامية واحترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني، كما اقترح على السلطات الفرنسية وثيقة تكون قاعدة لأي تفاهم بين الطرفين تتضمن المبادئ التالية:
«الإعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية ورسمية ملغية كل الأقاويل والقرارات والقوانين، التي تجعل من الجزائر أرضا فرنسية رغم التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات والتقاليد للشعب الجزائري، فتح مفاوضات مع الممثلين المفوضين من طرف الشعب الجزائري على أسس الاعتراف بالسيادة الجزائرية وحدة لا تتجزأ، خلق جو من الثقة بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ورفع كل الإجراءات الخاصة وايقاف كل مطاردة ضد القوات المكافحة”.
في المقابل، “نصّ على احترام المصالح الفرنسية المتحصل عليها وكذلك الأمر بالنسبة للأسخاص والعائلات، كما خيّر الفرنسيين الذين يرغبون في البقاء بالجزائر بأن يكون لهم الإختيار بين جنسيتهم الأصلية، ويعتبرون بذلك كأجانب تجاه القوانين السارية او يختارون الجنسية الجزائرية، وفي هذه الحالة يعتبرون كجزائريين بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات”.
”الصومام” حدّد شروط توقيف القتال
ويضيف الدكتور سعدوني: “هذه المبادئ أكّدتها وثيقة الصومام، التي حددت الشروط الأساسية لوقف إطلاق النار كما يلي، الإعتراف بالشعب الجزائري شعب واحد لا يتجزأ، وهذا الشرط ينفي الوهم الاستعماري “جزائر فرنسية”، الاعتراف باستقلال الجزائر وسيادتها في جميع الميادين بما فيها الدفاع الوطني والدبلوماسية، الإفراج عن جميع الجزائريين والجزائريات الأسرى والمعتقلين والمنفيين بسبب نشاطهم الوطني قبل وبعد اندلاع الثورة في الفاتح نوفمبر 1954”.
وأيضا: “الاعتراف بجبهة التحرير الوطني بصفتها الهيئة الوحيدة التي تمثل الشعب الجزائري، وأنها وحدها الكفيلة بإجراء أي مفاوضة، لكن السلطات الفرنسية كانت ترفض ذلك جملة وتفصيلا، وترى بأن الجزائر هي فرنسا من فلاندر إلى الكونغو، هناك قانون واحد ومجلس نيابي واحد، وبذلك فهي أمة واحدة بل كان مسؤولوها يتحدون كل الداعين للمفاوضات بالقول: “إن المفاوضات الوحيدة هي الحرب”.
يوضح الدكتور سعيدوني أنه “حين تأكّد الفرنسيون وفي مقدمتهم شارل ديغول، أن استمرار المواجهة المسلحة بات خطرا ليس فقط على اقتصاد فرنسا وسمعتها الدولية بل أيضا على تماسك شعبها ووحدته، إضافة إلى أن الشعب الجزائري كان مساندا لجبهة التحرير الوطني وهو مصمم على مواصلة الثورة مهما كلفه ذلك من تضحيات، شرع ديغول في الحديث عن المفاوضات وتقرير مصير الجزائريين وفق الرؤية الفرنسية، فأدلى بتصريح يوم 26 سبتمبر 1959، اعترف فيه بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم”.
وأشار المؤرخ إلى “أنّ ديغول لم يكن جادا في إجراء مفاوضات حقيقية تقود إلى استقلال الجزائر، فلم يؤد التصريح إلى أي نتيجة بسبب التصرفات الفرنسية والشروط التعجيزية التي أراد الفرنسيون فرضها على الوفد الجزائري المفاوض”.
تلت ذلك محاولات عديدة فاشلة للتفاهم إلى أن عاد ديغول، فصرح في 14 جوان 1960 قائلا: “إنّي أتوجّه باسم فرنسا إلى قادة المفاوضات، أعلن لهم أننا ننتظرهم هنا لكي نجد معهم حلا مشرفا للمعارك، التي ما تزال جارية وتفصل في مصير الأسلحة وتضمن امال المحاربين، ثم بعد ذلك سيعمل كل شيء لكي يقول الشعب الجزائري كلمته في هدوء، ولن يكون هناك قرار إلا قراره”.
فأجابته الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بقبولها العرض، وانطلقت جولات عديدة من المفاوضات من جديد تارة علنية وأخرى سرية تعرضت في العديد من المرات للتوقف بسبب العراقيل الفرنسية والشروط التعجيزية كمسألة الحكم الذاتي والدائرة المستديرة وفصل الصحراء عن الشمال، يوضح الدكتور سعدوني.
غير أن الصعوبة الكبيرة – يقول لخضر بن طوبال – هي أنهم اشترطوا علينا وضع قوانين تخضع هذه المدن الكبرى الجزائرية للجالية الفرنسية، هذه القوانين وضعها لويس جوكس، في ندوة صحفية عقدها في 8 ماي 1961، أعلن فيها أن الأقلية الأوروبية في الجزائر يجب أن توفر لها ضمانات داخلية وخارجية، ففي الميدان الداخلي يجب أن تكون لها ضمانات دستورية وقانونية تحفظ لها شخصيتها، وهذا يعني أن دولة الجزائر المقبلة يجب أن تكون ذات طوائف عديدة، وفي الخارج يجب أن توفر لها حقوق الأقليات الأجنبية حسب القوانين الدولية، بحسب شهادة بن طوبال.
وفي هذا الصدد، يشير الباحث في تاريخ الجزائر، إلى أنه “أمام رفض الجزائريين لأغلب تلك الشروط والتفافهم حول جبهة التحرير الوطني، والتعبير عن هذا الرفض بمختلف الوسائل خاصة مظاهرات 11ديسمبر 1960، ومظاهرات 17 أكتوبر 1961، ومظاهرات 1 نوفمبر 1961، ومظاهرات 27 فبراير 1962، إضافة إلى الضربات الموجعة، التي واصل جيش التحرير الوطني توجيهها للفرنسيين وإفلاس خزينتهم”.
«كل ذلك دفع قادة فرنسا إلى التسليم بالأمر الواقع فانطلقت مفاوضات جديدة بإيفيان من 7 إلى 18 مارس 1962، توجت بإبرام اتفاقيات ايفيان ودخول وقف إطلاق النار حيز التطبيق في كافة أنحاء الجزائر ابتداء من يوم 19 مارس 1962”.
وأكد الدكتور سعدوني “إن اتفاقيات ايفيان قلبت وجهة الطرف الفرنسي فبعد أن كان يصف المطالبين بالاستقلال بالهمجيين والمشاغبين ومثيري القلق، نجده يسلم باستقلال الجزائر وبسيادتها في الداخل والخارج، وجنبت البلاد الانقسام بإنشاء مناطق تحت السيادة الفرنسية في الأراضي الجزائرية، كما كان يصر على ذلك الوفد الفرنسي”.
وأضاف: “مضمون الاتفاقيات جاء مطابقا لمبادئ الثورة وهي استقلال الجزائر، الوحدة الترابية، الاعتراف بوحدة الشعب الجزائري، الاعتراف بالحكومة المؤقتة كممثل وحيد للشعب الجزائري”.
نهاية المأساة
يصف المجاهد ورئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بن يوسف بن خدة، اتفاقيات ايفيان بأنها مسك الختام، فهي التي أنهت الحرب بين الجزائر وفرنسا وجاءت بعد مفاوضات طويلة وشاقة، أثمرت استرجاع السيادة الوطنية.
يقول بن خدة: “إنه لنصر عظيم حصل عليه الشعب الجزائري بعد احتلال دام 132 سنة”. يؤكد بن خدة في كتابه “نهاية حرب التحرير، اتفاقيات ايفيان”: “لقد بذلت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الساهرة على سيادة الشعب الجزائري المكافح جميع ما في وسعها لتحقيق الأهداف الأساسية، التي حددها بيان أول نوفمبر 1954، ولإرسائها على طاولة المفاوضات حتى تكون نتائج ايفيان في نهاية الأمر مساوية لتضحيات شعب بأكمله، وتكون قد استجابت لأمانيه الغالية، هذا ما سجله أكثر من عشرين سنة من التنمية المستقلة والسيادة الكاملة، التي لا يعروها إلتباس”.
وأضاف: “إن قوة الثورة الجزائرية لا تتمثل في إرغام الفرنسيين على التفاوض فحسب؛ بل لأنها أبدعت على مر السنين روحا وسلوكا خاصين بها كان أساس انتصار إيفيان، إن الثورة الجزائرية كانت ثورة راشدة تعبر عن المستوى الرفيع الذي وصلت إليه الجماهير، وحين فرضت نفسها مفاوضا مستقلا”.
وأشار بن يوسف بن خدة إلى أن جبهة التحرير الوطني لم تشرك أي حكومة مهما كانت قريبة منها في مفاوضاتها مع فرنسا، وقال: “بهذا الإنجاز بقيت سيدة نفسها مالكة زمام أمرها حتى بلغت بها نهايتها بعيدة عن أي تدخل خارجي، ومن دون أن تطلب أدنى مساعدة في وضع قراراتها وإعداد ملفاتها”.
سلّط بن خدة الضوء في كتابه على بعض المراحل الحاسمة في مفاوضات ايفيان، ووضعها في إطارها السياسي القائم آنذاك، وأبرز شجاعة الوفد الجزائري المفاوض، الذين أثبتوا أنهم كانوا في مستوى مجاهدي جيش التحرير الوطني ومناضلي المنظمة السياسية لجبهة التحرير وكل أفراد الشعب الجزائري، وعرفوا كيف يعبرون بصدق عن إرادة المجلس الوطني للثورة الجزائرية والحكومة المؤقتة، قال بن خدة.
وتطرّق المؤلف إلى سير المفاوضات منذ بدايتها، ولقاءات ممثلي جبهة التحرير الوطني الأولية مع ممثلي الحكومة الفرنسية، والتي كانت عبارة عن جس النبض وكانت المواقف فيها متباعدة بين الطرفين، ثم فشل اتصالات مولان 25-29 جوان 1960.
ويشير بن يوسف بن خدة، إلى “أن قضية السيادة على الصحراء الجزائرية مثلت أساس الخلاف بين المفاوضين الجزائري والفرنسي منذ الاتصالات الأولى، وهي القضية التي تسببت في فشل اللقاءين المواليين في ايفيان خلال الفترة الممتدة من 20 مارس إلى 13 جوان 1961، ولوغران من 20 إلى 28 جويلية 1961، على الرغم من دور الوساطة المهم الذي قام به أوليفي لانغ، الدبلوماسي السويسري بمعية الطيب بولحروف ممثل جبهة التحرير الوطني في مدينة روما الإيطالية، يضيف المجاهد. ويؤكّد بن خدة: “إن تصورنا الصارم للسيادة الوطنية جعلنا نرفض كل ما يشكّل خطرا محتملا على وحدة الأمة والتراب، وبرفضنا إسناد الجنسية الجزائرية تلقائيا إلى مليون أوروبي أبعدنا خطر الوصول إلى جزائر ثنائية الرأس، يتسرب إليها وضع يكون أسوء حالا من الوضع القائم في قبرص وفي لبنان، وقد أبعدنا نهائيا هذا الخطر وأنجينا الأجيال المقبلة من الصراع بين مجموعتين لهما ثقافات مختلفة ونمط اجتماعي متباين”.