أبرز الشّيخ محمّد المأمون القاسميّ الحسنيّ، عميد جامع الجزائر ، حقيقة التصوّف الإسلاميّ، الذي يتحقق به مقام الإحسان في الإسلام، وبمنهجه تتحقّق الحياة الإسلامية المتوازنة المتكاملة؛ وترتبط الحياة الرّوحيّة بالحياة الاجتماعية؛ ومن مقاصد رسالته تزكية النفس البشرية؛ كواحدة من أهمّ شعب الرّسالة المحمّدية، بحسب بيان لعمادة جامع الجزائر.
جاء ذلك في محاضرة ألقاها الشيخ القاسميّ، في ختام الطبعة السابعة عشرة لسلسة الدروس المحمّدية بمقرّ الزاوية البلقائدية في وهران، حيث أكّد أنّ من معاني الإحسان في منظومة القيم الرّوحيّة في الإسلام، الإحسانُ إلى جميع خلق الله، دون النظر إلى جنس أو لغة أو دين، مضيفا أنّ الإسلام هو أعظم دين أغنى الحياة الرّوحية. والتصوّف الإسلاميّ، في مدرسته الأصيلة، هو حياة روحية صافية، توازن بين مطالب الجسد ومطالب الرّوح.
وقمّة الحياة الرّوحية تتجلّى في سيرة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، المثل الكامل للسّموّ الرّوحيّ، والعظمة الأخلاقية، والترقّي في مدارج الكمالات الإنسانية.
وأبرز الشّيخ فضائل التّربية الرّوحية الّتي تجعل المسلم يعيش داخل مجتمعه، يحمل ضميرا حيّا، وسلوكا سويًّا؛ يحرص على كمال عبادته وصّحتها؛ ويدرك أنّ كلّ عمل لترقية حياة الأمّة المعنوية والمادّية هو من صميم عبادة الله تعالى.
أما عن الزهد الإسلامي في مدرسة التصوّف، فقد لفت الشّيخ القاسمي النظر إلى أقوام يخطئون في فهم حقيقته؛ فيظنّون أنّه تركٌ للأسباب، وانعزال عن النّاس، واعتزال للحياة، وعزوف عن الكسب؛ ويُهيَّأُ لهم أنّ من سمات “المتصوّفة” اللباسَ الرثّ أو الخشن، والإعراض عن زينة الحياة، والطيّبات من الرزق.
وقال العميد إنّ التصوّف الحقيقي حركة في الحياة؛ وليس تركًا للسّبب، أو قعودًا عن العمل واعتزالا للحياة؛ بل هو انطلاق في الحياة، بقلوب مطمئنّة، وعقول مستنيرة، موضّحا: “لو أنّ كلّ فرد في المجتمع المسلم نظر إلى عمله هذه النظرة، وأدّى واجبه، على خير وجه مستطاع، لما شكت الأمّة ضعفا، ولا عرفت هوانا أو تخلّفًا”.
وأشار إلى حاجة الإنسان إلى البعد الرّوحيى، ليعود إليه توازنه، ويحقق عبوديته لله، مذكّرا بأنّ مطلق الإنسان هو الهدف، في منظومة قيمنا الرّوحية والحضارية، الزاخرة بمقوّمات التجانس والانسجام والتكامل.
وهذا البعد الإنساني، بمعناه الصحيح الشّامل؛ هو الّذي افتقدته الحضارات القديمة، وتفتقده الحضارة المادّية المعاصرة، الّتي حقّقت بلا ريب التقدّم العلميّ، والرفاه الماديّ، ولكنّها تجاهلت روح الإنسان وقلبه ووجدانه، وهي توشك أن تنحدر إلى الهاوية، حيث راحت تقدّم للإنسان الشهوات البهيمية، بدعوى الحرية الشخصية؛ وقد رأينا بلدانا غربية كيف راحت تقنّن للشذوذ، وتشرّع للانحراف. وهكذا ساد مجتمعاتِها قلقٌ نكَّد على النّاس الحياة؛ وما فتئت صيحات العقلاء تتعالى، من هنا وهناك، منذرة بسوء مصير البشرية، في ظلّ الحضارة المادّية.
ولإيجاد حلول لإصلاح مجتمعاتنا، بل وإصلاح العالم من حولنا، وإنقاذه من المظالم الّتي طغت على شعوبه، وإشاعة روح التسامح والتعاون في مجتمعاته. أفاد الشّيخ القاسميّ أنّ للأمّة الإسلاميّة كتاب الله، القرآن الذي يهدي إلى أقوّم طريق، وأهدى سبيل؛ وهي تمتلك أعظمَ ذخيرة من القيم الروحية والخلقية والعلمية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية؛ فإذا هي أفادت منها أمكنها تقويم المسار، وإيجاد الحلول للخروج من مختلف الأزمات.
وفي ختام المحاضرة، وجه عميد جامع الجزائر جملة من التوصيات، إلى المهتمّين بالبحث في مجال التصوّف، وإلى الدعاة لرسالته، والقائمين على مدرسته ومؤسّساته؛ ولخّصها في الآتي:
أوّلا. البيان لطالب الحقيقة:
• أنّ التصوّف في حقيقته عقيدة وإيمان، وعلم وعمل، وتربية ودعوة، وأدب ومحبّة، وعبادة ورياضة، وسلوك عملي إلى رحاب الأسرار والأنوار، على معارج المراقبة والمجاهدة للنفس وأهوائها، وتطهيرها من أدرانها وغلوائها.
• أنّ الطريقة الصوفية هي الجمع بين الشريعة والحقيقة، أي بين الإسلام والإيمان؛ فهي مقام الإحسان؛ وأنّ الحقيقة بلا شريعة باطلة، والشريعة بلا حقيقة عاطلة. والطّرائق، وإن تعدّدت أذكارها، واختلفت أورادها، فقد اتّحدت مساعيها ومقاصدها. فهي في حقيقتها متّحدة، مصدرها واحد، وكلّها تنهل من معين واحد؛ وأصلها مرتبة الإحسان.
• أنّ مدرسة التصوّف الإسلاميّ مصدرها القرآن، وهدي من تنزّل عليه القرآن؛ وعمادها العلم والمعرفة؛ ونهجها سلوك الطريق باستقامة واعتدال. ولا ينبغي، بحال من الأحوال، أن نسوّيها، بنظريات أو ممارسات، مهما تكن مصادرها أو أصولها أو مواطنها، من هنا أو هناك.
ثانيا: العمل لنفي كلّ مدسوس أو دخيل على التصوّف الإسلاميّ الأصيل؛ والكشفُ عن الجاهلين والمبطلين من أدعيائه؛ والردّ بالدليل على خصومه وأعدائه.
ثالثا: الردّ على المزاعم بأنّ التصوّف نقطة جامعة لكلّ المشارب والمذاهب والمعتقدات؛ ومن ثمّ مختلف الممارسات. وكذلك المظاهر الوثنية، على شذوذها وانحرافاتها، واختلاف مواطنها.
رابعا: تفنيد النظرية القائلة بأنّ التصوّف ظاهرة اجتماعية مشتركة، تنسحب على كافّة المجتمعات، بتنوّعها وتعدّدها؛ فذلك من شأنه أن يميّع التصوّف الإسلاميّ، ويفرغه من محتواه، وينزله في غير منزلته، وينأى به عن مرجعيته ومفهومه الصّحيح؛ ويجعله مجرّد “طقوس”، كما يقال، تتشكّل من مفاهيم المجتمعات وممارساتها المختلفة.
خامسا: رفض الدعاوى الباطلة، كفكرة وحدة الأديان المزعومة، على سبيل المثال؛ وكذا خرافة “البيت الإبراهيمي”، وأوهام “المشروع الإبراهيمي”.