عرفت بلادنا مفهوم الأمن الغذائي منذ السنوات الأولى للاستقلال، كان الانشغال الأكبر هو المحافظة على هذا الاستقلال الثمين والحرص على تكملته بالسيادة الغذائية، التي أصبحت تمثل تحديا هاما ومحوريا يحمل في طياته رهانات معتبرة على المستويات السياسية، الأمنية، الاقتصادية وعلى مستوى التنمية بالمفهوم العام.
بقلم عبدلي محمد أمقران
خبير في مرافقة المشاريع التنموية والإنسانية
أدت التغيرات الكبرى في العلاقات الدولية، واللاتوازن الظاهر للعيان في استغلال وتوزيع الثروات، الى ظهور بؤر توتر، الحرب الروسية في أوكرانيا، ديمومة اختلال توازن القوى على مستوى الحكامة العالمية، حدود واختلالات نظام الأمم المتحدة.. كلها عوامل سيكون لها أثر هام على كل مبادرة وطنية أو إقليمية ترمي إلى وضع أسس نظام يقظة استراتيجي خاص بالتغذية وبآليات الأمن الغذائي في إطار أهداف التنمية المستدامة.
في إطار هذه المساهمة، سأتطرق بشيء من الشرح والتحليل لرهانات الأمن الغذائي، وعلاقته بمفاهيم أخرى ومحاولة حصر تطور المفهوم، آخذا بعين الاعتبار التغيرات الحاصلة على مستوى العلاقات الدولية، بفضل جهود الدول ومجموعات البحث والتفكير والمجتمع المدني من خلال النضالات التي ستسمح للشعوب قاطبة من الاستفادة والولوج الدائم للثروات الطبيعية وإلى نظام غذائي صحي وكاف.
أولت الدولة الجزائرية منذ الاستقلال أهمية بالغة لمسألة التغذية، هذه الأهمية على علاقة وطيدة بهدف توطيد دعامات الدولة الحديثة والمضي في تحقيق السلم والانسجام الاجتماعي، بما يخدم التأسيس لحكامه تشاركيه ومشاركة المواطنين ودعمهم لسياسات الدولة في القطاع الفلاحي خاصة. نُذكّر هنا بأن الفلاحة تتموقع في قلب الأمن الغذائي.
أدعوكم هنا إلى فهم العلاقة الترابطية بين مختلف المفاهيم المتصلة بموضوعنا الأمن الغذائي، السيادة الغذائية، اللاأمن الغذائي، الاكتفاء الذاتي الغذائي وكل هذه المفاهيم تلتقي، أو قاسمها المشترك هي التغذية وتحقيق حكامه راشدة للموارد الطبيعية.
إن الأزمات، الحروب، المظاهرات والانتفاضات ضد الجوع التي يمكن أن نستشفها من التاريخ السياسي والاجتماعي لدول الجنوب هي محصلة أزمات غذائية مهمة. إن تحليل الفعل التاريخي المتعلق بموضوع التغذية سيسمح لنا بالقول إن مسألة التغذية والفلاحة يجب أن تكون “مسألة دولة” وشغلها الشاغل.
مفاهيم
إن الأمن الغذائي يكون عندما يتمكن كل الأفراد أو كل الناس، وفي كل وقت من الحصول بطريقة مادية أو اقتصادية على غذاء كاف صحي ومغذ يسمح لهم بتغطية احتياجاتهم الطاقوية واختياراتهم الغذائية، وهذا من أجل ضمان حياة صحية وعملية. “القمة العالمية للتغذية، منظمة الزراعة العالمية، 1996”.
إن تحليل هذا التعريف بإسقاطه على الواقع الجزائري سيؤدي بالقارئ إلى فهم إشكالية الأمن الغذائي وعلاقتها بإشكاليات القطاع الفلاحي
يرتبط الأمن الغذائي ارتباطا وثيقا بالفلاحة المستدامة وأنظمة التضامن التي أقرتها الدولة من أجل الذهاب نحو مقاربة عقلانية للاحتياجات والتشخيص الميداني للأقاليم المرتبطة مباشرة بالفلاحين.
السيادة الغذائية مفهوم آخر مرتبط بالأمن الغذائي، الذي يبقى على صلة بالأوجه السياسية للحكامة، بمعنى آخر، تمثل السيادة الغذائية البُعد السياسي للأمن الغذائي.
هذه السيادة تعكس حق الدول في الامتلاك الحر لسياسة فلاحيه وسياسة غذائية على صلة بأهداف التنمية التي أقرتها الدولة على المستوى الوطني وإستراتجيتها في المضي نحو مقاربة الرفاه، تصدير المنتوجات الفلاحية الذي يبقى أحد مؤشرات فعالية القطاع الفلاحي.
من زاوية أخرى، الأمن الغذائي على علاقة كذلك بالكفاية الغذائية على المستوى الوطني، عن طريق الوفرة الكمية والنوعية للمنتجات الغذائية وإمكانية حصول المواطنين على مختلف المنتوجات، بحسب الميولات الاستهلاكية والقدرة الشرائية.
رهانات وجهود
يشمل الأمن الغذائي في الجزائر مجمل التحديات والرهانات المرتبطة بموقع الجزائر في عالم يتميز بتغيرات سريعة وذات أثر عميق على أكثر من صعيد. تكتسي مسألة التغذية دورا أساسيا ومحوريا على مستوى كل السياسات، البرامج والمخططات الفلاحية. إن هدف الأمن الغذائي والسيادة الغذائية واضح جدا على مستوى كل مخططات وبرامج القطاع الفلاحي والتنمية الريفية. منذ المخطط الرباعي 1970-73، الأهداف الأساسية لقانون التوجيه الفلاحي 2008، (الحاجة لتحسين مستوى الأمن الغذائي عن طريق الإنتاج الفلاحي)، المخطط الوطني للتنمية الفلاحية لـ2001، المخطط الخماسي 2010-2014، البرنامج الوطني للبحث حول الأمن الغذائي.. كلها أمثلة للأهمية الكبيرة، التي توليها الدولة الجزائرية لهذه المسألة، والتي تنمُّ عن فهم لتحديات ورهانات التنمية أثناء إعداد السياسات العامة، المالية العامة، ومسارات اتخاذ القرار والحكامة.
يمكننا فهم أثر جهود الدولة الجزائرية من خلال البحث الحثيث والدائم للإلمام بتحديات ورهانات الأمن الغذائي.
التحدي السياسي
إن الارتباط بالأسواق العالمية للتموين، ولا استقرار البلدان الموردة على المستوى السياسي والجيو- سياسي، أثار الأزمة الاقتصادية، أزمة كوفيد19، كلُّها عوامل يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، أضف إلى ذلك هشاشة بعض الشعب من خلال العرض وشروط التخزين المتعلقة مثلا بشعبة مسحوق الحليب وشعبة الحبوب خاصة القمح، تغير المناخ، يمكنها أن تؤثر على العرض العالمي وقدرات البلد على الشراء. إذا كان اللجوء إلى الاستيراد يمكن أن نفهمه من خلال الحرص على تغطية الحاجيات، فمن الواجب هنا أن نؤكد على أن إحداث نهضة في قطاع الفلاحة والتحويل الغذائي أصبحت ضرورة ملحة.
إن استرداد وحماية الأراضي الفلاحية، الإحصاء الفلاحي، مرافقة الفلاحين الشباب.. كلها مراحل هامة للوصول إلى استقلال في العرض.
نُذكّر كذلك بأهمية سلاح الغذاء على المستوى الجيو- سياسي العالمي. هذا الخطر السياسي والأمني يحتم علينا المضي بروية نحو إحداث حالة توازن بين العرض الوطني واللجوء للأسواق العالمية.
رهان اقتصادي هام
إن تنمية قطاع الفلاحة ومؤسسات التحويل الغذائي من أجل تموين السوق الوطني من المواد الفلاحية، ستقود الى تقوية القدرات الإنتاجية لمؤسسات التحويل الغذائي عن طريق مكننة حديثة ومتطورة، والتحكم في تكنولوجيا الإنتاج والتحويل، تقوية قدرات الفلاحين عن طريق التكوين ومرافقة منتظمة من أجل الوصول لإنتاجية تغطي الطلب الوطني والتوجه نحو توازن العرض الوطني والقدرة الشرائية للعائلات.
تحدي ديمغرافي واجتماعي
سيصل تعداد السكان في الجزائر في غضون 2030 الى حوالي خمسين مليون ساكن.
إن ارتفاع نسبة السكان العاملة، ارتفاع الطلب على العمل، دينامية القطاع الفلاحي وتنشيط الأقاليم والفضاء الريفي على وجه الخصوص، تطرح إشكالية رفع التحدي على مستوى التشغيل لفئة الشباب خاصة والمرأة الريفية عن طريق تكثيف المقاولاتية الريفية والمؤسسات المصغرة وتشجيع نشاطات كالسياحة الريفية والأنشطة المدرة للمداخيل، الفلاحة الجبلية، تقوية المؤسسة العائلية المصغرة كل هذه الخطوات يجب أن تحظى بمرافقة ناجعة عن طريق نظام إدماج مهني عقلاني ومنظومة تكوين على صلة بالتشخيص المحلي والوطني.
تحدي تغير المناخ وحماية الموارد الطبيعية
إن حماية الموارد الطبيعية والموروث الجيني الوطني ضمن مرحلة تتسم بظاهرة تغير المناخ تمثل تحديا كبيرا للسلطات، ولكن في نفس الوقت تتطلب تشاوريه وطنية بين كل القطاعات.
تمثل الموارد الطبيعية مؤشرات مهمة لرفع وتيرة الإنتاج وإنتاجية العمل وجودة التربة. إن الخصوبة الطبيعية للأراضي يجب أن تكون محمية، أضف إلى ذلك إشكالية الماء والري وضرورة التوجه نحو نظام وطني خاص بقطاع الموارد المائية.
إن سياسة الدولة تتوجه نحو مقاربة ايكولوجية مسؤولة تأخذ بعين الاعتبار تنوع الموارد وأهمية المحافظة عليها على المستوى التنظيمي وعلى مستوى التشاور والتنسيق مع الشركاء الاقتصاديين والأكاديميين وفعاليات المجتمع المدني.
رفع هذا التحدي في حاجة لإدماج مقاربة فلاحيه إيكولوجية في مسارات الاستغلال والإنتاج وتثمين المعارف التقليدية للفلاحين، ومواصلة جهود الدولة من خلال تمويل برامج الدعم والتوجه نحو برامج كبرى تربط بين عدة اهتمامات وطنية أو قطاعات مثل المشاريع الكبرى المدمجة بين الموارد الطبيعية، النفقات العمومية وتغير المناخ.
توصيات من أجل أمن غذائي مستدام
إن رهانات الأمن الغذائي في الجزائر مهمة وتبقى معتبرة. جهود الدولة في هذا المجال جد معتبرة من خلال البرامج المتعددة للدعم، تشريعات مهمة لحماية وتثمين الموارد الطبيعية.
لرفع التحدي يجب مواصلة الجهود وعقلنتها والذهاب نحو مقاربة إستراتيجية مبنية على ما يلي:
- تشجيع الشعب الفلاحية الإستراتيجية بالنسبة للأمن الغذائي، مثل شعبة الحبوب وخاصة القمح، شعبة البطاطس، وشعبة الحليب.
- مواصلة الجهود من خلال تمويل البحث العلمي والفلاحي، بحسب الاحتياجات وأهداف مخططات وبرامج الأمن الغذائي.
- التوجه نحو إنشاء بنك البذور وإنشاء نظام وطني للإعلام والتنسيق بين مختلف القطاعات والهيئات المتدخلة (الفلاحة، السياحة، البيئة، الدفاع الوطني، الرقمنة، البحث العلمي).
- تثمين التنوع البيولوجي المحمي والتوجه نحو مقاربة إدماجية لتنشيط الفضاء الريفي وتشجيع الأنشطة المدرة للمداخيل عن طريق التوعية حول حماية الموارد الطبيعية التي تمثل قاعدة للأنشطة المدرة للمداخيل.
- العمل على الأنواع الموجودة على المستوى المحلي البطاطس، البصل، الثوم، الفلفل، عن طريق تحسين أنظمة الإنتاج، وتشجيع أنواع جديدة مثل الكينوا.
- مواصلة الجهود على مستوى تثمين الموروث الوطني لزيت الزيتون وشعبة التمور عن طريق قوانين تحمي مثل هذه الشعب وأنظمة تمويل موجهة.
- مواصلة الجهود المرتبطة بالتربية والتكوين والتحسيس حول أنظمة استهلاكية مرنة ومتنوعة.
- مواصلة الجهود لتسوية وضعيات العقار الفلاحي، الإحصاء الفلاحي، وتشجيع المقاولاتية في ميدان الفلاحة والتنمية الريفية .
- إعداد مخطط وطني للتكوين الفلاحي.