يرتقب أن يحل وزير العدل الفرنسي، جيرالد دارمانان، في الأيام القليلة المقبلة، بالجزائر، في زيارة تأتي ضمن سياق إعادة إحياء العلاقات الجزائرية- الفرنسية بعد أشهر من التوتر السياسي والدبلوماسي وتأتي عقب زيارة وزير الخارجية جان نويل بارو في 6 أفريل الجاري، والتي فتحت الباب لاستئناف الحوار الثنائي، ووضعت على الطاولة كل الملفات، بما فيها تلك «التي تثير الحرج»، حسب تعبير المسؤولين الفرنسيين.
تحمل الزيارة المرتقبة للوزير جيرالد دارمانان، في طياتها دلالات سياسية وقضائية عميقة، فهي تمثل اختباراً جدياً لمصداقية فرنسا في احترام تعهداتها، ومدى استعدادها للتعامل بنديّة واحترام مع المؤسسات الجزائرية، وفي مقدمتها السلطة القضائية.
كما تعد فرصة لإثبات مدى استعداد باريس للتعاون مع الجزائر في إطار مقتضيات مذكرة التعاون القضائي الموقعة سنة 2019، والتي دخلت حيّز التنفيذ منذ 2021، وتنص بوضوح على تسليم الأشخاص المتابعين أو المدانين من طرف سلطات البلدين.
وكان وزير الخارجية الفرنسي، قد أكد في تصريح له عقب استقباله من قبل رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، أكد لرئيس الجمهورية الزيارة المقبلة «لحافظ الأختام سيرافقها استئناف الحوار القضائي بين بلدينا»، مؤكدا أنه «لدينا الكثير من الرهانات في مجال التعاون، لاسيما شروط تنفيذ الإنابات القضائية بشأن الملفات الحساسة المتعلقة بالأملاك المكتسبة بطرق غير قانونية».
وقال بارو: «لقد تطرقت إلى ذلك، وستكون لوزير العدل الفرصة لتفصيل ذلك لاحقا، لاسيما الدعوة الموجهة من المصالح المكلفة بمكتب المدعي العام المالي الوطني إلى نظرائها الجزائريين من الجهات القضائية المختصة للتوجه إلى باريس لدراسة جميع الملفات».
انتظار جواب عملي
ولا تزال الجزائر تنتظر تجاوباً عملياً من السلطات الفرنسية مع ما يزيد عن مائة إنابة قضائية أصدرتها العدالة الجزائرية، في إطار قضايا الفساد الكبرى المرتبطة بالعهد السابق. من أبرز هذه القضايا، تلك المتعلقة بالوزير السابق للصناعة عبد السلام بوشوارب، المدان بخمس عقوبات نافذة تصل إلى عشرين سنة سجنا لكل واحدة منها، والذي رفضت باريس تسليمه في خطوة فهمت على أنها تعطيل مقصود للعدالة، وتشجيع ضمني للإفلات من العقاب.
علاوة على ذلك، تثير باريس غضب الجزائريين بإيوائها أفراداً ينتمون إلى جماعات مصنفة إرهابية في الجزائر، وعلى رأسها الحركة الانفصالية «الماك». والأمر لا يقتصر على مجرد خلاف قانوني، بل يقدم صورة محبطة عن ازدواجية في الخطاب الفرنسي تجاه مسألة الإرهاب، خاصة في ظل انكشاف ملامح عن استخدام هذه الورقة في مناورات سياسوية لم تعد خافية.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن استعادة الأموال المنهوبة والمهربة إلى الخارج، والتي تقدر بملايير الدولارات، تبقى مطلباً سيادياً للجزائر. وقد نجحت الجزائر في هذا الصدد، في تحقيق تقدم ملحوظ مع دول أخرى، منها إسبانيا وألمانيا، في تسليم متهمين أو استرجاع ممتلكات، كما في حالة استرجاع عدة فنادق باسم رجل أعمال جزائري محبوس في إطار قضايا فساد كبرى. لكن فرنسا، رغم كل النداءات، لم تُبْدِ إرادة سياسية حقيقية في التعاون في هذا الإطار.
في سياق متصل، يرى العديد من المراقبين أن هذه الزيارة لن تحلّ كل الإشكالات بين البلدين، لكنها قد تكون بداية لتصحيح مسار طويل من الانحرافات من الجانب الفرنسي. لاسيما وأن الثقة لا تُمنح مجاناً، بل تُبنى على أساس احترام الالتزامات والسيادة المتبادلة. وإذا أرادت باريس فعلاً علاقات قوية وسليمة مع الجزائر، فعليها أن تتوقف عن تجاهل القضاء الجزائري وممارسة ضغوطات عبر اليمين المتطرف والمتاجرة بقضايا الجالية، وأن تكفّ عن سياسة الانتقاء في التعامل مع قضايا حساسة تمس كيان الدولة الجزائرية.
الكرة الآن في ملعب باريس.. والجزائر ستتابع مخرجات هذه الزيارة المنتظرة، ليس فقط من منطلق استعادة حقوقها، وإنما كاختبار حقيقي لمآلات العلاقة المستقبلية بين بلدين تربطهما ذاكرة معقدة ومصالح متشابكة، لا يمكن أن تستقيم إلا تحت مظلة الاحترام المتبادل والعدالة المتوازنة. لاسيما وأن الجزائر، من خلال تصريحات رسمية متكررة، عبّرت عن استعدادها الكامل للتعاون مع العدالة الفرنسية، شريطة أن يتم ذلك في إطار الاتفاقيات الثنائية واحترام المسارات القانونية المتعارف عليها، سواء في ما يخص قضايا الجالية الجزائرية أو غيرها من الملفات ذات الطابع القضائي. كما شددت الجزائر على ضرورة تحييد العمل القضائي عن أي توظيف سياسي قد يُسيء إلى طبيعة العلاقة بين البلدين؛ ذلك أن الجزائر، بما تمثله من ثقل اقتصادي وسياسي واستراتيجي في المنطقة، لا يمكن أن تقبل إلا بعلاقات متوازنة ومبنية على مبدإ الندية مع شركائها وجيرانها.